غراميات بسطاء اسطنبول المهاجرين من الأناضول

تختلف الآراء في تركيا حول أورهان باموك. فهو بالنسبة للبعض الحائز على جائزة نوبل للأدب، ونجم بين الكُتّاب الأتراك. ويرى آخرون أنه المنتحل أو يشوهون سمعته كخائن لوطنه. أثارت روايته الصادرة عام 2014 مرة أخرى مناقشات حامية حول المؤلف وأعماله الأدبية. الصحفية الألمانية التركية جيداء نورتش تقدم لموقع قنطرة عرضا لرواية أورهان باموك "شيء غريب في رأسي".

الكاتبة ، الكاتب: جيداء نورتش

كان على المعجبين من قراء أورهان باموك الانتظار لمدة ست سنوات، ثم صدرت في ديسمبر/ كانون الأول عام 2014 الرواية التي طال انتظارها. ملحمة عائلية ذات أهمية تتألف من 500 صفحة، مع ملحق يحتوي على شجرة العائلة للشخصيات، إضافة الى تسلسل زمني للأحداث يشكل عالما كاملا. تحكي الرواية عن عالم افتراضي، ولكنه يمكن أن يكون اليوم واقعيا. 

كما في روايته الأولى "جودت بيك وأبناؤه" الصادرة عام 1982 يروي باموك في روايته الجديدة "شيء غريب في رأسي" قصة عائلة. الشئ الجديد فيها  أن أحداثها لاتدور كما في رواية "براءة الأشياء" الصادرة عام 2008 في وسط المجتمع الارستقراطي، في حي نيشانتاشي في اسطنبول، الذي ينحدر منه باموك.  بدلا من ذلك يهتم هنا بالوافدين الجدد، والعمال المهاجرين من بلدات الأناضول الصغيرة، الباحثين عن مكان لهم في المدينة المليونية الكبيرة.

رحلة إلى "الغرابة"

تتناول الرواية فترة زمنية من 30 عاما، وتحكي عن تاريخ عائلتي أكتاش وكراتاش اللتين ترتبطان فيما بينهما بصلة قرابة عن طريق الأخوين حسن ومصطفى، اللذين هاجرا في سبعينيات القرن الماضي من بيشهير في وسط الأناضول الى حي دوتبة وكلتبة في اسطنبول.

بطل الرواية اسمه مولود، نجل مصطفى. يترعرع في كنف والده في اسطنبول، حيث يلتحق بالمدرسة، ولكنه يتركها قبل الأوان، ليعمل مع والده ومن بعدُ لوحده بعد وفاة الأب كبائع لبن متجول.

Buchcover Orhan Pamuk "Kafamda Bir Tuhaflik"; Foto:  YAPi KREDİ YAYINLARI  Verlag
رحلة في السنوات المئة الماضية: يحكي باموك في روايته "شيء غريب في رأسي" قصة عائلة على شكل كولاج، بلسان الراوي الذي هو في حوار مستمر مع القارئ. ذكريات الماضي والصوت الطبيعي التي تذكر بأسلوب الروبرتاج، حيث يروي الأشخاص ويعلقون على قصصهم، كل هذا يضفي على القصة ديناميكية معينة.

في أحد الأعراس لفتت نظر مولود سميحة الفتاة ذات العيون الجميلة، التي كان يكتب لها الرسائل لسنوات، إلى أن وصله أخيرا الخبر أنها على استعداد لأن تقيم معه علاقة. ولكن حدث ارتباك حينما لاحظ مولود أن التي سترافقه في السفر إلى اسطنبول ليست سميحة  وإنما شقيقتها راحية التي كانت تستلم الرسائل. وسبب هذا الخطأ هو ابن عمه سليمان الذي كان يرغب في سميحة. ومع اختطاف راحية كزوجة يبدأ مولود رحلة إلى "الغرابة"، وهو الشعور الذي يباغته دائما من جديد والذي ينسحب كموتيف على طول الرواية.

عاش مولود رغم الفقر مع راحية حياة سعيدة. أنجبا طفلين.  ثم ماتت راحية بينما كانت تحاول إجهاض طفلها الثالث. وبعد سنوات يتزوج مولود سميحة. فيكتشف أنها بعكس شقيقتها المتوفية، عنيدة وغير متفهمة. في الليالي أثناء تجوله في الشوارع لبيع بضاعته، يدرك ميفلولت أخيرا كم هو مرتبط بالمدينة، وأنه لم يحب أحدا في العالم كما أحب راحية.

يحكي باموك قصة عائلة على شكل كولاج، بلسان الراوي الذي هو في حوار مستمر مع القارئ. ذكريات الماضي والصوت الطبيعي التي تذكر بأسلوب الروبرتاج، حيث يروي الأشخاص ويعلقون على قصصهم، كل هذا يضفي على القصة ديناميكية معينة.

