جثة لم تعد لها شخصية...في وسط القاهرة

متظاهرون في الميدان، وسكارى في المقاهي، ولقاءات مشبوهة. وامرأة في بيت مجاور مزعجة، وأرصفة بالحياة نابضة -ليل نهار- في حي باب اللوق بقلب القاهرة. أجواء تصفها رواية دنيا ماهر: "في شقة باب اللوق"، الحائزة على جائزة محمود كحيل لأفضل رواية مصورة. وقد اجتمعت على نسجها مواهب مبهرة: من رسم الكوميكس السياسي وحتى الترجمة. الناقدة الأدبية مارسيا لينكس كويلي قرأت الرواية لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: مارسيا لينكس كويلي

تلتقط لحظةٌ في مركز رواية "في شقة باب اللوق" مزاجَ الكتاب القاتم الاغترابي. إذ تقف الساردة على الشُرفة، تنظر إلى الأسفل إلى ميدان طلعت حرب، حيث تحتشد شاحنات قوات الأمن المركزي المصرية. 

غلاف رواية  "في شقة باب اللوق" للكاتبة المصرية دنيا ماهر. الناشر: ميريت
رواية "في شقة باب اللوق" المصورة: الكتاب، كما تقول دنيا ماهر، هو من أجل "المتظاهرين الذين رأيتهم من نافذتي، والمقاهي المملوءة بالسكارى، واللقاءات المشبوهة في الميدان في الرابعة فجراً، الناس وأولادهم المستيقظين في جميع الساعات، متجولين على الرصيف أمام المحل، والمرأة المزعجة في البيت المجاور".

 هذا المشهد هو علامة على اغتراب سياسي واجتماعي للشخصية الرئيسية. وهو يأتي في أول قسم من الكتاب، والكتاب تعاون وتشارك لأول مرة بين الكاتبة دنيا ماهر واثنين من الفنانين الرسامين. يقوم كامل النص في وحول مبنى في حي باب اللوق في قلب القاهرة، حيث يمكنك أن تجد وزارة الداخلية المصرية إضافة لميداني التحرير وطلعت حرب الشهيرين. يتكشّف الجزء الأول، المرسوم من قبل الفنان جنزير، في صيغة ضمير مخاطب حميمي. فبينما تقف الساردة في الخارج، تتصاعد هتافات المحتجين إلى الشرفة.  ويقول النص: "سيملؤك التعاطف، وفي نهاية المطاف، ستقرر أنك: خارج (في إجازة) للاحتجاج في طلعت حرب". ولكن الصورة الكبيرة التي تنتشر في الأسفل لا تُصوّر متظاهرين آخرين. بل تُصوّر خطاً من الشرطة المتجهمين الذين يبدو عليهم الملل ويغطّون أنفسهم بالدروع والخوذ والعصي. تُقدّم أجسامهم بالأبيض والأسود، بينما عيونهم مظللة أو تنظر بعيداً عن القارئ. دروعهم فقط لها لون. تأخذ الصفحة التالية القارئ إلى حافة الميدان. فتُظهِر الصورة السوداء والبيضاء المشبعة كثيراً القليل من المارة المسرعين في الأفق، ولكن لا يوجد متظاهرون.  وهناك بقعة واحدة ملونة في الوسط –تمثال طلعت حرب (1867-1941)- ولكن التمثال، أيضاً، يُدير ظهره لنا. لا نجد أبداً المتظاهرين: "سوف تتجول حول الميدان لساعتين، تسمع المتظاهرين ولكنك لن تراهم أبداً. ستقف هناك للحظة، ولكن شخص ما بجوارك سيخبرك بأن تتحرك على طول". جو أسود، غير سار يُقرأ في هذا المقطع من الكتاب ما يشبه مجموعة من قصائد نثرية قاتمة بدلاً من قصة. ومن داخل الشقة في باب اللوق، نسمع: "سوف تتفوق في فن التلصص". الناس يأتون ويذهبون، ولكننا تقريباً لا نملك أي صلة أو مجتمع أو عمل. أما في الداخل، فلن تصبح الشقة نظيفة، مهما دُعِكت. وفي الخارج، "تبدو أركان القاهرة مهملة ووحيدة كمسرح جريمة تم هجرانه". تتبنى الساردة قطتين، ولكن لا توجد صلة هنا، أيضاً. إنهما فقط "يتبعانك /بصمت /من مكان/ لآخر، ويتبادلان الكلمات/أحياناً. ستقسم أنهما /يتنصتان على/مكالماتك، ويعلقان عليها/ بخبث/يُقيِّمان/ زوارك/ ويحكمان/ على/أفعالك". لا تظهر هذه الجمل القصيرة في الصفحة، كأسطر ومقاطع. بدلاً من ذلك، هي مصفوفة في قصيدة على هيئة قط، تتسلل في الأرجاء خلف القارئ. هنا وكما في أي مكان آخر في الكتاب، لا يركّز الكتاب على الحبكة، بل على الجو. وما نتعرف عليه عن باب اللوق هو دائماً جزئي وبعيد وبارتياب. 

