ثورات إلى حين أو أنّها كذلك
يبدو لي أنّ من الصعب انتقاء إجابات محدّدة على أسئلة تسترجع تجارب متراكمة تلازم فيها، ما يمكن وصفه بـ اليقين الثوري، مع خيبات التحقق، وتقادم المرجو. كما أنّ ليس من السهل توصيف ما حدث ويحدث من تحوّلات، وتحديد وجهتها الاجتماعية والثقافية، لكونها مازالت في حال تشكّل. (الشعب يريد إسقاط النظام) هو الشعار الذي جمع معظم هذه التظاهرات والاعتصامات، كما في تونس، مصر، ليبيا، اليمن، الجزائر، السودان وغيرها. وإذا خُفّف فإلى (الشعب يريد إصلاح النظام)، في البلدان ذات النظم الملكية، كالبحرين وسلطنة عمان والأردن والمغرب. من هذا الشعار الرئيس يمكن أن نتفحّص، ولو في إشارات، واقع حال النظام العربي المطلوب إسقاطه، وكيفية إسقاطه، وإلى أيّة وجهة سيتشكل البديل.
نظام اللا نظام
طوال الأزمة الليبية ظل معمّر القذافي يقول إنّه ليس رئيس ليبيا وأنّه لا يحكم، مستغرباً من مطالبة الليبيين له بالتنحي عن السلطة. في قوله هذا، كان يعطي لنفسه مكانة أكبر من رئيس أو ملك. إنّه أكبر من الصفتين، فهو المجد، على حد وصفه، الزعيم والقائد، قائد الثورة والملهم الثوري العالمي، ملك ملوك إفريقيا. ولأنّه خارج أي تصنيف سياسي، له أطر دستورية وقانونية، فهو فوق أيّ نظام؛ أمّا الدولة فليست سوى صفة مجازية، غير محقّقة، كاسمها (الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية العظمى). مع كل هذا المجاز الوصفي لحاكم، يرى نفسه فوق الحُكم، ونظام يصفه بالشعبوي ويعتبره صاحب السلطة، لا يمكن إنكار حال محقّق في الواقع، نجده في ممارستين، الأولى: أنّ القذافي، هو (صاحب الأمر) في ليبيا، ولا رأي فوق (أو مقابل) رأيه، إلاّ إذا كان من ابنه سيف الإسلام، فرأي ابن القائد، إذا وُجِّه إلى ناس ليبيا، يعتبر كرأي أبيه بمثابة الأمر؛ مع أنّه، كأبيه، لا صفة له في الدولة. الممارسة الثانية، تكمن في التصرّف بثروات البلد، إذْ أنّ القائد وحده له حقّ التحكم بهذه الثروات، وتحديداً عوائد النفط، ولا لأحد حق المساءلة عن حجمها، ولا إلى أي رصيد بنكي ذهبت. سواء أدخلت باسم الأب أو الابن، فإنها في جيب ليبيا، إذ هما من يمثلان البلد، بل هما البلد. لا تُذكر ليبيا إلاّ وذُكر القذّافي، كما قال في إحدى خُطبه.
هكذا، يبدو الأمر، وصاحبه، كأنّه خارج نظام الدولة، كأنّه تلطّف من مُوجد الدولة (كما يعتبر نفسه)، ولا مَردّ له، أمّا المال، فهو بعض الدولة، رصيدها الذي بدأه المُوجِد، وإليه ينتهي، يهب ما يشاء لمن يشاء. الصورة لا تُظهر، بهذا التمام، المصري حسني مبارك أو اليمني علي عبدالله صالح أو التونسي زين العابدين بن علي، لكنّها، لا تبدو، أيضاً، أنّها مختلفة سوى في الإطار. في هذا المستوى، يمكن تشخيص حال الحاكم العربي، منذ منتصف القرن العشرين. لقد تعدّدت الأوصاف والحال واحد. الحاكم هو الكل، وفوق أيّة مساءلة أو محاسبة. يستمد شرعيته من الثورة، من قيادته لها، كجمال عبدالناصر ومعمّر القذّافي؛ أو من تحقيق الاستقلال الوطني كبورقيبة، أو من وراثة ملكية عائلية لها الحاكمية المطلقة، كدول الخليج والأردن والمغرب. هناك شرعية تصحيح مسار الثورة وإعادتها إلى خطّها القومي كصدام حسين، أو تصحيح مسار خط دولة الاستقلال كحافظ الأسد وزين العابدين بن علي، الذي انقلب على بورقيبة بعد تنصيب نفسه رئيسا للأبد. شرعية تحقيق الاستقرار والحفاظ على أمن الوطن اتكأ عليها مبارك لمجيئه بعد مقتل السادات من قبل الإسلاميين، وبوتفليقة الذي جاء برغبة الجيش لتثبيت السلطة في مواجهة الإسلاميين وحروبهم المتطلعة إلى السلطة. هناك، أيضاً، شرعية الانقلاب العسكري المنقذ للوطن ووحدته كما عمل عمر البشير في السودان والمشير علي عبدالله صالح في اليمن، ففي سبيل الوحدة الوطنية ألغى الأول التعددية الحزبية وانقلب على المشروع الديمقراطي، فيما قام صالح في سبيل انفراده بالحكم بشن حرب صيف 1994على شركائه الجنوبيين في تحقيق الوحدة (الحزب الاشتراكي اليمني)، ليحوِّلهم من وحدويين إلى دعاة انفصال.
