الولع الرومانسي خلف البراقع السوداء
يعتبر الباعث لموضوع "عواقب العشق" من البواعث المألوفة في تاريخ الأدب الغربي، مثل قصة روميو وجوليت أو أنّا كارنينا أو بطلات الروايات المختلفة لـ"جاين أوستن". أما في عصرنا الحالي فلا يعرف المرء في الغرب "عواقب العشق"، إلا من خلال المسلسلات الروائية الطويلة على أقصى تقدير، وفي بلد مثل السعودية فلا يزال هذا الموضوع من المحرمات اجتماعيا. ومما يثير الدهشة أكثر أن الكاتب، الاريتري الأصل المقيم في لندن، سليمان الدنيا، جعل "عواقب العشق" موضوع أولى رواياته التي كتبها تحت عنوان "العاشقون في جدة".
الحب الرومانسي كنقطة الفرار
في بؤرة باكورة رواياته الخارقة يظهر الشاب ناصر الذي فرّ في الثمانينيات من القرن العشرين من إريتريا إلى الميناء السعودي جدة. وهناك كان عاش تحت إمرة "كفيله" الذي كان يستغله ويسيء معاملته بكل الأشكال. ولم تكن أحوال أصدقاء ناصر تختلف عن حاله، وحتى يهربون من حياتهم اليومية المليئة بالعنف والوحشية كانوا يحكون قصصا عن بنات جدة اللابسات البراقع وكيف يكتبن خفية رسائل صغيرة لعشاقهن ويجعلنها تسقط عَرَضا أمام المحبوب في أثناء مرورهن.
بهذه الطريقة تستطيع النساء اللاتي تعشن في عزلة تامة التواصل مع الشباب وأن يفصحن عن حُبّهن لهم. وفي يوم من الأيام حالف الحظ ناصر - المكتوب عليه الشقاء - أيضا ودون أن يدري وبينما كان مستندا إلى نخلة على كورنيش جدة مرت أمامه امرأة مسدلة برقعا أسود عليها من الرأس إلى القدم وأسقطت ورقة مطوية أثناء مرورها أمامه.
هذه المرأة المجهولة التي لم يرها تعترف في هذه الورقة بحبها الجارف له. ومن هنا بدأ ناصر ينتظر يوما بعد يوم وعلى أحر من الجمر لقاء تلك المرأة المجهولة التي سمّاها في نفسه "زهرة". هذه المرأة بدأت بالفعل تقر يوما بعد يوم بحبها له عن طريق الرسائل الغرامية. وحتى يستطيع ناصر أن يفرّق بينها وبين النساء الأخريات اللابسات البراقع السوداء كانت "زهرة" تلبس حذاءً قرنفلي اللون.
اختيار المرأة في جدة
جدير بالذكر في رواية سليمان الدنيا أن هذه الشابة السعودية هي التي كانت تبدأ في التقرب خطوة خطوة من محبوبها. لكن ناصر كان خائفا ومترددا ويقدم رجلا ويؤخر أخرى، ولا يريد أن يتخطى القوانين ولا أن يتعدى حدود "زهره" الشخصية. ولا غرابة في ذلك إذا وضعنا في الاعتبار خطر بوليس الآداب أو تحسبنا أن يحل عليه غضب الكفيل.
بيد أن العزم على دفع عجلة "الحب" بين زهرة وناصر يستحق الذكر أكثر. ذلك لأن مسرح الأحداث في السعودية وهي أكبر دولة قمعية في العالم ويسود فيها الفصل التام بين الرجال والنساء، الشيء الذي لا يوجد في أي بلد آخر من العالم.
محاط بنساء أقوياء
من المؤكد أن "زهرة" ليست نموذجا للمرأة السعودية فترة الثمانينيات من القرن العشرين عندما تغطي جسد صديقها بالعباءة من الرأس إلى القدم لتتمكن من اصطحابه معها إلى البيت على أنه إحدى صديقاتها، أو عندما ترفض بحزم الزوج الذي اختارته أسرتها لها. كل هذه الأمور كان يدركها سليمان الدنيا الذي تربى على يدي أمه وخالته. ويعبر عن ذلك قائلا: "لقد كنت دائما محاطا بنساء أقوياء، وسمعت في فترة إقامتي في جدة عن أمثال تلك الفتيات القويات. إنني أردت أن أبذل ما في وسعي لأبيّن أن المرأة السعودية لديها وسائل وطرق لتنفيذ مرادها، وفي أكثر الأحيان تكون هذه الوسائل أكثر مما عند الشاب ناصر.
