ذكرى ثورة 23 يوليو.. "النظم القومية" في مسار تاريخي

الكاتبة ، الكاتب: سلامة كيله

يبدو أن ما حدث أواسط القرن العشرين من تحوّلات في البلدان العربية (وفي دول الجنوب عموماً) ما زال يحمل الالتباس، ويُعطى توصيفاتٍ، وأحكاما بعيدة عن الواقع، في الغالب هي نتاج الميل "الفكري" الذي كانت من منتجات هذه التحولات. وبالتالي، هي تحاكم بما أوصلت إليه، وما أنتجته من ردود فعل أكثر من تحاكم ضمن السياق الذي أتت به، وبتحديد الأسباب التي أنتجتها.

فقد أنتجت هذه التحولات نظماً استبدادية شمولية، وكان من نتيجة ذلك نشوء الميل نحو الديمقراطية والتحرّر لدى أجيال عاشتها، واستفادت منها، بشكل أو بآخر. وبالتالي، باتت تحاكم هذه التحولات انطلاقاً من منظور ديمقراطي محض. ولأن النظم كانت استبداديةً شموليةً، فقد أصبحت مجال إدانة وتقريع، وحتى شتم. بهذا، جرت رؤية النظم التي نتجت عن هذه التحولات من منظورٍ وحيد، هو ردّ فعل على طابع النظم ذاتها. ووقعنا في ثنائية الاستبداد/ الديمقراطية مقياسا عاما لتحديد الموقف، وبتجاهل كامل لكل ما تحقق طوال ثلاثة عقود من التحولات والصراعات. وبالأساس، من دون قدرة على رؤية التحولات نفسها، وما نتج عنها من تغيير في البنى والأفكار. ومن ثم كيف ولماذا انهارت؟ ربما على العكس، لا يجد هؤلاء ما يستدعي القول إنها انهارت، لأنها بالنسبة لهم مستمرة، وممثلة بحكم العسكر، أو حكم الطائفة أوالحزب.

فهم ما جرى، بغض النظر عن الأحزاب والأشخاص، يمكن تحديده في ثلاثة عناصر، أو يمكن القول إنه كان نتاج ثلاثة عناصر:

أولاً، ما أفضت إليه الحرب العالمية الثانية هو، من جهة، اشتداد حالة الفقر والبطالة في مجمل البلدان العربية. ومن جهة ثانية، تراجع وضع الدول المستعمِرة. لهذا، كان من الطبيعي أن يتصاعد الصراع الطبقي، وأن يشتدّ متداخلاً بالنضال الوطني ضد الاستعمار والأحلاف الاستعمارية. ومثال مصر واضح هنا، حيث تصاعدت حركة الاحتجاجات والإضرابات والتظاهرات منذ سنة 1946 إلى 1952، وظهرت آثارها واضحة حينها بما حدث من فوضى وضعفٍ في النظام، وانفلاتٍ عام، ونشاط سياسي للأحزاب. كذلك ظهر الأمر في سورية والعراق، حيث تصاعدت الإضرابات والاحتجاجات، ودخلت قضية فلسطين لكي تزيد من تعقيد الصراع، وهو ما ظهر في تعدّد الانقلابات في سورية، وفي حركة الإعدامات للشيوعيين في العراق. وفي الجزائر اندلعت الثورة ضد الاحتلال الفرنسي، وكذلك في تونس.

بمعنى أن الوضع لم يعد مستقراً، وأن الشعوب ما عادت قادرةً على تحمّل الوضع الذي هي فيه، ومن ثم باتت النظم عاجزةً عن الحكم. وكان ذلك كله يوضّح أن الواقع يطرح ضرورة التغيير، وأن الصراع الطبقي يجب أن يوصل إلى تغيير النظم التي باتت متهالكة.

