قصص من وقائع انفصال الهند وباكستان
في الخامس عشر من شهر أغسطس/آب تحتفل الهند بمرور 60 سنة عن استقلالها. وفي يوم 14 أغسطس/آب أعلن محمد علي جيناه عن استقلال باكستان. ومازال هذان التاريخان يعتبران مستهلا لموجة حركات التحرر الوطني في القارتين الإفريقة والآسيوية.
لكنهما دشنا أيضا أكبر المجازر دموية مما جرى على أرض شبه القارة الهندية(إقليم الهند والسند) إلى حد ذلك التاريخ. على إثرها فر المسلمون من الهند باتجاه باكستان والسيخ والهندوس إلى الهند.
وقد أسفرت هذه المجازر عن قتل أكثر من مليون نفس بشرية واغتصاب مئات الآلاف من النساء، كما أُحرقت بيوت وقرى، بل وأحياء بكاملها من المدن. وبينما تستقبل ذكرى استقلال الهند وباكستان بإقامة يوم احتفال وطني لا يوجد في أيّ من البلدين نصب تذكاري واحد للضحايا الذين هم في أغلبيتهم، كالمعتاد، من فقراء المدن والقرى، يكتب الكاتب البريطاني طارق علي في الكلمة الختامية للكتاب.
رجل واحد هو الذي شيّد لهم صرحا تذكاريا أدبيا في شكل مجموعة من القصص القصيرة وهو الكاتب والصحافي سادات حسن مانتو. مانتو الذي ظل يقيم في بومباي حتى سنة 1948 ويعمل هناك كمؤلف سيناريوهات ناجح لدى شركات الانتاج السنمائي كان عليه بالأخير أن يرتحل إلى باكستان على إثر اتهامه بالانحياز إلى المسلمين.
التعصب الديني
في كتاب " خواطر سوداء" لا يكتفي مانتو باستعراض الأحداث الشنيعة، بل يحاول الاشتغال على تقصي أبعادها معتمدا في ذلك، من بين ما يعتمد، أسلوب سخرية لاذعة ومرة تستهدف المسؤولين عن تلك الجرائم فيما تحفظ كرامة الضحايا. ويظل في ذلك كله محافظا على اتخاذ مسافة حيادية، فلا هو ينحاز إلى جانب المسلمين ولا إلى جانب الهندوس.
في قصصه التي تأتي في بعض الأحيان شديدة الاقتضاب بما يجعلها شبيهة بومضات سريعة تنير حالة بعينها، يستعمل مانتو لغة مقتصدة خالية من الزخرف:
"أنا آسف!
يهوي على الرجل بسكين تخترق أمعاءه ثم يسحبها محدثا فتحة متقنة تنزل إلى ما تحت السرّة وتقطع معها حزام البنطلون. فجأة يصرخ الطاعن مذعورا: "يا إلهي، إنه شخص آخر!"
أما في أقصوصاته الطويلة فإن طريقة السرد التي يعتمدها تأخذ بلب القارئ وتجعله يشفق ويرتعب، ثم تحدث لديه شعورا بالارتياح لتنتهي بمواجهته مجددا مع المأزق الذي يفضي إليه عنف التعصب الديني الذي يظل يستولي مجددا على شخصياته. ذلك هو ما يحدث مثلا في قصة "وصية غورموخ سينغ" حيث تتم التضحية بصداقة عائلية عريقة لصالح الفتنة لتي تولعها الأحقاد.
وفي العديد من القصص يسلط مانتو الأضواء على أفراد من الذين يهمشهم المجتمع. في "توبا تاك سينغ" يكون المهمشون من الذين يتم إقصاؤهم كـ"مصابين بالجنون". بعد سنة أو سنتين من تاريخ الانفصال تقرر حكومتا الهند وباكستان أن يشمل تبادل السكان أيضا معتقلي مستشفيات الأمراض العقلية ببلديهما. من بين هؤلاء توبا تاك سينغ، وهو واحد من السيخ الذين يجب أن يتم ترحيلهم إلى الهند. وعندما يصل إلى نقطة الحدود يتسلق توبا تاك سينغ شجرة ويصرخ بأنه لا يريد الذهاب لا إلى الهند ولا إلى باكستان.
