الحالمون بأرض الميعاد

تعالج رشيدة لمرابط في روايتها "أرض النساء" مسألة بحث امرأةٍ شابةٍ عن هويةٍ لها بين طريقة الحياة الأوروبية والثقافة الإسلامية. فولكر كامينسكي يعرِّفنا بهذه الرواية التي نالت رشيدة لمرابط بها جائزة أفضل عمل أول باللغة الفلامية في بلجيكا لعام 2008.

"أرض النساء". هكذا تسمى أوروبا الغربية في المغرب، فالناس هناك يظنون بأن القرار في أوروبا للنساء، وبالتالي لا يَعتبر الشاب المغربي هذه البلاد المكان المشتهى فقط. حقًا يبدو للكثيرين من هؤلاء الشباب أن العيش جذابٌ في هذا العالم الاستهلاكي اللامحدود، حيث يمكن ممارسة حياة حرة كما توحي البرامج التلفزيونية بلا انقطاع. بيد أننا بالكاد نجد شابًا في رواية رشيدة لمرابط "أرض النساء" ممن يؤمنون فعلاً بأن الجنة بانتظاره في أوروبا.

يونس بدوره لا يصدق بشكلٍ أعمى إغراءات الغرب عندما يبدأ رحلةً مغامرة خطرة ويركب البحر بقارب للاجئين. يتبع في ذلك صوت قلبه في عزمه على البحث عن مريم، تلك الشابة المغربية المهاجرة التي تعيش في بلجيكا، والتي التقاها قبل خمس سنوات على شواطئ السعيدية المغربية، فعشقها بكل جوارحه، وعرض عليها الزواج الذي قبلت به وهي في مزاج الاستجمام السياحي الرائق.

محرك الأحلام

إن الأحلام هي التي شكلت في المقام الأول الدوافع المحركة لتصرفات الشباب في رواية رشيدة لمرابط. أحلام حياة، لكنها في الوقت عينه أحلامٌ حقيقيةٌ تحمل في ثناياها رسائل مبطنة على ما يبدو. فليس يونس وحده من يتبع صوته الداخلي تاركًا خلفه كل ما هو مألوف، مغادرًا وطنه وموغلاً في رحلته التي تنتهي بحتفه، بل أن أبطال الرواية الآخرين الذين تتقاطع دروبهم بدربه ببأشكالٍ متباينة هم أيضًا مفعمون بالأحلام والأمنيات.

حتى مريم التي أصبحت تعمل سياسيةً على المستوى البلدي المحلي في بلجيكا ونسيت مغازلات الإجازة منذ فترة بعيدة يتبين لها أنها ما زالت تحلم بيونس أحيانًا. عندما قيل لها أن يونس كان في طريقه إليها عندما ابتلعته أمواج البحر الأبيض المتوسط لا تستطيع مريم أن تقاوم رغبتها طويلاً فتعود أعقابها إلى موطنها الذي تخلت عنه قبل سنين طوال. تفعل ذلك رغم عقلانيتها ورزانتها الثابتتان ظاهرًا والتي عملت على ترسيخهما خلال حياتها.

مريم هي الشخصية الرئيسة في رواية "أرض النساء" التي كانت قد نالت بها رشيدة لمرابط جائزة أفضل عمل أول باللغة الفلامية لعام 2008. إلا أن بداية السرد لا يكون بمريم بل يتأسس بيونس ونهايته المأساوية، وبرسالة كان قد خطّها وسلّمها لصديقٍ، كما تبدأ كذلك بشخصيات أخرى يرتبط مصيرها بمصير يونس ويستمر مسار السرد في طريقه خطوة تلو الأخرى حتى يصل إلى مريم.

على خطى "ألف ليلة وليلة"

هذه المسارات المتشابكة تذكرنا بتقاليد السرد التي عرفناها في "ألف ليلة وليلة"، وهي تشكِّل الميسم الأقوى للرواية، لكن تتبع خطوط هذه المسارات ليس سهلاً على القارئ وبخاصةٍ في النصف الأول من الرواية. إلى جانب الشخصيات الأساس يونس ومريم هناك أدوار منوطة بما يقارب ستة أشخاص آخرين. لكن في نهاية المطاف تتمكّن الراوية من ربط هذه المسارات ببعضها بعضا ومن خلق علاقة متشابكة بين الأماكن المختلفة. ثم تتقاطع مسارات جميع الشخصيات في لحظةٍ ما بحيث يصبح بمتسع القارئ أن يُلِّم بمجمل الصورة وأن يتتبع المسافرين الباحثين عن بعضهم البعض بشوقٍ على تنوعهم.

عشق يونس لمريم، وقراءته لها قصائد الحب والغزل على الشاطئ معتقدًا أنها تعشقه كما يعشقها، شكِّل في الرواية سلسلةً مأساويةً متعددة الحلقات. حقًا أن مريم جارته في الغزل المتخفف أثناء الإجازة واستسلمت للشاب الوسيم والمثقف يونس، إلا أن حياتها استمرت بالقطع الجازم مع موطنها الأصلي المغرب.

