قيم قرآنية أنقذت روانديين من الإبادة الجماعية
عندما لقي الرئيس الرواندي مصرعه في السادس من نيسان/أبريل 1994 في حادث تحطـُّم طائرة من المفترض أن وراءه التوتسيين، وبدأ القتل في اليوم نفسه في عموم البلاد، تبيَّن أنَّ: الإبادة الجماعية في هذا البلد الشرق أفريقي كان مخططًا لها بدقة منذ فترة طويلة من قبل زمرة صغيرة في جهاز الدولة. وذلك بهدف القضاء التام على جميع أفراد شعب التوتسي والهوتو المعارضين. انتشر عبر جميع أنحاء البلاد أفراد ميليشيات مسلحين بالبنادق والمناجل. كان الناس يقتلون جيرانهم المجاورين لهم منذ زمن طويل، وكان أفراد الأسرة يخون بعضهم بعضًا، وكذلك تم إضرام النار في كنائس مزدحمة باللاجئين.
لم تنتهِ هذه الفظائع إلَّا من خلال تقدُّم "الجبهة الوطنية الرواندية" (FPR)، التي سيطرت في آخر المطاف على العاصمة كيغالي. ثم اتَّضح حجم هذه الفظائع: فخلال مائة يوم فقط، من 6 نيسان/أبريل حتى 15 تموُّز/يوليو 1994، تم قتل ما بين ثمانمائة ألف شخص ومليون شخص بوحشية أمام أعين العالم، بالإضافة إلى هروب أعداد أكبر بكثير إلى البلدان المجاورة.
وفي خضم هذه الأجواء المشحونة بالكراهية والعنف، وفي خضم حرب كانت تدور بين جيران وأصدقاء سابقين - وحتى في داخل الأسر والعائلات، القليلون فقط قاوموا دعاية النظام الحاكم. حيث كان المسلمون الروانديون المجموعة السكَّانية الوحيدة، التي رفضت بشكل شبه جماعي التحريض على الكراهية والعنف. يشكِّل المسلمون ما بين خمسة إلى عشرة في المائة من السكاَّن (الهوتو والتوتسي) في رواندا الأكثر مسيحية من جميع الدول الأفريقية.
لقد أدرك علماء المسلمين والزعماء الدينيون حجم الخطر الذي يلوح في الأفق وبدؤوا بتوعية المؤمنين في جماعاتهم. استخدم المعلمون برامج مُعدَّة خصيصًا من أجل إرشاد طلابهم إلى عدم السير خلف دعاية العنف.
وبالاستناد إلى القرآن كانوا يعلمونهم أنَّ التمييز بين الأعراق لا يجوز، لأنَّ جميع الناس متساوون ولا يحقّ لأحد أن يقتل شخصًا آخر. وكان رجال الدين ينبِّهون أتباعهم في الخطب والمواعظ وكذلك في وسائل الإعلام والمنشورات إلى أنَّ من واجب كلِّ مسلم أن يساعد جميع الضحايا وألَّا يقع في الاستقطاب، وبالتالي ألَّا ينضم إلى الأحزاب السياسية.
وفي رسالة "دعوية" إسلامية تم نشرها في جميع مساجد رواندا، دعا الزعماء الدينيون أتباعهم إلى عدم تِّباع أية أيديولوجيا لا تتَّفق مع القرآن. وعلى الراديو كانوا يحذِّرون الشعب الرواندي كله من اقتراب الأوقات الصعبة، وكانوا يدعون الناس إلى احترام القيم السلمية.
واستند رفضهم دعاية الكراهية إلى قيم مستمدة مباشرة من القرآن. وكانت رسالتهم هي أنَّ هذه القيم تتناقض تمامًا مع أيديولوجيا ميليشيات الهوتو: فهم ينظرون إلى القتل على أنَّه معصية لله، وبدلًا من ذلك فقد دعوا إلى نبذ العنف وحماية الضعفاء ومساعدة المحتاجين، بصرف النظر عن انتمائهم العرقي أو الديني.
وبتشجع من الموقف الحازم لزعمائها الدينيين، عارضت الجماعات الإسلامية بحزم الكراهية والعنف. وبالإضافة إلى رفض الهوتو المسلمين المشاركة في أعمال القتل (أو حتى مواجهة العنف بعنف مضاد)، فقد أبدى الكثيرون أيضًا مقاومة نشطة جدًا، ولكنها كانت دائمًا سلمية: حيث كان يتم إيواء المضطهدين وحمايتهم في بيوت المسلمين وفي المساجد، من دون اضطرارهم إلى الخوف من الغدر والخيانة. وكذلك قام مسلمون بإخفاء أشخاص من شعب التوتسي في أحيائهم وكانوا يقدِّمون لهم الغذاء ويقفون بينهم وبين عصابات القاتل، وكثيرًا ما كان ذلك يكلفهم حياتهم.