ممزق بين القرية والمدينة

في رواياته السابقة يضع باموك شخصياته "لبرجوازية" بمهارة على نفس المستوى مع انهيار العاصمة السابقة اسطنبول،  وأيضا مع الشعور بالحزن. في المقابل تبقى الحياة الروحية لأبطاله سطحية إلى حد ما في روايته الجديدة، ممزقة بين قريتهم والمدينة. تمكث قوة باموك أيضا في هذه الرواية في وصف الأحاسيس لدى مولود الذي يجول في شوارع مظلمة: تمزقه الداخلي في الانتماء إلى المدينة من ناحية والبحث الدائم بين الواقع (الحياة السعيدة التي عاشها مع راحية) والتصور (ما الذي سيكون لو أن الرسائل وصلت في الزمن الماضي إلى سميحة وهربت معه) من ناحية أخرى.

أشار باموك في مكان آخر الى استعمال تناص أسلوبه في الكتابة  ما بعد الحداثة. وهنا يجب فهم مزاج بطل الرواية، غريب الأطوار على أنه ربما إشارة إلى موضوع الغريب، وهو نوع من الشعر الذي كتبه أورهان فيلي، أحد شعراء المدينة الأكثر شهرة، والذي ركز في قصائده مرارا على الشعور بالاغتراب في الشوارع، مشاعر متناقضة للشاعر تجاه بيئته المدنية.

في نفس الوقت تذكرنا قصة باموك عن المهاجر بشعر تورغوت أويار، لكن بأسلوب النثر السردي. يتطرق تورغوت أويار في قصائده إلى موضوع المهاجر الذي كما مولود تبتلعه جدران المباني واللوحات الإعلانية والغربة، والشعور بالوحدة الذي يرافقه باستمرار.

Orhan Pamuk erhielt 2006 den Literatur-Nobelpreis; Foto: AP
يُعدّ الكاتب أورهان باموك أحد الكتَّاب الأكثر شهرة في تركيا، وفي عام 2006 حصل على جائزة نوبل للآداب وكان بذلك أول تركي يحصل على هذه الجائزة.

تقع أحداث القصة في اسطنبول أثناء تطورها السريع والتغيرات العميقة التي شهدتها المدينة في الفترة مابين 1969-2012. كانت مسرحاً للتطورات السياسية وكذلك للاستقطاب بين القوميين واليساريين، موجات الهجرة، والصفقات العقارية غير القانونية أو اندثار العديد من المهن القديمة مثل بائع اللبن المتجول.

نقد رواية باموك

بحسب رأي الناقد الأدبي لمجلة  "كتاب راديكال " جيم إرسييس، هنا تكمن قوة هذا الكتاب. وهذه الرواية بالنسبة له عبارة عن قصة مدينة، أما مولود فهو بطل خالد ورمزا لجزء من اسطنبول المنسي.

على العكس تنتقد صحيفة "طرف" بأن العالم الذي يحاول باموك وصفه في روايته هو بالنسبة  للمؤلف غريب، كما يقول. لا يعرف باموك حي ترلاباشي، حي الناس البسطاء سابقا، وإنما يعرف أن يصف كيف كان بطل الرواية مولود يستمني باستمرار في شبابه.

لا يزال باموك هو الكاتب الذي يتسبب في الاستقطاب في بلده، حيث صّرح لصحيفة سويسرية عام 2006 أي بعد عام  تقريبا على حصوله على جائزة نوبل للآداب، بأنه تم قتل ثلاثين ألف كردي ومليون أرمني على الأراضي التركية، ولكن لا أحد يجرؤ على قول ذلك. فوجه له المدعي العام  تهمة "إهانة القومية التركية"، وتم وصفه من قبل دوائر القوى العلمانية "بالخائن"، المتملق للبلدان الأجنبية. ولا يزال الكثيرون ينظرون الى يشار كمال المتوفي مؤخرا الرجل الذي يستحق جائزة نوبل.

يشكي نقاد الأدب في كثير من الأحيان بأن باموك يستخدم في روايته أفكار الآخرين. اتهمت صحيفة "حرية" باموك بالمنتحل.

وما روايته "اسمي أحمر"، سوى  نسخة من رواية "مساء قديم" للكاتب الأمريكي نورمان ميلر، ويحتوي كتابه "القلعة البيضاء" على مقاطع من أعمال محمد فؤاد كريم. وحتى الآن بقيت هذه الادعاءات دون عواقب.

يبقى باموك خاصة في تركيا الكاتب المثير للجدل. قوته هي شغفه، يجمع مثل عالم الآثار  قطع من الحياة اليومية لمدينته، ثم تضيع حالا في قصصها. شخصيات روايته الأخيرة بلا شك أضعف من خلفياتهم أي المدينة. يبعث باموك في روايته الحياة في اسطنبول المهاجرين، الاوتسرادات، ناطحات السحاب وحشود البشر.

 

 

 

جيداء نورتش

ترجمة: سليمان توفيق

حقوق النشر: موقع قنطرة 2015   ar.qantara.de