عالم اللاعقلانية
في عالم تسود فيه اللاعقلانية يفسح مانتو المجال لشخصية "مجنونه" لتنطق بالفكرة العاقلة الوحيدة التي مازال يسمح بها الواقع القاسي. وبالنهاية سيرى مانتو نفسه يتحطم بدوره على صخرة هذا الواقع فينقع أوجاعه في الإدمان على الكحول، ليدركه الموت في مدينة لاهور الباكستانية وهو في سن الثالثة والأربعين.
طارق علي الذي حرر كلمة الختام للترجمة الألمانية لهذه المجموعة القصصية هو أيضا من مواليد لاهور، وكان في الحادية عشر من عمره عندما توفي مانتو.
"لم يكتب لي الالتقاء به أبدا"، يقول طارق علي متحسرا ومعبرا في الآن نفسه عن تقديره للعمل الأدبي الذي قدمه مانتو وعن أهميته أيضا بالنسبة للرأي العام: "الكل يعلم بشناعات سنة 1947، لكن أقلية قليلة كانت تحب الكلام عن ذلك. هناك صدمة جماعية على ما يبدو قد أصابت أغلب الناس بحالة من البكم. عدا مانتو."
وكملحد يبدي طارق علي نفورا من كل نوع من جنون التعصب الديني. أما في ما يتعلق بالتعصب في كل من الهند وباكستان فإنه يلقي بالمسؤولية على البريطانيين بالدرجة الأولى الذين كان موظفو إدارتهم الاستعمارية يتعلمون منذ تكوينهم "كيف يحدثون الانقسامات بين الحكام المحليين ويشحذون جذوة المسبّقات العقائدية المتبادلة."
لكنه لا يبرّئ رجال السياسة الهندوسيين والمسلمين أيضا، الذين انساقوا إلى مخطط البريطانيين إما عن مصلحة أنانية أو عن غباء، كما يؤكد طارق علي. "واليوم مايزال ذلك الماضي يفرز تعفنه ويبدو أنه سيواصل تسميم المستقبل أيضا"، يصرح علي متخوفا.
ترجمة متأخرة
وقد جاءت أحداث السنوات الأخيرة لتقر للأسف بصحة تخوفاته. والآن يريد مسلمون من مقاطعة قوجارات التي كانت مسرحا لحملة تصفية ضد المسلمين في سنة 2002 العودة مجددا إلى قراهم الأصلية، لكن ممثلي المتساكنين الهندوس يضعون شروطا لذلك: أن لا يكون بإمكان هؤلاء المسلمين العودة إلا بشرط أن ينسلخوا عن ديانتهم ويعتنقوا المعتقد الهندوسي، أو أن يتنازلوا عن دعاويهم القضائية ضد ملاحقيهم.
لقد كتب سادات حسن مانتو قصصه بلغة الأوردو وذلك ما جعل ترجمتها إلى الألمانية تتأخر كل هذا الوقت، ذلك أن دور النشر الألمانية الكبرى ما فتئت تركز اهتماماتها على الأدب الناطق بالأنكليزية في الهند وباكستان. وفي الأثناء كان عمل مانتو قد نال مع ذلك منذ نهاية التسعينات إعجاب سلمان رشدي الذي صنفه من ضمن الكتابات الأدبية العالمية.
ويشير المختصون في العلوم اللغوية إلى أن كلا اللغتين، الأوردو والهندي تعودان إلى جذر موحد هو اللغة الهندوستانية القديمة، وأنهما لم يفترقا إلا مع مجيء الاستعمار في أواخر القرن التاسع عشر. وإلى اليوم ما تزال هناك تشابهات كبيرة ما بين اللغتين مما يجعل الناطقين بالهندي والأوردو يستطيعان التفاهم بيسر.
هذه القصص القصيرة التي يرويها مانتو تجلب الانتباه إلى جزء من تاريخ شبه القارة الهندية قد طبع بميسمه الدرجة القصوى من التنافر الحاصل بين الهندوس والمسلمين ويظل مع ذلك غير خاضع للدرس والمراجعة. وبالتالي فإن مانتو، وبواسطة ما تكشف عنه نصوصه بوضوح تام من شناعة التعصب والتطرف الديني، يكون قد قدم مساهمة مهمة في مسار التفاهم بين الطائفتين.
بقلم غرهارد كلاس
ترجمة علي مصباح
حقوق الطبع قنطرة 2007