ذاكرة الخوف التي تصنع طاغيتها

في منزلي الصغير، الذي بالكاد يتّسع لي ولأفكاري، وارتفع إيجاره مؤخرًا إلى 250 دولارًا. جلست أتابع عبر وسائل التواصل الاجتماعي مجريات الأمور في البلاد، التي انفجرت مؤخرًا على نحوٍ فوضوي؛ من انتهاكات وقتل وخطف، إلى انفلاتٍ أمني واسع، وسط عجز الحكومة الانتقالية التي يرأسها أحمد الشرع، الرئيس السوري المُعلن للمرحلة الانتقالية، والمعروف باسمه الحركي "أبو محمد الجولاني". لم أكن أملك رفاهية متابعة الأحدث أولاً بأول، فالكهرباء أصبحت ضيفًا مترددًا ثقيل الظل.
ما شاهدته يومها لم يكن بعيدًا عن المشاهد التي اعتدناها طيلة العقود الماضية، ابتسامات المسؤولين الصفراء ذاتها، شعارات مستهلكة مكررة، وتصفيق وتهليل جماعي يعيدني إلى مرحلة أحاول يوميًا التخلص منها.
الجديد هذه المرة؛ أن المشهد السياسي الذي يُمدَح ويُروَّج له، تقوده شخصية كانت حتى وقتٍ قريب مدرجة على قوائم الإرهاب الدولية.
والآن تُقدم كصمّام أمان ورئيس للمرحلة الانتقالية؛ وربما ما بعدها!

إرث الأسد الباقي
لطالما استخدم نظام الأسد حماية الأقليات ذريعةً لتأليب الطوائف السورية المختلفة على بعضها البعض، فيما لا تزال الجراح العميقة التي خلّفها تتجلى في صورها العنيفة إلى اليوم، من مجازر الساحل إلى السويداء.
قبل أن يتصدّر هذا البطل المغوار المشهد، كان قد سلك درب الجهاد والقتال تحت راية تنظيم القاعدة في العراق، وبعد اندلاع الثورة السورية، عاد ليرسم ملامح مشروعه الخاص من خلال جبهة النصرة، التي ما لبثت أن تحوّلت إلى هيئة تحرير الشام.
تدريجيًا، بدأ بتصدير نفسه، ومن معه، كرجال دولة، ممهّدًا الطريق لانتقاله من قوائم الإرهاب إلى كرسي الحكم، ومن "المجاهد أبو محمد الجولاني" إلى "الرئيس السوري أحمد حسين الشرع".
تشكيل حكومته، الذي تنبأتُ أنه سيكون محطّة سياسيّة فاصلة، جاء خاليًا من أيّ نقاش مجتمعي أو انتخابات شعبيّة. بكل بساطة، أُعلِن، ونُفّذ، وصُفّق له، تمامًا كما عوّدتنا هذه السلطة منذ وصولها إلى سدة الحكم؛ فهي تتكفّل بالمهمة كاملة، وترسل لنا القرارات "تلغراميًا"، لنستطيع من تحت الحِرام الإشادة بخطواتها الميمونة وإرسال التهاني الإلكترونية لبعضنا البعض.
لكن ما أثارني شخصيًا لم يكن تصرفات الحكومة ذاتها، بل ردّ الفعل الجماهيري، وخصوصًا على مواقع التواصل الاجتماعي، سيل من المنشورات تحتفي بالرئيس الجديد، تُمجّده، وتُعيد تدويره على هيئة مُخلّص سينتشل البلاد من مستنقع الدم والدمار، وهو الذي أثبت، خلال وقتٍ قصير، عجزه الكامل وفشله الذريع في إدارة المرحلة.
