"سأنتخب مرشحاً لا أريده...مقاومةً لليمين المتطرف" في أوروبا
منذ ثلاثين عامًا لم أعد أصوِّت في الانتخابات الرئاسية في فرنسا لبرامج سياسية. فأنا أصوِّت ضدَّ حزب الجبهة الوطنية (FN). وهذا ليس عملاً ديمقراطيًا، بل مقاومة. وإلى هذا الحدّ يجب ألاَّ تصل الأمور في ألمانيا مع حزب "البديل من أجل ألمانيا" (AFD).
في العشرين عامًا الماضية أصبحت ألمانيا الموحَّدة من جديد نموذجًا للديمقراطية والاندماج في أوروبا. لقد تغيرت ألمانيا بشكل إيجابي مذهل. وأصبح الألمان واثقون ومفضَّلون في العالم من جديد. وباتوا يتعاملون بشكل نموذجي في أزمة اللاجئين.
ضدَّ النظام وضدَّ أوروبا وضدَّ الإسلام
والآن أصبح صعود هذا الحزب اليميني المتطرِّف يشكِّل تهديدًا للسلام في ألمانيا. و"حزب البديل من أجل ألمانيا" يمكن مقارنته مع حزب الجبهة الوطنية في فرنسا: فكلا الحزبين ضدَّ النظام وضدَّ أوروبا وضدَّ الإسلام. كما أنَّهما يقدِّمان وصفات تشكِّك في قيمنا الديمقراطية ومن الممكن أن تمزِّق المجتمع المدني. لا يزال حزب "البديل من أجل ألمانيا" غير قوي مثل قوة حزب الجبهة الوطنية في فرنسا. ولذلك يتعيَّن على السياسيين الألمان أن يتعلموا من الإخفاقات الفرنسية في شأن اليمين المتطرِّف.
في البدء وقبل كلِّ شيء، يجب أن يتم أخد هذا الخطر على محمل الجد. فقد كان الخطأ الأوَّل في فرنسا هو تجاهل حزب الجبهة الوطنية. حيث اعتقد السياسيون الفرنسيون أنَّ بإمكانهم الاستمرار في الحكم من دون أن يأخذوا حزب الجبهة الوطنية بعين الاعتبار. وكانوا يعتقدون أنَّ حزب الجبهة الوطنية ليس فرنسا. وكذلك قاطعت وسائل الإعلام لفترة طويلة هذا الحزب - أو بصيغة أصح: لقد تجاهلته، بدلاً من أن تواجه حججه وبراهينه بالحقائق. والكثيرون من الفرنسيين باتوا يتحدَّثون منذ فترة طويلة حول "الصحافة الكاذبة". وكذلك تتم مهاجمة الصحفيين من قبل مسلحين مقتنعين بأنَّ وسائل الإعلام تحمي الأحزاب الراسخة في المشهد السياسي.
الانزلاق الفرنسي نحو اليمين
لقد نجحت الدعاية اليمينية في فرنسا. وبات لدينا توافق في الرأي على معاداة الإسلام والمزاج المعادي لأوروبا وكذلك المعادي لألمانيا. واليوم لم أعد أجرؤ في بلدي على الاحتجاج ضدَّ العنصرية. وحتى في القرى الواقعة في أعماق فرنسا، حيث كنت أتحدَّث دائمًا وبكلِّ سرور مع الناس اللطفاء أثناء العطل الصيفية، منح اثنان وأربعون في المائة من الناخبين أصواتهم لحزب الجبهة الوطنية. وهناك لا يوجد أجانب تقريبًا.
والنقاش في فرنسا لم يعد يدور حول "الحرية والمساواة والإخاء"، بل بات يدور وبشكل متزايد حول الأمن والأمان. واليوم باتت تتم وبكلِّ جدية مناقشة السؤال الأساسي عما إذا كان الإسلام جزءًا من مجتمعنا؛ وحتى عما إذا كان المسلمون سوف يحلون في النهاية "محلنا". فإلى أين وصلنا؟
من أجل مكافحة اليمين المتطرِّف عمل سياسيو فرنسا على تحذير الناخبين مرارًا وتكرارًا بالقول: ساعدونا في مكافحة حزب الجبهة الوطنية - بمنحكم أصواتكم لنا. وبهذه الاستراتيجية "المضادة لحزب الجبهة الوطنية" استطاع الكثيرون من السياسيين البقاء في السلطة، على الرغم من أنَّهم بالذات كانوا أسباب اليمين المتطرِّف. ولكن ما نفع صوت الناخب "ضدَّ حزب الجبهة الوطنية" عندما يكون السياسيون أنفسهم متورِّطين ويقدِّمون وعودًا كاذبة؟
تعامل خاطئ مع اليمينيين
إنَّ التعامل الخاطئ مع حزب الجبهة الوطنية يؤدِّي منذ ثلاثين عامًا إلى إصابة الديمقراطية الفرنسية بالمرض. والأحزاب المعترف بها منقسمة وقد فقدت اتِّجاهها. وأغلب هذه الأحزاب ترد بشكل مذعور وتحاول تقليد حزب الجبهة الوطنية، من أجل المحافظة على ما يمكنها المحافظة عليه.