جميع هذه الشرعيات، المذكورة هنا، كمثال، اتفقت على نظام اللانظام فالدستور إن وجد أو لم يوجد، كحال ليبيا، غير معمول به. يمكن تفصيله في أيّ وقت يريد الحاكم، سواء لتوسيع صلاحياته أو لتمديد فترة رئاسته إلى أن يموت، ووضع شروط لا تسمح لأحد الترشح للرئاسة، من بعده، سوى ابنه.شرعيّات، بعضها اعتمد على انتخابات واستفتاءات شعبية، يمكن للمنظمات الدولية أن تراقب سلامة وصحة إجراءها. عادة ما يعلن أنّها شفّافة وغير مزوّرة، رغم كلّ المشكّكين. ما يبدو لي أنّ المشكلة لم تكن في مدى نزاهة الانتخابات، أو تزويرها، وإنّما في قهرية الإنسان، المسمّى مجازاً بالمواطن، والذي أصبح معها مجرّد كائن مشلول، مستلب ومطيع لسلطة جبّارة متحكّمة، لا تسمح له بأيّ خيار غير الاستكانة التي معها وحدها يصير العيش ممكنا (العيش يعني الخبز، كما يعني المعاش، المرادف للحياة).
للحاكم حزبه وعشيرته، وطائفته. من الحزب يصطفي النابهين في تسيير الأمور والمال، الناهبين لكل شيء. من العشيرة يُسلّط المُقرّبين، ومن المقرّبين يختار الأبناء ورثة للحكم وغناه. للعون الإخوان وأبناء الإخوان، وأزواج البنات، وما كان أقرب. لا إدارة سواهم، ولا تجارة، إلا من سعى وسخّر له المقرّبون مُراده، بثمن باهض وذِلّة. واقع السلطات لا يختلف، في الأنظمة الملكية والأميرية، إذْ لا مرجعية دستورية لها، وتحكم بشكل مطلق. تستأثر الأسر الحاكمة فيها بما تحت الأرض وفوقها من ثروات. وتكاد الطائفية المذهبية أن تكون سمة مشتركة لمعظم السلطات، من خلالها يمارس التسلط الاستبدادي والفساد الإداري والمالي، بمرجعية تمييزية، أو تقاسمية. في المقابل المعيشي لمعظم النّاس، هناك طبقات تنهار إلى الأدنى، فقر يتّسع، بطالة تنتشر، وشبه انعدام لأمن حياتي وصحّي. أمّا المواطنة المتساوية فمستحيلة التحقق مع هيمنة العلاقات القرابية والطائفية والقبلية، واعتماد الرشوة المالية في أي مطلب حكومي؛ إلى جانب تخلّف التعليم وتكريس أحادية ثقافية تحرّض ضد العقلانية والانفتاح الفكري، وتسترجع ما يوافقها من التراث الديني. انعدام حرّية التعبير عن هذه المعاناة والقضايا، لم يدع للكثيرين سوى الأنّات، أو التأوهات، التي بقيت تكبر وتكبر. أصبح من المحال كبتها، حتى وإن حاول أصحابها، أنفسهم، ذلك. لقد صارت صراخاً وغضباً، صارت ثورة، أو ما يشبهها.