في الحالة السوريّة، يُفرض الزعيم السياسي كقدر لا مفرّ منه، كنتيجة حتميّة لاستجابة نفسيّة جماعيّة تشكلت تحت وطأة القمع وانعدام البدائل والخوف من المجهول. ومن هذا المنطلق، يمكن فهم تمجيد "الجولاني" كواحد من أبرز مظاهر ما يمكن تسميته بـ"البريزدانت إيشوز"، حيث تؤول الحاجة إلى الاستقرار إلى جانب الذاكرة الجمعية المثقلة بالخوف والظلم؛ إلى قبول شخصيات غير مُستحقة بالضرورة؛ موقع القيادة، لا لجدارتها، بل لكونها أقل الخيارات سوءًا وسط فراغ سياسي عميق.
التهليل الرقمي وإن بدا ظاهرة عربيّة محليّة، هو في الحقيقة جزءًا من نمط عالمي يتكرر في سياقات مختلفة، ففي الولايات المتحدة الأميركية برزت ظاهرة مشابهة مع صعود دونالد ترامب، حيث لعبت منصات التواصل الاجتماعي ومنصته الخاصة "تروث سوشيال" دورًا محوريًا في مسيرته السياسية، وترسيخ صورته كقائد عصري قوي، فتحول مع مرور الوقت في نظر مؤيديه إلى رمز الخلاص الوطني؛ متناسين تاريخه المثير للجدل. هذا الاحتفاء؛ رغم اختلاف البيئات، يبيّن قدرة السوشيال ميديا على إنتاج زعامات تتجاوز المعايير السياسية السليمة.
لطالما كان الفارق الجوهري يكمن في طبيعة البيئات السياسية والاجتماعية، ففي بيئة ديمقراطية قائمة على المساءلة، يمكن دائمًا التخلّي عن هالة القداسة التي تصُنع حول الرئيس، ولكن في سوريا العلاقة كانت ولا تزال أحادية الاتجاه، وهشّة على مستويين: هشاشة في نمط الزعامة السياسية التي نشأت من فراغ مؤسساتي وعقود من الظلم فمنحت "الشرع" شرعية عاطفيّة قبل ترسيخ قواعد الحكم، وهشاشة البنية المجتمعيّة التي آثرت البحث عن منقذ وتحويله إلى تابوه سياسي قبل أوانه.

ليست صراعًا أهليًا بل جيوسياسية مُقنّعة
لم تكن اشتباكات السويداء الأخيرة أحداثًا محلية عشوائية، بل تجسيدًا لمشروع سياسي قديم يُعيد توظيف الطائفية كسلاح لقمع المعارضة وترسيخ السلطة. وبين مطرقة نظام الشرع وسندان الأطماع الإسرائيلية، يجد الدروز أنفسهم ضحية للصراع.
الانتهاك بوصفه وظيفة اجتماعية، والعنف الرمزي كآلية للقبول
لا يمكن فهم ردود الفعل المحدودة وقصيرة المدى تجاه مجزرة الساحل السوري، والمجازر التي طالت أبناء الطائفة الدرزية مرتين في مناطق عدّة، بوصفها نتيجة للخوف من القمع المباشر فحسب. بل إن تحليل هذا السكون العام بشكل أعمق يستدعي الاستعانة بأطر نظرية أعمق من علم الاجتماع، وعلى رأسها النظرية الوظيفية ومفهوم العنف الرمزي.
وفقًا للنظرية الوظيفية (Functionalism) التي أسسها "إميل دوركايم" و طوّرها "تالكوت بارسونز"، فإن كل سلوك حتى السلبي منه، قد يؤدي دورًا في الحفاظ على تماسك واستقرار المجتمع. في السياق السوري، يمكن تفسير الصمت أو الحياد على أنه استجابة دفاعية ضمن مجتمع مأزوم؛ إذ يُنظر إلى أيّ شكل من أشكال الرفض أو الاحتجاج على أنه خطر يهدد الاستقرار والتوازن المجتمعي. بهذا المعنى، يصبح تجاهل الانتهاكات أو تجاوزها؛ نوعًا من التكيّف والنجاة لا دليلاً على القبول والرضا.