لقد بدأ المرشَّح الرئاسي جاك شيراك في عام 1991 بخطابه التحريضي ضدَّ الأفارقة والمسلمين. وفي تلك الأيَّام قال إنَّ بإمكانه أن "يفهم" أنَّ الفرنسيين يغضبون عندما يحصل "هؤلاء الأجانب" من خلال الخدمات والمعونات الاجتماعية على مال أكثر مما يحصل عليه الفرنسيون من خلال عملهم. وأضاف متسائلاً: هل يجب على الفرنسيين "أن يحتملوا بالإضافة إلى ذلك الضجيج والرائحة الكريهة؟".
أمَّا الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي فقد استمر في هذه السياسة. وقبل أن يؤسِّس وزارته المعروفة باسم "وزارة الهوية"، وعد بأنَّه سوف يعمل على "تنظيف" الضواحي - التي يعيش فيها المهاجرون والفقراء - "بمنظفات الضغط العالي".
هذا "المفهوم" هو أخطر كلمة، لأنَّ مَنْ يَرْغَب في أن يمارس سياسة محترمة، يَجِب عليه أن يُقلِّل من مخاوف المواطنين. وعدا ذلك فسوف يستفيد في نهاية المطاف دائمًا حزب الجبهة الوطنية. وفي ألمانيا لا توجد استراتيجية ضدَّ حزب "البديل من أجل ألمانيا". ولذلك لا يكفي أن نقول: إنَّ هذا الحزب مثيرٌ للاشمئزاز وسوف يختفي بمجرَّد انتهاء أزمة اللاجئين.
وكذلك إنَّ السخرية من "حزب البديل من أجل ألمانيا" ليست حلاً. نحن جرَّبنا ذلك في فرنسا. ولم نعد نضحك. وفي ولاية سكسونيا الألمانية خاض الحزب المسيحي الديمقراطي (CDU) هذه التجربة. حيث كان يُقال في تلك الأيَّام إنَّ هذه الولاية تقف دائمًا ضدَّ اليمين المتطرِّف. لقد كنت أسمع هذا في فرنسا أيضًا - قبل عشرين عامًا. والحزب المسيحي الديمقراطي في ساكسونيا يحصد الآن، مثلما هي الحال لدينا (في فرنسا)، ثمار سياسته العمياء.
ولحسن الحظ لا تزال توجد كوادر سياسية محترمة في ألمانيا، غير أنَّ ميول بعض السياسيين إلى المزيد من التشدُّد مع الأقليات تظهر أنَّ هذا الإخفاق في ولاية سكسونيا يمكن أن يتكرَّر في أماكن أخرى. إذ تحاول بعض الأطراف في الحزب المسيحي الاجتماعي (CSU) أن تفوق حزب "البديل من أجل ألمانيا" في يمينيَّتها. ويا له من خطأ! فالناخبون لا يريدون نسخةً، بل يختارون الأصلي. وهذا بالذات ما حدث في فرنسا. وكذلك سوف تكون الحال في ألمانيا. وبمثل هذه الاستراتيجية سوف تنقسم الأحزاب المسيحية.
تراجع دولة القانون في فرنسا
يجب على السياسيين الألمان أن يحافظوا على مسارهم. ويجب عليهم أن يقدِّموا البراهين والحجج من أجل دولة القانون والديمقراطية، وعدم إبداء أي تفُّهم لليمينيين. في فرنسا كان يُقال في السابق، إنَّ حزب الجبهة الوطنية يطرح أسئلة جيدة، ولكنه لا يملك حلولاً جيدة. ولكن في هذه الأثناء صار الفرنسيون ينظرون إلى حزب الجبهة الوطنية كبديل حقيقي. وخطوة تلو الأخرى أرى في فرنسا منذ عشرين عامًا تراجعًا في دولة القانون.
والآن يبدو الأمر مثلما كان في جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية): يُستخدم إجراء سحب الجنسية كسلاح من أجل المزيد من الأمن والأمان. فأي سياسي يعتقد اعتقادًا جادًا بأنَّ هذا الإجراء يمكن أن يمنع الإرهابيين؟ لقد قرَّرت هذا الإجراء حكومة يسارية من أجل إبعاد الناخبين عن حزب الجبهة الوطنية.
ولكن في النهاية سوف يفوز مرة أخرى حزب الجبهة الوطنية. وفي الانتخابات الأوروبية في عام 2014 كان هو أقوى حزب في فرنسا بنحو خمسة وعشرين في المائة من الأصوات. وفي الانتخابات الرئاسية في عام 2017 من الممكن أن يفرض نفسه كأقوى قوة قبل جولة الإعادة. وهكذا فأنا سوف انتخب مرة أخرى مرشَّحًا لا أرغب فيه، لكي أقاوم "حزب الجبهة الوطنية". ولكن إلى متى؟
كريستوف بوردوازو
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: زود دويتشه تسايتونغ/ موقع قنطرة 2016 ar.qantara.de