السقوط أولاً
هل يمكن لهذا الوضع أن ينتج ردود فعل مسالمة، وغير عنيفة، ردود تقترب من الديمقراطية أكثر من مماثلتها لسلوك الحاكم وسلطته؟ مضت عقود، قبل أن يتراجع الماركسيون عن هدفهم في تحقيق حتميتهم الاشتراكية، وقبل أن يكتشف القوميون أن حقوقهم أولى من تحقيق الوحدة العربية، حيث الحزب القومي صار حزب العشيرة والعائلة، كما مضى زمن قبل أن يتحقق الوطنيون الوحدويون أنّ تكامل الوطن الواحد، في مركزية مهيمنة، هو تكامل لامتلاك الحاكم لكل ثروات البلد ومدخولاته. وقت طويل مضى إلى أن تأكّد الإسلاميون بدورهم أن شعار (الإسلام هو الحل) لا يمكن تحققه بدون وسائل وطرق حديثة. كان على الكثيرين أن يتعايشوا مع شعارات: العروبة أولاً، الوطن أولاً، الوحدة أولاً، فلسطين أولاً. شعارات قدمت في زخارف أيديولوجية أعمت البصر والبصيرة، ولم تتح الفرصة للبحث فيها، فلا نقاش حول ما سمّيت بالثوابت الوطنية والقومية العليا، ومن رغب بالنقاش، مجرّد الرغبة، فقد خان، خان كل شيء، الله والوطن والشعب، أما الحارس الأمين على هذه الثوابت والمحدّد للخائن وعقابه، فهو زعيم الأمّة وخلاصة الشعب وقائده.
في الأخير وجد الكثيرون أنّ من المهم الحوار بين معظم القوى السياسية، وحدثت كثير من التحالفات الحزبية في تونس والسودان واليمن ومصر والمغرب. كان هناك، كمثال، حركة (كفاية) في مصر، التي أنضم إليها الكثيرون، من مختلف الاتجاهات، وتكتل أحزاب اللقاء المشترك في اليمن الذي تحالفت فيه أحزاب يسارية، ماركسية وقومية، مع أحزاب إسلامية، سنّية وشيعية. يمكن القول أن مطلب سقوط النظام العربي كان أهم الأولويات، التي التقى حول تحققها أكثر القوى السياسية والاجتماعية. لم يكن هناك من أهداف محدّدة أخرى، إلاّ أن الجميع كانوا يعتقدون أنهم سيصنعون نظاما بديلاً. قد يحلم إسلامي بالخلافة الإسلامية، وقومي بالوحدة العربية، ولبرالي بالديمقراطية، واشتراكي بالعدالة الاجتماعية، لكنه يدرك أن الثورة لن تلبّي مطمحه بمعزل عن مطامح الآخرين، والثورة لن تكون بدون الآخرين.
ثورة الفيس ناس
يصف البعض حركات التحوّلات بأنها ثورات الفيس بوك، فيما يرى كثيرون أنها ثورة الشباب. آخرون يعتبرونها ثورة الإعلام والصورة، ولا يتردّد مشكّكون من القول أنها ثورة الجماعات والحركات الإسلامية. لا تعطينا القراءة، شبه المتفحّصة، لما حدث إجابة محدّدة، لكنّها قد تقدّم لنا انطباعاً آخر. فالمعارضة الحزبية كانت موجودة قبل انتشار الفيس بوك وتويتر، ولم يغب صوتها، رغم القمع ومصادرة حرّية الأحزاب والتعبير. مع هذا، فمن الواضح أن توسّع وسائل الإعلام الحديثة، أدّى إلى توصيل صوت هؤلاء المعارضين، ابتداء من القنوات التلفزيونية الفضائية، التي امتازت بهامش ديمقراطي في نشر الرأي المختلف، ثمّ انتشار المواقع والمنتديات الالكترونية والمدوّنات كصحافة شعبية واسعة، وصولاً إلى ارتباط الناشطين في شبكات اجتماعية واسعة عبر الفيس بوك وغيره، في ظل تقنيات حديثة وسهلة توفِّر المعلوماتية بالصوت والصورة، وتسمح للجميع بإعادة تشكيلها، في سياقات تلبّي رغبات المعارضين، من خلال تقديمهم لها كوثائق واضحة ودقيقة عن انتهاكات السلطات، وممارستها السياسية والإدارية الفاضحة والمخادعة.