Excerpt from Donia Maher′s ″The Apartment in Bab El Louk″, illustration by Ganzeer (published by Darf)
قصاصة من الترجمة الإنكليزية لرواية "في شقة باب اللوق" المصورة. تكتب مارسيا: جزئية وبعيدة وبارتياب: "يقرأ في هذا المقطع من الكتاب ما يشبه مجموعة من قصائد نثرية قاتمة بدلاً من قصة. ومن داخل الشقة في باب اللوق، نسمع: /سوف تتفوق في فن التلصص/. الناس يأتون ويذهبون، ولكننا تقريباً لا نملك أي صلة أو مجتمع أو عمل".

 أما في صبيحة الانتخابات الرئاسية، فنسمع شعارات تأتي من سيارات تحمل علامة "الحكومة". وينفجر نص أسود وأخضر من مكبرات صوت إحدى السيارات، مكرراً، "لقد اخترناه! لقد اخترناه! يوماً بعد يوم، قلوبنا معه". فتنطلق الكلمات من مكبرات الصوت، وتتسرب من الصفحة.  ويتشارك القارئ والساردة شعوراً بالارتباك حول معنى الشعارات. "رغم ذلك، ستغني مقتطفات من الأغنية، في تناغم مع السيارات المغادرة بينما تقطع الميدان". الجزء الثاني: الأوراق المضحكة بعد هذا، تظهر صفيحة بيضاء وسوداء، تضم عناوين رئيسية شديدة الاهتياج. وهذا يمثّل التحول بين الرسومات المثيرة للذكريات والعواطف للفنان المصري "جنزير" والرسومات الأكثر تقليدية على طراز لوحة للفنان المصري الساخر أحمد نادي. وفي القسم الأخير من الكتاب، يقود مالك إحدى العمارات محققاً مصرياً صلباً لكسر القفل والدخول للعقار 38 في شارع الفلكي. وإذ يدخل المحقق وكتيبة من الضباط الشقة، يجدون جثة رجل على الأرض قرب السرير، "يبدو عليها الرعب". وفي الترجمة الماهرة لإليزابيث جاكويت، فإن الجثة لم تعد لها شخصية، بل أصبحت مجرد "هذا الشيء (ضمير غير العاقل)". يعلن المحققُ أن لديهم سببا للشك بأنها شبهة جنائية. ينظر القارئ مرة أخرى إلى الأسفل من الأعلى، إلى زقاق ضيق حيث تجمّع الجيران. نرى قمم رؤوسهم بينما يتهامسون حول الرجل المقتول: "لا نتكلم بسوء عن الموتى... ولكنه لم يكترث قط لأي أحد". ثم يغير الكتاب النغمة مرة أخيرة، منتهياً بملاحظة شعرية موجزة من الكاتبة دنيا ماهر، فبينما تهدي الكتاب إلى جيرانها في باب اللوق. تقول إن الكتاب هو من أجل "المتظاهرين الذين رأيتهم من نافذتي، والمقاهي المملوءة بالسكارى، واللقاءات المشبوهة في الميدان في الرابعة فجراً، الناس وأولادهم المستيقظين في جميع الساعات، متجولين على الرصيف أمام المحل، والمرأة المزعجة في البيت المجاور"، إضافة إلى مشاهد وأصوات أخرى حول شقتها. [embed:render:embedded:node:14472] أولئك الذين يأملون بأخبار من ميدان التحرير أو بقصة ذات بداية واضحة، ومنتصف ونهاية سيصابون بخيبة أمل. ولكن أولئك الراغبين بتحرير أنفسهم من توقعات القصة وزج أنفسهم ببورتريه تشاركي لوسط القاهرة سيجدون مبتغاهم في الواقع، فإن من أكثر الأشياء إثارة في هذا المشروع هو جوانبه التشاركية. ففي صفحات الكتاب الموجزة الأكثر من ثمانين بقليل، يضم "في شقة باب اللوق" كتابات دنيا ماهر ورسوم الفنان المشهور جنزير وفن رسام الكوميكس السياسي أحمد نادي. أما النسخة الإنكليزية فتُفسِح المجال لمشاركة أخرى: المترجمة الموهوبة إليزابيث جاكويت. إن هذا الكتاب، الذي ربح جائزة محمود كحيل لأفضل قصة مصوّرة في عام 2016، ظهر بالانكليزية في نفس الشهر الذي ظهرت فيه الرواية المصوّرة القوية لأحمد ناجي وأيهم الزرقاني "استخدام الحياة". وقد أعطت كلتا الروايتين للقراء بالإنكليزية طعم الطاقة المثيرة لمشهد الرواية المصوّرة المصرية التشاركية المزدهرة.  مارسيا لينكس كويليترجمة: يسرى مرعيحقوق النشر: موقع قنطرة 2017ar.Qantara.de