أما من منظور عالم الاجتماع "بيير بورديو"، فإن العنف الرمزي لا يُمارس من خلال السلاح أو الاعتقال، بل من خلال ترسيخ الهيمنة عبر اللغة والخطاب والمؤسسات. بهذه الطريقة يُعاد إنتاج السلطة على أنها ضامنة للأمن، ومصدرًا وحيدًا للاستقرار، فيُمنح القامع شرعية معنوية في وعي المقموعين أنفسهم. في هذا السياق، تصبح المطالبة بمحاسبة مرتكبي المجازر والإعدامات الميدانية أو حتى السؤال عن الضحايا وأعدادهم وكأنها فعل خارج الإجماع، يهدد الاستقرار؛ وإن كان وهميًا.
يعكس تداخل هاتين النظريتين إعادة إنتاج الواقع السوري بطريقة تُسوّغ القمع وتُشرعن الخضوع، ويفسّر إلى حدّ كبير جذور ظاهرة "البريزدانت إيشوز"، التي تشبه في جوهرها ما يُعرف بـ"الدادي إيشوز" حيث تدفع حاجة السوريون العميقة للأمان؛ بعد غياب طويل للقيادة العادلة، إلى التعلّق بشخصيات سلطوية، والتغاضي عن إخفاقاتها، وتقديم الولاء لها مقابل وعود بالاستقرار، حتى لو كانت هذه الوعود مبنيّة على الفراغ .
مما يزيد من احتمالية رضوخنا للطاغية مجددًا تحت وطأة الاستبداد، ولكن هذه المرة مصحوبًا باستلاب نفسي يُلبسه وجاهة زائفة عنوانها العريض "من يحرر يقرر".

التشبيح الإلكتروني وطائفة الحاكم
بعد عشرين يومًا من الحصار المطبق على السويداء، وجدت نفسي أتصفح وسائل التواصل الاجتماعي بشكل يومي، مدفوعة برغبة حقيقية في فهم كيف يتعامل الناس مع هذا التحول السياسي والأمني المُلطخ بدماء الأبرياء، لكن ما واجهته كان سيلًا متواصلاً من التهليل، والتصفيق، والتحريض، والتجييش الإلكتروني، مقابل القليل من المساءلة النقدية والرفض الشعبي.
ردات الفعل تلك قد تكون استندت إلى عاملين أساسيين، هما: الإرهاق والجهل السياسي، فالإرهاق السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، لوّع الأفراد وحثّهم للقبول بظلم الآخرين، وبحلول مجتزأة خشيةً من السيناريوهات البديلة.
أما الجهل السياسي فيتجلى بوضوح لدى البعض من المكوّن "الإسلامي السنّي" في البلاد، الذي يُروَّج لصعود أحمد الشرع وكأنه "المنقذ السني" الذي سيصحح مسار البلاد وينتصر لأهل السُّنة بعد سنوات من التهميش والمظلوميات، لكن هذا الخطاب ليس إلا وهمًا جديدًا يُعيد إنتاج الطائفية تحت عباءة الأكثرية.
المشكلة في سوريا لم تكن يومًا في طائفة الحاكم، بل في غياب العدالة والمواطنة، وعلى ما يبدو أن أحمد الشرع، يساهم عمليًا في تعميق الانقسام لزيادة الاستقطاب، دون أي رؤية حقيقية لتحسين حياة السوريين أو بناء مشروع وطني شامل.
يُغذّي الشعور بالتفوّق الطائفي اليوم جماعات من "الشبّيحة الجدد"، يمارسون ذات الأساليب التي خرج السوريون ضدّها في ثورتهم. لم يُحدّث هؤلاء أدواتهم كثيرًا عن تلك التي استخدمها شبيحة نظام الأسد؛ لا يزال التخوين، والاستشفاء بالقتل والإهانة، والتحريض سلاحهم البتّار.
فكل من يطرح تساؤلات مشروعة حول الأسلمة المتزايدة لمؤسسات الدولة، أو يشير إلى ضرورة العدالة الانتقالية كشرط للسلم الأهلي، أو يسلّط الضوء على انتهاكات لم تعد فردية بل ممنهجة، يُصنّف فورًا إما عدو للثورة وإما فلول نظام، لدوره في تهدّيد صورة القائد المُخلّص الذي رُفع فجأة فوق النقد والمساءلة، تمامًا كما رُفع من سبقوه.