ربّما، لم يكن التونسي محمد البوعزيزي، حين أقدم على حرق نفسه احتجاجاً على النظام المحلّي، سيثير موجات الغضب، لو لم يقم بوعزيزي آخر بتصوير اللحظة وتوزيعها، على نطاق واسع. الثورة المصرية، أيضاّ، كان من الواضح أنّها قد أاكتملت مع توسع الاحتجاجات الشعبية ضد تعذيب وقتل المعارضين السلميين من قبل أجهزة الأمن، بعد نشر تسجيلات مصوّرة تكشف هذه الممارسات. وكانت صفحة (كلّنا خالد سعيد) في الفيس بوك إحدى مظاهر الاحتجاجات الحادة التي أنضم إليها عشرات الآلاف. يمكن القول إنّه التراكم الذي أدّى إلى الثورة، تراكم كل شيء: القمع والرفض، الفقر والأنين، المنع والمعلوماتية، التزييف والتوثيق، التستر والفضيحة.
أمّا ما يمكن اعتباره المؤشر الأهم في منطلقات الاحتجاجات فهي الدعوة إلى الخروج للشارع، للتظاهر والاعتصام فيه، حتى تحقيق المطالب المتصاعدة إلى حد الثورة. اكتشاف الشارع ترافق مع تجاوز الخوف من قوّات الأمن والجيش، وكلّ ما تناقلت الأخبار المصوّرة عن ازدياد القمع وعدد القتلى والجرحى، أزداد الخروج إلى الشارع. إلى ذلك، يبدو لي أن القواسم العربية المشتركة كانت وراء تمدد الثورات وانتقالها. فقد ظلّت الشعارات القومية غير فاعلة، لتحوّل الأحزاب الحاملة لها إلى سلطات عشائرية وعائلية ضيقة، إلاّ أن القيم التربوية التي يتعلّمها الطلاب في مختلق المدارس العربية عن روابط الدين واللغة والجغرافية والتاريخ، بين بلدان تُجمع عادة من قبل هذا الخطاب في إطار واحد يوصف بـ (الوطن العربي)، كان لها أثرها في تحفيز الشعوب العربية في المضي على طريق الثورة التونسية.
ولأنّ الأحوال السياسة والاجتماعية كانت متشابهة في أكثر من بلد عربي، فقد بدا، وكأنّ من الواجب أن تثور الشعوب الأخرى، في الدول العربية. ويشبه الحال، في التأثير، ما حدث في منتصف القرن العشرين، حيث الحركات الثورية والانقلابية العربية اندلعت إثر ثورة يوليو 1952المصرية، التي أجّجت المشاعر القومية المشتركة. ما يلاحظ، إلى جانب ما سبق، أن عدم التدخل المباشر من قبل البلدان الخارجية كان له أثره في نجاح الثورات، فإذا كان معظم العرب لم يقبلوا أسلوب سقوط نظام صدّام حسين، ولم يروا أن بالإمكان المضي على منواله، فلأنّه لم يأت بفعل قوى الدّاخل وإنّما بمساعدة دول خارجية، ما زال الشعور القومي العربي يرفض تدخلها، بسبب أن معظمها، تحقيقاً لمصالحها، تتحالف مع السلطات المستبدة المرفوضة من قبل الكثيرين. لهذا كانت هذه الثورات بمثابة التصحيح لأسلوب إسقاط النظم، بدعم من الخارج، كما حدث بعد أحداث 11 سبتمبر في أفغانستان والعراق، فهذه الطريقة لم تنجح سوى شكلياً، وما زالت المشاكل تتناسل منها. لكنّ، مع هذا، أظنّ أن التدخل الخارجي مهمّ في كثير من الأحيان، خاصة إذا كان يهدف إلى إيقاف القتل الجماعي الذي تمارسه السلطات الاستبدادية، كما حدث في ليبيا. تبعاً لقراءة عوامل تحقّق التحولات، يبدو لي أنَ عدم وجود خطاب أيديولوجي محدّد للثورات كان من أبرز عوامل نجاحها؛ فمن يقبل بأن يحكم حزب بمفرده أو حركة بمفردها قبل إجراء انتخابات ديمقراطية يديرها ويشارك بها الجميع.