ثانياً، كانت هذه الوضعية بحاجة الى أحزاب معنية بالتغيير الذي يعبّر عن مطالب الطبقات

"وقعنا في ثنائية الاستبداد/ الديمقراطية مقياساً عاماً لتحديد الموقف، وبتجاهل كامل لكل ما تحقق طوال ثلاثة عقود من التحولات والصراعات"

الشعبية، العمال والفلاحين وفئات وسطى مدينية، حيث لا إمكانية لتحقيق التغيير من دون قوة منظمة. وكان واضحاً منذ ثورة أكتوبر في روسيا في 1917، ومن ثم الثورة الصينية في 1925، أن التغيير يستلزم ليس الرأسمالية التي باتت جزءاً من النظم القائمة، بل الطبقة النقيض المتمثلة بالشيوعيين. وهي الموجة التي اجتاحت العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وانتصرت في دول كثيرة. وكانت البلدان العربية هذه تحفل بوجود أحزابٍ شيوعية، لعبت دوراً في تأجيج الصراعين، الطبقي والوطني، لكنها كانت منحكمةً لمنظور (ربما ما زال يحكم بقاياها وكثير من "الماركسيين" المتأثرين بالسوفيت)، يقوم على أن المرحلة ليست مرحلتها، بل هي "مرحلة بورجوازية"، وحيث أن البورجوازية هي التي تنجز الثورة الديمقراطية، وأن على الشيوعيين دعمها. بالتالي، لم يكن في استراتيجية هؤلاء الاستيلاء على السلطة، وتحقيق مطالب الطبقات الشعبية، ولا نشطوا من أجل تطوير حراك الشعب، لكي يسقط النظم.

هنا كان الوضع في مأزق، حيث لم يعد الشعب قادراً على الاستمرار بما هو فيه، وضعفت النظم بما جعلها عاجزةً على الحكم. تقع المسؤولية هنا على عاتق الشيوعيين الذين أنفوا السلطة، وساروا خلف تصوّر وهمي، فتركوا فراغاً كان لا بد من أن يُملأ.

ثالثاً، إزاء ذلك كله، كان لا بد من حل "قسري". هنا لا بد من دراسة وضع الجيش الذي قام بعملية التغيير (حتى في البلدان التي فيها حزب قام الانقلاب باسمه، مثل سورية والعراق)، فقد فرض تكوين النظم إدخال الفلاحين ليس جنودا بل ضباطا كذلك. وعلى الرغم من أنهم من الرتب المتوسطة، فهم من قام بالانقلابات التي هزّت البلدان العربية منذ انقلاب 1952 في مصر، وصولاً إلى انقلاب 1963 في سورية، و1968 في العراق. لماذا استطاع هؤلاء فعل ذلك؟ لا شك أن ضعف النظم مع تصاعد الحراك الشعبي كان يدفع هؤلاء إلى التعبير، ليس عن النظم ذاتها كما هو الأمر الطبيعي، كون الجيوش هي أداة النظم لسحق الشعب، بل عن الفئات الاجتماعية التي ينتمون إليها، وعن مجمل الطبقات الشعبية. وظهر هنا أن الفلاحين الذين يؤخذ عليهم أنهم لا يستطيعون تنظيم ذاتهم في حزب، وجدوا من يعبّر عنهم، وهو بنية منظمة ومنضبطة، وأداة للسلطة.

 

الريف والفلاحون

يستلزم هذا الأمر دراسة وضع الفلاحين، لكي يكون ممكناً فهم ما جرى، سواء فيما يتعلق بالانقلاب، أو بالتغييرات العاصفة التي تلت ذلك، والتي سمحت بوسم ما جرى أنه ثورة. فقد كان الطابع العام للتكوين المجتمعي ريفياً، وكانت نسبة الفلاحين تصل إلى 80% من الشعب، وعلى الرغم من وجود فلاحين متوسطين وصغار وعمال زراعيين، فقد اتسم الريف بسيطرة كبار ملاّك الأرض. وحيث كان يسود الفقر والتخلّف والأمية. لهذا، يمكن القول إن جوهر الأزمة المجتمعية كان يتمثّل في الريف الذي انحكم، في بلدان أخرى، لقيادة الشيوعيين، لكنه في بلداننا كان بلا قيادة، أو يدعم أحزابا وكتلا "وطنية"، على الرغم من أنها لا تطرح حلاً لمشكلاته. وكان الريف خزّان الجيش ومتوسطي الضباط، بينما ظلّ كبار الضباط أبناء مدن.

