متحف البراءة - رسالة حب إلى إسطنبول
السيِّد أورهان باموك، أنت في الأصل كاتب وقد افتتحت متحفًا. هل كانت أعصابك متوترة قبل افتتاح المتحف؟
أورهان باموك: وكيف لا! وقد كانت لدي في البداية شكوك غير معقولة ولم أنم ليالٍ كثيرة. وكنت أتساءل ماذا لو فشل المشروع؟ ولكن هذا هو بالتحديد ما يحدث في الفنِّ وكذلك أيضًا في الأدب؛ أي أن يخاطر المرء ويجرؤ على خوض شيء جديد.
نشرت في عام 2008 رواية "متحف البراءة". ماذا تبادر لك أولاً فكرة تأليف هذه الرواية أم فكرة إقامة المتحف؟
باموك: تطورَّت لدي الفكرتان بشكل متوازٍ. ولم يكن الأمر كما لو أنَّني ألَّفت كتابًا ناجحًا وثم فكّرت أنَّه يجب علي الآن أن أحوِّله إلى متحف. وعندما كانت ابنتي ما تزال صغيرة، كنت آخدها في كلِّ يوم إلى المدرسة وأمرّ دائمًا على هذا المبنى الواقع على الزاوية. وفجأة راودتني هذه الفكرة الغريبة، أن أروي في داخل هذا المبنى قصة خيالية. وهكذا اشتريت المبنى وبدأت في الكتابة.
يعيد المتحف وكذلك الرواية مدينة إسطنبول في السبعينيات الى الحياة؛ قصة حول ابن صاحب مصنع ثري يقع في حبِّ بائعة فقيرة. ولكي يكون قريبًا منها، يجمع كلَّ الأشياء التي تخصها - من كأس الشاي وحتى مشبك الشعر. ومن الممكن الآن مشاهدتها في متحفك. من أين جاءت هذه الأشياء؟
باموك: لقد نشأت هذه المجموعة على مرّ السنين، وجدت أشياءًا كثيرة منها في أسواق السلع المستعملة مثل البطاقات البريدية القديمة التي تعرض مدينة إسطنبول؛ وكذلك أخذت بعض الصور الفوتوغرافية المصوَّرة بالأبيض والأسود والمصفرة من بعض الأصدقاء ومن بعض أفراد أسرتي. وقد استلهمت الكتابة من هذه الأشياء التي تستخدم في الحياة اليومية ودمجتها في روايتي قطعة تلو الأخرى.
هل يعني هذا أنَّك تشارك بطل روايك كمال في شغفه بجمع الأشياء؟
باموك: في الحقيقة لا. وصحيح أنَّ لدي ميول لجمع الأشياء كما أنَّني كثيرًا ما أقضي ساعات طويلة في محلات السلع القديمة والتحف، ولكنني في الواقع لست من هواة جمع الأشياء الحقيقيين. وعلى سبيل المثال لدي ستة عشر ألف كتاب ولكن لقد قرأتها جميعها. من الممكن أن يكون لدى أحد هواة جمع الكتب عشرون ألف كتاب ومن الممكن أنَّه لم يفتح أيًا من هذه الكتب في حياته، وذلك لأنَّ أكثر ما يعنيه هو الامتلاك، أي التعويض عن شيء ما - تمامًا مثلما هي الحال مع كمال. فهو يجمع هذه الأشياء من أجل المحافظة على حبه، وفي ذلك ثمة شيء من الاستحواذ.
ما سبب اختيارك لأشياء من الحياة اليومية؟
باموك: لأنَّني أعشق هذا السحر العادي الذي يكمن في هذه الأشياء والذي يكتشفه المرء من النظرة الثانية. فكِّري فقط بتذكرة فيلم سينمائي قديم يجدها المرء صدفة وبعد أعوام طويلة داخل جيب سترته. وفجأة لا يتذكَّر المرء ذلك الفيلم فقط، بل يتذكَّر أيضًا الأجواء التي كانت في السينما وأجواء ذلك المساء.وهذه الأشياء تحي الذكريات في داخلنا وتروي قصصا كاملة.
يشاهد المرء مرارًا وتكرارًا في خزائن العرض الزجاجية في المتحف مقالات من صحف قديمة، مثلاً حول تنامي قوة العسكر أو قيام الاحتجاجات الطلاَّبية في تركيا. ما مدي أهمية هذا الجانب السياسي بالنسبة اليك؟
باموك: أحب أن تظهر السياسة في كتبي مثل شريط يمر مضيئًا عبر التاريخ ولكنه لا يفرض نفسه في مكان الصدارة. ولكن لا يمكن بطبيعة لحال تجاهل هذا الجانب في تركيا. كما أنَّ وطني تركيا متأثرة من ناحية بالقيم الإسلامية وبتقاليدها الخاصة، وفي الوقت نفسه يوجد فيها هذا الحنين الكبير إلى الغرب. وهذه المتناقضات بالذات ما تزال تحدِّد تركيا - حتى يومنا هذا.
هل تنتقد هذا الانقسام؟
باموك: لا، فأنا لا أمنح نفسي الحقّ لإصدار أي حكم أخلاقي، بل أراقب فقط وألاحظ. وهذه المتناقضات يلاحظها المرء خاصة لدى طبقات المجتمع العليا في تركيا؛ إذ إنَّهم من ناحية يتزيَّنون برموز غربية تدل على الوضع الاجتماعي ويظهرون بمظهر حديث، ولكنهم من ناحية أخرى يمجِّدون سلاطينهم المبجَّلين من العصر العثماني. وأنا بصفتي كاتبًا أجد هذا التناقض رائعًا.
تم اتِّهامك في العام 2005 بسبب تصريحات سياسية حول النزاع الأرمني. كيف تطوَّرت منذ ذلك الحين علاقتك بتركيا؟
باموك: أجل، لقد تعرَّضت بطبيعة الحال لضغوطات سياسية هائلة. وتوليت في تلك الأيَّام وظيقة أستاذ زائر في الولايات المتَّحدة الأمريكية وكنت نادرًا ما أزور تركيا، وعندما كنت أزورها كانت لدي حماية شخصية. ولم يكن ذلك مريحًا بالنسبة لي، ولكنني لاحظت في الوقت نفسه أيضًا مدى تعلّقي بفكرة المتحف. لقد أردت خلق مكان للذكريات - لنفسي ولمدينتي إسطنبول.
يعدّ "متحف البراءة" أيضًا بمثابة رسالة حب إلى مدينتك ومسقط رأسك إسطنبول. وعلى الأرجح أنَّه لا يوجد من يصف كآبة هذه المدينة وسوداويتها مثلك. فما هو السبب؟
باموك: لأنَّني ولدت ونشأت هنا. ودائمًا أجد نفسي لا أملك سوى الإبتسام كلما تصفني وسائل الإعلام الغربية بأنَّني "كاتب أسطنبول". وأنا لا أكتب في ذلك إلاَّ حول ما يحيط بي طوال حياتي وحولما أعرفه أفضل معرفة؛ وهذا بالذات هو إسطنبول.
أجرى الحوار: أيغول زيتشمتشي أوغلو
ترجمة: رائد الباش
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: دوتشه فيله 2012