وأقام بعضهم حواجز على الطرقات لإعاقة تقدُّم الميليشيات، أو كانوا كذلك يتسللون إلى فرق الموت من أجل اكتشاف خططهم والتمكُّن في الوقت المناسب من تحذير اللاجئين ونقلهم إلى مناطق آمنة. وقام مسلمون آخرون بإنقاذ أشخاص من شعب التوتسي من الغرق أو كانوا يقومون بتنظيم "مذابح وهمية" و"جنازات مزيَّفة" بهدف خداع ميليشيات الهوتو وحملهم على الانسحاب.
كلُّ هذا حدث من دون ريب في ظلِّ أقصى درجات الخطر على الحياة. إذ إنَّ عمل المقاومة العلنية من جانب الزعماء الدينيين وكذلك العمل المباشر من قِبَل الجماعات المسلمة ومن قِبَل كلِّ فرد بمفرده، كان ينطوي على مخاطر كبيرة ويتطلب شجاعة وتصميمًا كبيرين.
الجذور التاريخية للمقاومة السلمية
وهذا السلوك المثالي من جانب المسلمين الروانديين يمكن تفسيره جزئيًا بتاريخهم الخاص. المسلمون في رواندا مهمَّشون منذ وصول الإسلام إلى البلاد عن طريق التجَّار الهنود والعرب في القرن التاسع عشر. وخلال حكم الاستعمار الذي كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقا بالكنائس المسيحية، بات يُنظر إليهم على أنَّهم يشكِّلون تهديدًا وتم نفيهم إلى أحياء وتجمُّعات سكَّانية معزولة.
وحتى بعد الاستقلال عملت الحكومة كلها وكذلك السكَّان المسيحيون في الغالب على إقصاء المسلمين ووصموهم بأنَّهم غرباء. والمسلمون في رواندا لا يعتبرون من الهوتو ولا التوتسي أو التوا (المجموعات العرقية الرئيسية في رواندا)، بل ينظر إليهم على أنَّهم يمثِّلون مجموعة رابعة غريبة.
بهذه التجارب التي خاضتها الجالية المسلمة في رواندا، ارتبطت مقاومة المسلمين الروانديين السلمية في عام 1994: فتهميشهم الاجتماعي الواسع النطاق أدَّى إلى تعزيز تماسكهم الداخلي. كما أن الحياة الدينية المشتركة تعزِّز الشعور بالجماعة (على سبيل المثال من خلال صلاة الجماعة يوميًا أو الإفطار الجماعي في شهر رمضان).
وبسبب معاناتهم الخاصة من التمييز، كان بإمكانهم التعرُّف على أنفسهم في أبناء شعب التوتسي المضطهدين. وإيمانهم في قيم قائمة على أسس دينية - مثل اللاعنف ومحبة الغير بين الأعراق - راسخ بعمق (أيضًا) في مصلحتهم الخاصة. وهو يُحَرِّم القتل ويأمر بحماية الضعفاء.
"عَلـِّموا الروانديين الآخرين كيفية التعايش!"
وبسبب التهميش السياسي الواسع، لا توجد للمسلمين أيضًا أية صلات بالأحزاب السياسية. ونتيجة لذلك فإنَّ هذا الواقع يمنح المسلمين - على العكس من الكنائس المسيحية - مسافة كافية لتتمكُّن من تقييم التطوُّرات في السياسة والدعاية تقييمًا صحيحًا في الوقت المناسب. وعلاوة على ذلك فإنَّ المشاركة في الإبادة الجماعية ما كان لها أن تُقدِّم لهم أية ميزة.
بسبب صعوبة الوصول إلى المدارس الحكومية بات الأطفال والمراهقون المسلمون أقل تعرُّضًا لتحريض الهوتو أو بصيغة أخرى للدعاية الحكومية؛ وفي المقابل لقد تمكَّنت المدارس الإسلامية الخاصة من تنفيذ برامج للتوعية بخطر الكراهية والعنف.
في الحقيقة كانت توجد أيضًا حالات فردية لمسلمين خالفوا جماعتهم وشاركوا في أعمال القتل. ولكن مع ذلك فقد تم إنقاذ الكثير من الناس - من شعب التوتسي والهوتو المعارضين والمسلمين والمسيحيين - بفضل مساعدة المسلمين لهم، مثلما أكَّد ذلك مؤخرًا (2017) أيضًا التقرير الرسمي الصادر عن محقِّق الأمم المتَّحدة كريستيان ب. شيرَر.
وحتى يومنا هذا لم يتم أيضًا توجيه أي اتِّهام إلى رجل دين إسلامي واحد بالمساعدة في الإبادة الجماعية. وبدلًا من ذلك توجَّه الرئيس الرواندي السابق، باستور بيزيمونغو، إلى المسلمين الروانديين بعد تنصيب أوَّل وزير مسلم في الحكومة الرواندية، بقوله: "عَلـِّموا الروانديين الآخرين كيفية التعايش!".
ماركوس فاينغاردت
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2017