يمكن تلمّس سمتين حكمتا الريف الذي كان يعاني من الاستغلال والتخلف والجهل. الأولى: أن الفلاح يميل عادة إلى التملك، لهذا كان المنطق الذي يحكم الريف هو الحصول على أرض، الأمر الذي كان يعبّر عن الميل إلى الارتقاء الطبقي. الميل إلى التملّك هو مطمح الفلاح. الثانية: الحداثة التي تسرَّبت إلى المدن الكبيرة بالكاد لامست الريف. ولهذا، ظل وعي "النخب" الريفية مختلطاَ بين وعي تقليدي وحداثة شكلية. وإذا كانت أفكار الحرية والتقدم والحق في التعليم والمساواة تتردّد لدى هذه النخب، فقد ظلّ الوعي البطريركي يحكم منطقها "السلطوي"، وظل سلوكها تقليدياً. لقد تغلغل الفكر الحداثي قبل الانقلابات بأكثر من نصف قرن، لكنه لامس بالكاد وعي "النخب" الريفية، خصوصاً ضباط الجيش.

"تغلغل الفكر الحداثي قبل الانقلابات بأكثر من نصف قرن، لكنه لامس بالكاد وعي "النخب" الريفية"

تفاقم الصراع الطبقي من طرف، و"رفض" الشيوعيين قيادة عملية التغيير، على الرغم من قدرتهم، نتيجة الأوهام الأيديولوجية التي كانت تحكمهم، فرضا انقلاب موقف الجيش من أن يكون أداة النظام في سحق الشعب إلى أداة الشعب في التغيير. لكنه في الواقع كان يعبّر عن وطأة استغلال الريف، ومصالح الريف الذي كان يمتلك طموح الارتقاء الطبقي. وكان توافق الريف مع مجمل فئات الشعب يتحدّد في التخلص من استغلال الإقطاع والنظام الذي يمثله، وبالتالي مجمل بنية الطبقة المسيطرة، والحصول على الملكية وحق التعليم، وهو الأمر الذي كان يفتح مجالاً لتغييرٍ كبيرٍ في المجتمع، يسقط نمطا اقتصاديا سياسيا لمصلحة ميلٍ تتنازعه مصالح متعدّدة، لكنه يقوم على أساس مبدأ إعادة توزيع الثروة الذي تمثّل في الإصلاح الزراعي، والحق في العمل والأجور التي تناسب الأسعار، والحقوق التي تخص العمال، والتعليم المجاني، والضمان الصحي والاجتماعي الشامل.

بالتالي، يمكن القول إن دور الجيش وحكمه تمثلا في تحقيق حلٍّ لأزمةٍ مجتمعيةٍ ظهرت واضحةً بعد الحرب العالمية الثانية، انطلاقاً من مصالح فئات وسطى، ريفية في الغالب، ومن منظور وعيها الذي كان مختلطاً بين الحداثة والمحافظة. وإذا كان قد حقق "نهضةً" في مراحل حكمه الأولى، حيث نشأت الصناعة، وتطور الاقتصاد، وتعمم التعليم، وتوسّع نشر الثقافة، وتحصلت الطبقات الشعبية على حقوق كبيرة، فقد أفضت مركزة الثروة بيد الدولة، وفي ظل نظام شمولي، إلى أن تميل الفئات الريفية التي باتت المؤسس لبنية النظام الجديد إلى "تحسين وضعها"، عبر "مدّ يدها" على الفائض الذي بات يحقّقه "القطاع العام". هذا ما أدى إلى "أزمةٍ" في هذا القطاع، لكنه أوصل إلى نشوء "رجال أعمال جدد" (القطط السمان). لقد ظهرت الدولة وكأنها عنصر تحويل للملكية من ملاّك قدامي (ملاّك الأرض والتجار وأصحاب البنوك) إلى ملاّك جدد، بعد أن كان نشاط الدولة هذا قد حقّق تراكماً كبيراً في الثروة. وكانت هذه العملية بحاجةٍ إلى الشمولية بالضرورة، لأنها تمثّل عملية نهبٍ لا بدّ من المداراة عليها. وكانت بنية الوعي والسلوك اللذين يتسم بها هؤلاء الضباط الذين باتوا هم، أو جزءٌ منهم، السلطة، تناسب هذه الوضعية، حيث جرى تأسيس نظام بطريركي في غلاف حداثي.