آخر نظرة على المحبوبة
بيد أن مغامرة "زهرة" لم تكن نهايتها سعيدة، فقد قام أحد قرناء المدرسة سابقا، ويعمل حاليا لدى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (الشرطة الدينية)، بإفشاء سر صديقه مما أدى إلى القبض عليه ووضعه في السجن، ولكنه رغم ألم التعذيب لم يعط بيانات عن محبوبته. وأخيرا تم ترحيل ناصر خارج السعودية. وعندما كانت السفينة تغادر الميناء ظفر بنظرة على امرأة تلبس برقعا أسود وحذاءً قرنفلي اللون.
تعتبر رواية سليمان الدنيا ذات حبكة تاريخية محكمة وأسلوب لغوي مألوف. ومواطن قوتها تكمن في رسائل "زهرة" الغرامية التي دأب المؤلف على ذكرها بين الحين والآخر. وقد تأثر سليمان الدنيا، على حد قوله، في أسلوبه بكبار الكتّاب الأوروبيين أمثال توماس مان وتشارلز ديكنز.
لم يكن التقدير الذي نالته باكورة الأعمال الجديرة بالذكر بسبب روعتها الأدبية ولكن بالأحرى بسبب موضوعها. وتعتبر رواية سليمان الدنيا، بعد رواية رجاء الصانع "بنات الرياض"، من الكتب النادرة التي تحكي عن الحياة في المجتمع السعودي المعاصر.
بخطوات صغيرة نحو الحداثة
عاش سليمان الدنيا كلاجئ حرب أهلية، مثله في ذلك مثل ناصر، في جدة في الثمانينيات من القرن العشرين. واستمد واقع الرواية في المقام الأول من خبرته الشخصية، كما يقول المؤلف. بيد أنه لم تُسقِط أي امرأة رسالة أمامه، حسبما يقول سليمان الدنيا ضاحكا، ويقول عن ذلك: "كانت في المدرسة شائعة تروج ولا تريد أن تنتهي، ألا وهي أن هناك فتاة تكتب تلك الرسائل. وكل فرد أراد أن يعرفها من صديق أحد العاشقين الذين حصلوا ذات مرة على مثل هذه الرسائل. أما أنا فلم أتعرف يوما ما على أحد أولئك المحظوظين".
وبعد سفره إلى إنجلترا عام 1990 لم يذهب سليمان الدنيا إلى السعودية مرة أخرى، ويقول: "لكنني أسمع من شقيقي الذي لا يزال يقيم هناك أن كثيرا من الأوضاع تغيرت. وأعتقد أن الانترنت والتلفون الجوال جعلا الحياة أكثر سهولة على الشباب. إن البلد يتقدم بخطوات صغيرة نحو الحداثة، ولكني أشعر أن التقدم لا يمكن إيقافه هناك".
هل كانت قصة مثل قصة ناصر و"زهرة" ممكنة اليوم في عصر ماي سبيس و فيس بوك والبريد الإلكتروني والتلفون الجوال؟ ويجيب سليمان الدنيا على ذلك قائلا: "كانت ستصبح قصة أخرى، تلك التي لا أعرف عنها شيئا. ولكني أعتقد في وجود هذه الفتيات بهذه الرسائل بالفعل وأن وجودهن منحنا، نحن الصبيان، دائما أملا أننا سنقع في الحُب يوما ما. وهذا ما استحق مني كتابة رواية".
رشا خياط
ترجمة: عبد اللطيف شعيب
حقوق الطبع: قنطرة 2009
وُلد سليمان الدنيا في إريتريا لأب إثيوبي وأم إريترية. وبعد مذبحة "أم هاجر" عام 1976 قضى سنوات عديدة من طفولته في معسكر للاجئين في السودان. وفيما بعد عاش ودرس في مدينة جدة بالسعودية. ويعيش الآن في لندن منذ 1990. وتعتبر رواية "العاشقون في جِدة" باكورة رواياته.
قنطرة
وضع المرأة السعودية:
"أخيراً أصبح لنا صوت"
تعاني السعوديات من الوصاية، كما يصعب عليهن اقتحام سوق العمل بسبب القيود المتناقضة والمناهضة للنساء التي يفرضها القضاء السعودي فيما يتعلق بحرية الحركة مثلاً، بيد أن الأمور بدأت في التحسن شيئاً فشيئاً. زيلكه روده تستعرض وضع المرأة السعودية وحقوقها.
قصص نجاح سعودية:
سعودية تكافح من أجل النساء والأطفال في العالم
ترأس ثريا عبيد صندوق الأمم المتحدة للسكان، منصب قلما تتقلده امرأة. وتكافح عبيد على كل المستويات من أجل تحسين وضع النساء والأطفال.
المملكة العربية السعودية
هل يصمد الحجاب التقليدي أمام التغيرات الاجتماعية؟ التغيرات الاجتماعية؟
البرقع والطرحة والشال والنقاب هذه بعض نماذج الحجاب المستخدمة في المملكة. مصطفى الأنصاري تحدث مع بعض النساء السعوديات عن آرائهن باللباس الإسلامي وأهميته بالنسبة لهن.