بين العجز المكتسب ومتلازمة ستوكهولم!
وفي أكبر "تكويعة"، لعبت وسائل الإعلام العربية، بعودتها إلى صفوف "الاصدقاء" دورًا محوريًا في تأزيم الحالة النفسية للسوريين، إذ أنّ المنابر الإعلامية "كوّعت" إلى منصات تسويقية تروّج لأحدث إصدار من أبو محمد الجولاني.
وتنافست هذه القنوات في تسليط الضوء على التغيّرات الجذريّة الطارئة في شخصيته عبر سلسلة فيديوهات مؤثرة وعاطفية تنوعت موضوعاتها بين "مئة صفة في شخصية الشرع"، و"الشرع خلف الكواليس"، بالإضافة إلى "نوع وخصائص حصان الفارس الشرع"، وحتّى "لماذا تحب النساء الشرع"!، وغيرها الكثير من الموضوعات الهامة؛ المحمّلة بحلول جذريّة للمشاكل التي تكدّست على كاهل المواطن السوري.
إن تحوّل زعيم فصيل مسلّح إلى "إنفلونسر"، و"دون جوان"، وفارس مغوار بين ليلة وضحاها، خلق حالة من الانبهار تتجلّى آثارها اليوم، فهذا التحول الدراماتيكي في شخصية الجولاني ألقى بظلاله على الخطاب العام، مما رسّخ فكرة قربه من الشعب بوصفه شخصية متعددة الأبعاد تستحق دورًا رائدًا في البلاد.
ساهمت هذه العوامل، بالإضافة الى تِركة نظام الأسد السادي، في ترسيخ ما يمكننا تسميته ظاهرة "ستوكهولم السياسية"، فبينما ينشغل البعض بالتطبيل وتلميع صورة الرئيس، يتجذّر العجز السياسي المكتسب لدى البعض الآخر، وتتفاقم" البريزدانت ايشوز" لدى آخرين، إلى حدّ لم يعد فيه الشرع المُخلّص بحاجة لتبرير مواقفه أو التماس أعذار للانتهاكات والتجاوزات في البلاد، فنحن نتعاطف معه بشكل غير مشروط، وبهذا، يتقيأ التاريخ نفسه من جديد.
إن حالة السعي وراء "الأب المنقذ" ــ كما وصفه جورج لاكوف في نظريته حول "نموذج الأب الصارم" ــ، ولاسيما في هذه المرحلة الحرجة، ما هي إلا خوف من المجهول السياسي، يؤججه حالة عامة من انعدام الأمن والأمان، ومع ذلك، إذا لم نتدارك سريعًا التغيير السياسي الحاصل، وظللنا نتعامل مع الحقوق الطبيعية على أنها مجرد مكرُمات وهِبات ديمقراطية من القيادة "الفاتحة"، فإننا نساهم بإعادة إنتاج طاغية جديد لا يقل بطشًا عن سابقه.
حتى أنا، لست بمنأى عن مغريات المرحلة، لا أستطيع إنكار أنني ولأيام عدة تروّضت وتم إغوائي، لمجرد سماع تعابير على شاكلة "حرية الصحافة" و"إعادة الإعمار" و "دولة القانون والمساواة"، ولكن إلى حين تطبيقها، اكتب من اسمي المستعار مجددًا، وفي ذات البيت الصغير، أتسابق مع أنفاس الكهرباء الأخيرة، على أمل أن نتعافى جميعًا من الإرث النفسي الثقيل الذي خلّفه آل الأسد.
ينشر هذا النص في النسخة المطبوعة المشتركة بين قنطرة ومجلة Kulturaustausch. ولمزيد من التحليلات والمقابلات والتقارير حول سوريا عبر موقعنا هنا..
قنطرة ©