الجيش و"التغيير"

أشرت إلى أن ما حدث حل "قسري"، بالضبط لأنها حالةٌ نادرة أن يقوم الجيش بعملية تحويل كبيرة، ويستطيع الريف أن يرسم ملامح التطور. ويتمثل السبب، كما حاولت التوضيح، في أن القوى التي كان يمكن أن تقوم بعملية التغيير "الجذري"، أي الشيوعيين الذين أظهر القرن

"جوهر الأزمة المجتمعية كان يتمثّل في الريف الذي انحكم، في بلدان أخرى، لقيادة الشيوعيين، لكنه في بلداننا كان بلا قيادة"

العشرون أنهم من حقّق التغيير في مناطق واسعة، كانت "عقيمة"، بعد أن حُقنت بـ "نظريةٍ" اخترعتها الماركسية السوفيتية خدمة لسياساتها العالمية، تقول "إن دور الشيوعيين لم يحن بعد". ولا شك في أنه، حتى الشيوعيين، ما كان من يمكن أن يؤسّسوا "نظاماً ديمقراطياً" حينها.

لكن، كان من الممكن أن يحققوا تغييراً عميقاً في التكوين الاقتصادي، يفرض تجاوز البنى والوعي التقليديين، وأن يؤسّسوا نمطاً صناعياً قابلاً لأنْ يثوّر كلية بنية المجتمع. لهذا، لا بدّ من توجيه النقد الشديد هنا أولاً، قبل الغوص في نقد تجربة النظم "القومية". ومن ثم لمس أن ما جرى قد أنهى نمطاً اقتصادياً متخلفاً، على الرغم من أن النتيجة لم تكن مشرّفة، حيث أنه بعد تطور محدود جرت عملية إعادة تكريس البنى الاقتصادية التابعة، وإعادة إنتاج التخلف، من فئاتٍ استفادت من واقع التجربة، لكي تصبح هي المافيا الجديدة.

وهنا، لا يفيد كل "النقد" المنطلق من منظور "ديمقراطي"، لأن التجربة أوسع من ذلك، وأن هذه لم تكن مشكلتها الوحيدة، ولا مشكلتها الأساس. وكذلك لأن كل النقد "الديمقراطي" يؤسّس لحالةٍ من الحنين لما قبل هذه التجربة، أي إلى ماضٍ موهوم، لم يُلمس منه سوى بعض المظاهر "الديمقراطية"، وكأنه لا علاقة لنهب الفلاحين وتخلفهم وأميتهم بالديمقراطية.

ولكي تكون اللبرلة الحلّ الوحيد، على الرغم من أنها ما أفضى إلى كل الدمار الاقتصادي والتعليمي والصحي، وكل البطالة والفقر والتهميش، الذي نعيشه. وليكون دور الدولة الاقتصادي منبوذاً، لأنه "يؤسّس للاستبداد"، على الرغم من الأهمية الحاسمة لهذا الدور في بناء الصناعة وتطوير الاقتصاد ككل، وفي فرض مجانية التعليم والضمان الصحي وكل الحقوق الضرورية لعيش كريم.

وإذا كان يُلقى على دور الدولة هذا سبب الاستبداد، سنلمس أنه يجري تجاهل البحث في الطابع الطبقي للفئات التي استلمت الحكم، وطبيعة مصالحها، ووعيها، حيث كان هذا سبب طابع الدولة والمآل الذي وصل إليه الوضع، وليس دور الدولة بالذات. على الرغم من أن دور الدولة الاقتصادي يطرح إشكاليةً بحاجة إلى تحليل، تتمثل في أنه يعطي الفئات المسيطرة عليها قدرة هائلة، ما يتيح لها التصرّف بشكل أكبر مما يجب.

وهذا هو الأمر الذي يفرض الميل إلى الاستبداد. لكن حلّ هذه الإشكالية لا يفرض رفض دور الدولة الاقتصادي، لأنه الوحيد الممكن لتحقيق التطور والحداثة، بعد أن بات الرأسمال في الأطراف ليس معنياً، لا بالتصنيع، ولا بتطوير قوى منتجة، ولا بالحداثة والديمقراطية كذلك.