كانت مريم قد قطعت أواصر العلاقة بموطنها وحتى بعائلتها التي تقيم في بلجيكا. وكانت قد ركزت جلّ جهدها على الهرب من البنى التي تحكمها التقاليد والدين من جهة والتماهي مع العالم الغربي من جهة أخرى. لقد رسخت لها موطئ قدمٍ في أوروبا، وها هي تعمل بنجاحٍ في مجال حقوق الإنسان بوصفها متخصصة في القانون، ولديها صديق بلجيكي، لا بل وتنظر نظرة استعلاءٍ إلى النساء المغربيات اللاتي تأتين إلى مكتب مريم طلبًا للمشورة، واللاتي يعشن فاقدات للحرية وتنقصهن الجرأة للتخلص من أعباء الأنماط الذكورية وتصوراتها عن الزواج والعائلة من وجهة نظر مريم.

في أسوار الوحدة

تصوِّر رشيدة لمرابط بطلتها بوصفها امرأةً حازمةً لا بل وباردةً أحيانًا، امرأة لا تخاف الصراعات التي تُقحمُ بها باعتبارها مغربية لديها موقف متشدد في تأييده للغرب. لكن يتضح في مسار السرد أن مريم تعيش أيضًا المرارة والوحدة التي أوصلها إليهما درب حياتها المعاند. وبالرغم من القدر العالي من الإحساس بأنها أوروبية وباعتقادها بأنها مندمجة في المجتمع وتنتمي إليه، وبالرغم من كل التنازلات التي قدمتها لأوروبا، حيث كانت قد بدلت اسمها الأول وامتنعت عن الاتصال بوالديها وإخوتها، بات عليها أن تدرك أنها غير سعيدة وأنها لا تستطيع تحمل هذا القطع مع ماضيها.

يبدو في هذا الوضع أن ما جرى ليونس يقدم فرصة مواتية لإخضاع الذات للامتحان. شقيق مريم وهو مجرم بسيط فشل في أوروبا وأدخل السجن لمرات عدة بسبب اتجاره بالمخدرات لديه أيضًا شوق غامض إلى الوطن ويحلم بدوره بيونس بما في الأمر من غرابة. يقترح شقيق مريم عليها أن يسافرا سويةً إلى المغرب وأن يمرا قبل ذلك بالموقع الذي عُثر فيه على جثة يونس قبالة الشواطئ الأسبانية.

قراءة عميقة للشخصيات

استطاعت الراوية رشيدة لمرابط أن تستعرض الحياة الداخلية لشخوص روايتها وفي مقدمتهم شخصية مريم، حيث وصفت بنجاح كيفية مقاربة مريم التدريجية لعملية استعادة جذورها التي ظنت يومًا أنها فقدتها، وكيفية تذليلها للاعتراضات ومعايشتها لتلك الصراعات والآلام، كما عبِّرت عن طبيعة الصراعات الداخلية لدى الآخرين من الوافدين الذين يعانون من فقدان الوطن والمرجع.

كل ذلك مجتمعًا يُنتج لوحةً شيقةً لجيل قلق متردد من الوافدين، جيل لم يعد متجذرًا في تقاليده العائلية من ناحية لكنه لم يندمج بعد في العالم الغربي من ناحية أخرى.وختامًا ليست معضلات الشباب الوافدين والمهاجرين الأفارقة وحده موضوع هذا الكتاب الشيق الجذاب، فالمسافرون الباحثون الشباب في رواية رشيدة لمرابط يغذُّون الطريق الصعب بحثًا عن ذواتهم في المقام الأول.

فولكر كامينسكي
ترجمة: يوسف حجازي
حقوق النشر: قنطرة 2010

رشيدة لمرابط، "أرض النساء"، دار لويشترهاند.

قنطرة

حميد سكيف في رواية "جغرافيا الخوف":
حياة مهاجر بلا أوراق في الخفاء
حميد سكيف صوت لا يمكن التغافل عنه داخل الكتابة الأدبية في المغرب العربي. الصحافي والكاتب باللغة الفرنسية يفسح من منفاه الألماني في روايته الجديدة "جغرافيا الخوف" المجال لمهاجر غير شرعي للتحدث عن نفسه في واقعية مثيرة للفزع. عرض نقدي كتبته نعيمة الموسوي.

كتاب إدريس بن حامد الشرادي - "حياة مليئة بالحفر":
سحر القصة الشفوية بنكهة الأدب المكتوب
لا يعتبر كتاب "حياة مليئة بالحفر" مجرَّد صورة قوية الدلالة، تصوِّر حياة أفقر الفقراء في المغرب إبَّان فترة الاستعمار، بل هو أيضًا خير دليل على التمكّن من نقل سحر القصص الشفوية التي تُروى بشكل مباشر إلى الأدب المكتوب. ريتشارد ماركوس يستعرض هذا الكتاب.

رواية "يمّة - أمّي، ابني" للكاتب الطاهر بن جلون:
"ليست مجنونة، لكنها على سفر"
يتابع الكاتب المغربي الطاهر بن جلون حياة أمّه التي تعاني من اضطرابات في الذاكرة، متقصيًا سيرتها الذاتية منذ زواجها الأول الذي استمر فترة قصيرة حتى شيخوختها، حيث أصبحت لا تستطيع مفارقة السرير ولم تعد تتعرّف على نفسها. أنغيلا شادر قرأت هذه الرواية التي ترجمت إلى الألمانية.