حياة كاملة في حقيبة

تجلس نعمة الشيخ، 60 عامًا، داخل منزل شقيقها في أزقة مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، وتحت سماء رمادية مثقلة بدخان البارود، بعد أن اضطّرت للنزوح من بيتها في مخيم جباليا شمال القطاع إثر أوامر إخلاء من الجيش الإسرائيلي.
تتشبث الشيخ، وهي أم لأربعة أبناء وحفيدين، بحقيبة متهالكة رقّعتها أكثر من مرة، تتدلى منها قطعة قماش ملونة كعلامة مميزة. تفحص محتوياتها باستمرار، مستعدة للفرار في أيّ لحظة. تقول: "نزحت أكثر من تسع مرات منذ 20 أكتوبر/تشرين الأول 2023. هذه الحقيبة لا تفارقني، أنام وهي بجانبي، فيها ذاكرة بيتي المدمر".
"خزانة متنقلة"
في غزة، لا تُجهَّز الحقائب للرحلات أو العطل، بل للهرب من القصف. الرحلة هنا ليست خيارًا بل إجبار، بلا وجهة أو موعد أو تذكرة. تجد أم أحمد، كما تُلّقب، حقيبة النزوح بمثابة "خزانة متنقلة" تحمل ما يمكن إنقاذه من حياة تحت التهديد الدائم.

تقول إن اختيار محتويات الحقيبة لا يتم اختيارها عشوائيًا، بل وفق احتياجات العائلة، والارتباط العاطفي لكل غرض، ويتم المفاضلة أحيانًا بين هذه الأغراض. كما تبقى مهمة إعداد الحقيبة حصرًا على الأم، أما بقية المهمات تُوزّع على أولادها، ما بين حمل بعض الأغطية والمفروشات، جالونات المياه، وبعض أغراض المطبخ.
إنها ليست مجرد حقيبة، بل مختصر حياة كاملة، مقسمة إلى أجزاء، توضح أم أحمد،: "بها أوراق هوية، وشهادات الميلاد، وأدوية، وأشياء عزيزة عليّ كخاتم زواج أهداه لي ابني أثناء زواجه، وثوب فلاحي مطرز لوالدتي، ومصحف صغير، ومسبحة". يوجد بها أيضًا، بعض معلبات طعام مثل الفاصوليا والبازلاء، والفول.
ومع كل موجة نزوح جديدة تحت إثر أوامر الإخلاء التي ينشرها الجيش الإسرائيلي، تتكرر نفس المشاهد: تحذير، وصوت صاروخ، ودقائق معدودة، ورجال ونساء وأطفال يحملون حقائب يركضون بحثًا عن مأوى. وفق الأمم المتحدة، نزح ما لا يقل عن 1,9 مليون شخص - أو حوالي 90 بالمئة من السكان - في جميع أنحاء قطاع غزة خلال الحرب، وقد تعرّض العديد منهم للنزوح مرارًا وتكرارًا، بعضهم 10 مرات أو أكثر.

"لم يتبق شيء سوى ما في حقيبتي"
تزوج محمود عوض الله، 34 عامًا، قبل عام من الحرب، وكان يحلم بحياة دافئة مع زوجته وابنته الرضيعة سيلا، لكن الحلم تحول إلى كابوس مع بداية الحرب.
"منذ بداية الأحداث، جهزت زوجتي الحقيبة السوداء، التي كنا نسافر بها في الصيف، تحسبًا لأيً ظرف طارئ"، صمد عوض الله مع عائلته الصغيرة في منزلها بحي النصر غرب مدينة غزة حتى ليلة 6 يناير/كانون الثاني 2024، عندما فرّوا جميعًا جنوبًا إلى دير البلح مع اشتداد القصف بمحيط منزلهما.
"ركضنا تحت النيران، أنا أحمل الحقيبة وطفلتي، وزوجتي تركض بجانبي وهي بالكاد قادرة على السير". يتذكر عوض الله، ذلك اليوم حين نسيت زوجته لعبة ابنته أثناء الفرار، فبكت الطفلة ولم تهدأ. عاد الأب، في اليوم التالي وخاطر بحياته ليحُضر اللعبة من المنزل. منذ ذلك الحين، نزح محمود وعائلته خمس مرات، وقد تدمر منزلهما لاحقًا بعد أشهر من الفرار منه.
تحتوي الحقيبة على؛ عبوة حليب، وحفاظات، وألعاب طفلته، وفستان عيد ميلادها الأول، وشاحن للهاتف، وذاكرة فلاش تحتوي على صور ولادتها ورحلاتهم العائلية، "لم أكن أتخيل أن حقيبة السفر للبحر، ستصبح رمزًا للنزوح والوجع".

تقول زوجته نسرين، 27 عامًا: "في الحقيبة لا يوجد مكياج ولا عطور ولا شيء من الإكسسوارات الخاصة كعروس جديدة ... لم أكن ذاهبة لرحلة بل كنت أهرب من الموت".
تتحسر نسرين، على فقدان جهاز عرسها وأثاث بيتها الجديد الذي اشترته بمال جمعته بصعوبة، "لم يتبق لي شيء سوى ما حملته في تلك الحقيبة".
لا يزال محمود وزوجته نازحين في أحد مراكز الإيواء بمدينة دير البلح وسط غزة، وكل لحظة ينظر لحقيبة النزوح، كأنها بيته القديم مطويًا على بعضه. فيما يحلم الزوجان بنهاية الحرب لإعادة بناء منزلهما وتربية طفلتهما بأمان.
قنطرة ©