ثورات إلى حين
ترددت الكثير من التخوفات حول مستقبل الثورات، وشكل سلطاتها، ومن ذلك ما يخشاه البعض من أن تكون مصير هذه الثورات كمصير الثورة الإيرانية. لم أجد أيّ مسبّبات لهذه المشابهة، فالثورات الجديدة، لا تحمل خطاباً أيديولوجيا محدداً، ولا تعبّر عن حزب سياسي، كما في حال الثورة الإيرانية. ولا أظن تحقق التخوفات المحلية من استيلاء الإسلاميين على السلطة، لسبب واحد، هو أنّ شرعية الثورات ترجع لجميع المشاركين فيها؛ ومهام السلطات الانتقالية، حددت في إيجاد دساتير ديمقراطية جديدة، وترسيخ انتخابات نيابية ورئاسية متكافئة وشفّافة، توصل إلى سلطات جديدة.
وطمأن الإسلاميون في تونس شركاءهم في الثورة، حين أعلنوا عدم رغبتهم في الترشح للرئاسة في المرحلة القادمة، وهو ما أعلنه الإخوان المسلمون في مصر. وأبدت حركة النهضة التونسية تفسيراً لرفضها مسألة منع الحجاب على المسلمات أيّام بن علي، إذ ظلّت تؤكّد أنّها لا تسعى إلى فرض الحجاب، وإنما إلى حرّية اللبس؛ واعتبرت قانون الأحوال الشخصية الذي يعطي المرأة حقوقا متساوية للرجل نوعاً من الاجتهاد. وفي ليبيا رفع الإسلاميون مع حلفائهم شعار: "لا قبلية لا قبلية.. لا إمارة إسلامية"
تبعاً لهذه التخوفات، لم يعلن ناشطو الثورات أيّ مواقف ضد الدول الغربية، أو عملية السلام مع إسرائيل. مع هذا، فالجدل الذي أثير حول خلفيات العلاقة وماضيها، يشير إلى أن عاصفة الثورات، ربّما، تمتد من الشرق إلى الغرب لتصحِّح مسار العلاقات، المرتكزة على المصالح غير المتكافئة؛ باعتبار أنّ المصالح ليست بالضرورة محققة وآمنة مع سلطات مرفوضة. ولا يعني ذلك، كما أظن، إلاّ المزيد من التفاهم والتكامل الإنساني.
هناك متطرّفون، كتنظيم القاعدة، لن يسرّهم هذا التقارب، كما يبدو لي. وربّما تنحسر فعالياتهم، لنشوء معارضة لهم من قبل التحالف الجديد، الثوري الواسع. فعدم مشاركتهم في الحركات التغييرية سيؤدي إلى عزلهم اجتماعياً. مع أنّ صوتهم لن يختفي سريعاً، وقد يمضي وقت حتى يتم ترويضهم أيديولوجياً وسياسياً واجتماعياً. ربّما، كما رُوِّض من قبل الإخوان المسلمين والماركسيين، الذين لم يكونوا يقبلوا بالآخرين. إذا ما تُركت هذه التخوفات لمبرّراتها، فإنّ توقعات مقاربة للحال، تشير إلى أنّ معركة الحداثة الاجتماعية لن تنتهي، أو تتراجع بعد الثورات، بل ستتأجج أكثر، لتكشف مدى الحاجة إلى المعرفة العقلانية، وإلى مساءلة دور الدين في المجتمع وهيمنة خطابه المرجعي الأحادي، الذي تناسلت منه معظم القيم والسلوكيات الاستبدادية. كما ستبقى الكثير من القضايا ملحّة، كمشكلتي الطائفية والقبلية، وحقوق المرأة، وحرّية الاعتقاد والفكر والتعبير، وتغيير القوانين التي تسمح بمحاكمة مفكّرين، كما كان في مصر.
ويبقى سؤال الأسئلة: هل سيكون هناك إستراتيجية للتحديث، أم أن كل حزب سيسعى إلى فرض أيديولوجيته، حين يتاح له الوصول إلى السلطة؟ هل يمكن أن تنسى سلطة ما أنّ الشارع يستطيع أن يسقطها في أيّ حين، كما أسقط سابقاتها؟ ربّما كان ثمن الخروج إلى الشارع كبيراً، لكنّه، قد لا يبقى على هذا النحو، في المستقبل.
علي المقري
حقوق النشر: معهد غوته ومجلة فكر وفن 2011
روائي وشاعر يمني، له ثمانية كتب، آخرها رواية "اليهودي الحالي".