لماذا تغاضى العالم عن قتل خاشقجي؟
يرغب النشطاء الحقوقيون السعوديون المنخرطون في قضية تحقيق العدالة لجريمة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، في أن يُقدِم المجتمع الدولي على تحجيم التعامل مع حكام المملكة.
وعن ذلك قال عبد الله العودة المدير السعودي لمؤسسة "مبادرة الحرية" التي تتخذ من واشنطن مقرا: "إننا ندرك أننا نعيش في عالم حقيقي وأن الحكومات يجب أن تتعامل مع السعودية، لكن تجاهل حقوق الإنسان وتجاهل القيم الديمقراطية الأساسية عند التعامل مع النظم الديكتاتورية والاستبدادية لا يخدم المصالح الاستراتيجية لأي بلد أو يعزز من قيم حقوق الإنسان".
وفي مقابلة مع دي دبليو، أضاف: "عندما تكون المقايضة بين الحرية والأمن، فلن يحصل المرء على أي منهما".
بدورها، قالت لينا الهذلول، شقيقة الناشطة لجين الهذلول ورئيسة قسم الاتصالات والمراقبة في منظمة القسط لحقوق الإنسان ومقرها لندن: "عند التعامل مع السعودية، نعتقد أن هناك طريقة للمناورة في السياسة الحالية دون أن نكون ساذجين حيث يمكن شراء النفط السعودي وانتقاد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في السعودية في نفس الوقت".
وأضافت في مقابلة مع دي دبليو: "تمتلك السعودية نفوذا، لكن دول العالم -وخاصة الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة- تمتلك نفوذا أيضا على السعودية ويجب عليها استغلال ذلك".
الجدير بالذكر أن لينا كانت تناضل لسنوات ماضية من أجل تحقيق العدالة في قضية شقيقتها الناشطة البارز في حقوق المرأة السعودية لجين الهذلول التي أفرجت عنها السلطات السعودية في فبراير / شباط عام 2021.
واعتُقِلَت الهذلول (31 عاما) مع ناشطات حقوقيات أخريات ضمن حملة اعتقالات في أيار/مايو 2018، قبل أسابيع قليلة من رفع الحظر عن قيادة المرأة للسيارة في السعودية، الأمر الذي كانت تطالب به الناشطة بإلحاح، ما أثار ردود فعل دولية منددة.
وحكمت محكمة في الرياض في ديسمبر/كانون الأول عام 2020 بسجن الهذلول خمس سنوات وثمانية أشهر بعدما أدانتها بالتحريض على تغيير النظام و"خدمة أطراف خارجية"، لكن المحكمة أرفقت الحكم بوقف تنفيذه لمدة سنتين وعشرة أشهر، وهو ما يعني أنها كانت قد قضت ثلاث سنوات تقريبا في الحبس الاحتياطي، الأمر الذي عجل بخروجها.
ورغم الإفراج عنها، إلا أن المحكمة قررت منع لجين من السفر لمدة خمس سنوات.
وفيما يتعلق بالداعية سلمان العودة فقد كان من بين شخصيات تم توقيفهم في منتصف أيلول/سبتمبر 2017 -بينهم كتّاب وصحافيون- في سياق حملة قمع استهدفت معارضين في المملكة فيما ذكر مقرّبون منه أنّ السعودية طلبت من رجل الدين وآخرين دعم الرياض علناً في خلافها مع قطر المجاورة، لكنه رفض.
يشار إلى أن الداعية سلمان العودة كان قد أوقف بعدما نشر تغريدة في أيلول/سبتمبر 2017 رحّب فيها بطريقة غير مباشرة بإمكانية التوصل إلى حل للأزمة مع قطر.
وفيما يتعلق بقضية خاشقجي، قالت لينا الهذلول وعبد الله العودة إنه على الرغم من أن جريمة مقتل خاشقجي ما زالت واحدة من أبرز الانتهاكات السعودية، لكن على مدى السنوات القليلة الماضية، يبدو أن اهتمام العالم قد تضاءل.
فمنذ مقتل خاشقجي أعادت الصحافة والإعلام الدولي التركيز مجددا على سجل السعودية السيء في حقوق الإنسان وكذلك الممارسات السلطوية في حكم البلاد. فعلى الصعيد الدبلوماسي كانت السعودية دولة منبوذة بشكل ضمني على مدار السنوات الثلاث الماضية. وكان أبرز معالم ذلك ما ذكره الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال حملته الرئاسية قبل أن يصل إلى البيت الأبيض عندما قال إن هناك "قيمة استرداد اجتماعية ضئيلة للغاية في الحكومة الحالية في السعودية".
بيد أنه خلال الشهر الماضي، تركز اهتمام وسائل الإعلام الدولية في تغطيته للوضع في أكبر منتج للنفط في العالم على قضايا مثل مسار التطبيع المحتمل مع إسرائيل والاتفاق الأمني مع الولايات المتحدة وأيضا إعلان شركة لوسيد لصناعة السيارات الكهربائية عن تدشين أول مصنع عالمي لها في مدينة جدة.
لكن هذا لم يكن الحال قبل خمس سنوات حيث كان تركيز عناوين الصحف الرئيسية مُنصَبّاً على قضية مقتل خاشقجي في تغطيتها القضايا المرتبطة بالسعودية فعلى سبيل المثال عنونت صحيفة الغارديان تقريرا عن السعودية قائلة: "جمال خاشقجي.. جريمة قتل في القنصلية".
كيف قُتل خاشقجي؟
كان خاشقجي في السابق شخصية بارزة في السعودية حيث كانت عائلته مقربة من العائلة الملكية منذ فترة طويلة، لكن مع صعود الأمير محمد بن سلمان، إلى السلطة، لم يعد خاشقجي من الكُتاب والإعلاميين المقربين والمفضلين لولي العهد السعودي.
