استراحة بين الشوطين: ذكريات كرة القدم في الحرب الأهلية اللبنانية
لكن بالتوازي مع هذه الفورة، فإنّ ما يسجل عليها، أنّ هذا التراكم تحول أحيانا، وفي ظل العجالة في تدوين الماضي، إلى اشبه باليوميات الصحافية. فالرغبة في البوح وتدوين ما حدث، كان يجري على حساب السؤال حول كيفية الكتابة عن الماضي والذاكرة، وما إن كانت الكتابة عن الذاكرة مجرد تدوين لبعض الأحداث والصور الحياتية، أم أنها تحمل في المقابل فرصة لتطوير واكتشاف دروب أخرى في تدوين التاريخ الاجتماعي وتطوير الكتابة نفسها، سواء قبل الحرب أو خلالها؟
وما يسجل أيضا على بعض هذا النتاج، تورطه أحيانا في تدوين ذاكرة منحازة تجاه الماضي بالأخص. ونتيجة لذلك، ظهرت المدن العربية قبل الحرب، وكأنها مجرد سجون كبيرة، لا وجود فيها لناس يبدعون ويحبون ويفرحون ويسمعون الموسيقى ويمارسون لعبة كرة القدم. ظنا منهم أنهم من خلال خلقهم لمشهد عربي قاتم قبل الحرب، يبررون ويكتبون سردية حول ما جرى لاحقا. ولعل هذه الصورة هي التي اشتكى منها عالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب، في مقالة مهمة له بعنوان «دفاعا عن الكتابة في العلوم الاجتماعية» عندما تحدث عن فقدان العرب لـ»جمالية العلوم الاجتماعية». وهذه الجمالية، لا تهمل مشاهد العنف والاستبداد أو تنفيها، بل تبحث عن التقاط صور أوسع لهذه الأحداث، بدلا من التركيز على أخبار الجنود والمعارك والأيديولوجيات حسب. ويمكن أن تكون هذه الجمالية، في حالة الذاكرة، مدخلا آخر لتوسيع هذا الحقل، ليتجاوز جانب التوثيق حسب، وينشغل بالتقاط صور صغيرة من الحياة اليومية للماضي، ويعيد توظيفها في تكوين مشروع ذاكرة أوسع.
ذاكرة كرة القدم
ربما من بين المشاريع الكتابية الجديدة عن الذاكرة، والتي تعدّ مثالاً مهماً حول جمالية الكتابة عن الذاكرة، عمل الأكاديمي ولاعب الكرة اللبناني الأسبق فوزي يمين «استراحة بين شوطين: عن كرة القدم أثناء الحرب الأهلية اللبنانية» الصادر قبل أيام قليلة عن دار المتوسط للنشر. ولا تكمن أهمية وطرافة الكتاب فقط في اختيار كرة القدم كمدخل لكتابة ذاكرة لبنان خلال الحرب، بل في خطته الكتابية حول تدوين الماضي الذاتي.
لا يحاول المؤلف أن يورط الذاكرة في مشروع قصير أو ضيق عبر تتبع العلاقة فقط بين السياسة وعالم كرة القدم خلال الحرب الأهلية، بل نراه يمرر تمريرات جانبية ماهرة، لتجاوز خط دفاع القراءة الوظيفية، ليعبر بها نحو هدف أكثر إمتاعا. ولذلك يبدو مشروعه في الذاكرة مكونا من عدة طبقات. فهو لا يشن هجمات مرتدة سريعة على الماضي ليلتقط صورا سريعة، وإنما يحاول عبر تمريرات (نصوص) قصيرة، تشكيل صورة أوسع عن ذاكرة كرة القدم الطويلة اللبنانية (اقتبس من فرناند بروديل فكرة الماضي الطويل). وهذه الذاكرة الطويلة لا تنشغل فقط بملاحقة أيادي السياسة في عالم كرة القدم، كما فعل إدوارد غاليانو في كتابه «كرة القدم في الشمس والظل» بل تسعى للحفر في التاريخ لليومي للذات والجماعة اللبنانية مع كرة القدم، ثم تعود لاحقا لترصد دور السياسة في تغيير هذه اليوميات.
طبقة أولى: الطفولة وكرة القدم
يلتقط المؤلف صوراً بسيطة وغنية في آن واحد، عن واقع كرة القدم في فترة السبعينيات في لبنان. أولى الصور ستأخذنا إلى حارة ضيقة يلعب فيها الأطفال بسراويل رياضية كانوا يشترونها من محل أحد لاعبي كرة القدم السابقين. ففي الغالب كانت هذه المهنة تدار من قبل مهتمين بتاريخ كرة القدم أو الرياضات عموما، أو قد يديرها أستاذ تربية رياضية يسعى لتحسين دخله بعد دوام المدرسة.
في الصورة الثانية نرى عائلة تتابع مباراة لكرة القدم؛ يجلس البعض على الكنبة، بينما يتمدّد الأطفال في الغالب على سجادة البيت، والأب يتابع الكرة بشكل عصبي، وكل ذلك يجري أمام قناة تلفزيونية أجنبية تنقل المباراة دون أن يفهموا لغة المعلّق.
وفي مشهد آخر، نعثر على صور لاعبي كرة القدم التي حصل عليها المؤلف في الغالب من خلال المجلات الأجنبية، إذ لم يكن الحصول عليها بالأمر السهل. وسيختفي هذا المشهد لاحقا مع قدوم عالم التواصل الاجتماعي والميديا، الذي وفر صور آلاف اللاعبين على شاشتنا، لكنه في المقابل أزاحهم من جدران غرفنا. وتشكّل هذه المشاهد الطبقة الأولى والأصلية من علاقتنا بكرة القدم، وغالبا ما نبدأ بالحديث عنها عندما نسترجع ذكرياتنا مع كرة القدم.