وعقب انتقاله لمنفاه الاختياري بالولايات المتحدة عام 2017 شرع خاشقجي في توجيه انتقادات لسياسة ولي العهد ولتدخل السعودية في النزاع اليمني فيما يكتب عموداً صحفياً بشكل منتظم في صحيفة "واشنطن بوست"، ينتقد من خلاله توجهات المملكة.
كان يوم الثلاثاء 2 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2018، يوما فاصلا في حياة الصحفي السعودي جمال خاشقجي، الذي دخل قنصلية بلاده في إسطنبول ثم اختفى. كان خاشقجي يستعد للزواج من التركية خديجة جنكيز، ولإتمام ذلك لابد له من الحصول على وثيقة طلاق من زوجته الأول، وفق ما ذكرته خديجة.
"سيناريو قتل مرعب"، تحدثت عنه صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، نقلا عن مسؤول تركي رفيع المستوى، مفاده أن الصحفي خاشقجي قُتِلَ بعد ساعتين من وصوله قنصلية بلاده في إسطنبول وتم "تقطيع جسده بمنشار".
ومع الكشف عن تفاصيل مروعة عن ملابسات مقتل خاشقجي، قال مسؤولون سعوديون إن الصحافي قُتِلَ في "عملية مارقة" قام بها فريق من العملاء أرسل لإقناعه بالعودة إلى المملكة، لكن العناصر المارقة نفذت العملية دون علم القيادة السعودية وولي العهد الذي نفى أي تورط شخصي في جريمة القتل.
وفي ديسمبر/كانون الأول عام 2019 أصدر القضاء السعودي أحكاما بإعدام خمسة متهمين في قضية مقتل خاشقجي فيما حُكِمَ على ثلاثة آخرين بالسجن لمدة 24 عاما بتهمة "التستر على الجريمة ومخالفة القانون".
لكن في سبتمبر / أيلول عام 2020 خففت محكمة سعودية أحكام الإعدام الصادرة حيث حُكِمَ عليهم بالسجن 20 عاما بعد أن قررت أسرة خاشقجي العفو عنهم فيما أعلنت السلطات السعودية إغلاق القضية.
"من غير المحتمل" حدوثها دون إذن محمد بن سلمان
وتعرضت السردية الرسمية السعودية عن مقتل خاشقجي لانتقادات وتناقضت مع ما خلصت إليه الاستخبارات الأمريكية والتركية والمقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بعمليات القتل خارج نطاق القانون.
ففي فبراير / شباط عام 2021 قال تقرير للمخابرات الأمريكية إن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وافق على عملية للقبض على خاشقجي أو قتله في عام 2018.
وقال مكتب مدير المخابرات في التقرير: "نحن نرى أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وافق على عملية في اسطنبول بتركيا للقبض على الصحفي جمال خاشقجي أو قتله. نحن نبني هذا التقييم على سيطرة ولي العهد على عملية صنع القرار في المملكة والضلوع المباشر لمستشار رئيسي وأفراد من فريق حماية محمد بن سلمان في العملية ودعم ولي العهد لاستخدام تدابير عنيفة لإسكات المعارضين في الخارج ومنهم خاشقجي".
وقال التقرير: "يملك ولي العهد منذ 2017 سيطرة مطلقة على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في المملكة مما يجعل من المستبعد للغاية أن ينفذ مسؤولون سعوديون عملية بهذه الطبيعة دون موافقته".
ورغم الاهتمام الإعلامي الكبير بما كشفت عنه الاستخبارات الأمريكية إلا أن الأمر لقي استهانة من داخل السعودية. في المقابل كانت هناك محاولات أخرى لتحقيق بعض العدالة في جريمة مقتل خاشقجي.
ففي عام 2020، بدأت محكمة في إسطنبول محاكمة 26 مسؤولا سعوديا غيابياً، بتُهَم القتل مع سبق الإصرار أو إتلاف أدلة فيما رفضت السعودية تسليمهم إلى السلطات التركية.
لكن في أبريل / نيسان عام 2022 أوقفت السلطات التركية المحاكمة حيث قال قاضٍ تركي إن القضية ستُنْقَل الآن إلى السعودية بعد أن وافق وزير العدل التركي على طلب المدعي العام وقف المحاكمة، على أساس أن غياب المتهمين أعاقها.
وانتقد منظمات حقوقية القرار باعتباره مسيساً وجاء على وقع المصالحة بين تركيا والسعودية.
ويُضاف إلى مساعي تحقيق العدالة في جريمة مقتل خاشقجي: إقامة دعوى قضائية في الولايات المتحدة من قِبَلِ خديجة جنكيز ومنظمة "الديمقراطية الآن للعالم العربي" أو DAWN التي أسسها خاشقجي قبل مقتله.
بيد أن القضية رُفضت في نهاية عام 2022 عندما قضت الحكومة الأمريكية بأن محمد بن سلمان يتمتع بالحصانة من الملاحقة القضائية لأنه زعيم دولة.
كذلك تصدرت حنان العتر -أرملة خاشقجي- عناوين الصحف بعد أن رفعت دعوى قضائية ضد مجموعة "إن إس أو" وهي الشركة المُنتجة لبرنامج التجسس الإسرائيلي بيغاسوس، في وقت سابق من العام الجاري 2023 حيث زعمت أن الشركة سمحت للسلطات السعودية بقرصنة هاتفها وهاتف زوجها.
وبالعودة إلى السعودية ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" أنّ أبناء خاشقجي تسلّموا منازل بملايين الدولارات كتعويضات ويتقاضون شهريًا آلاف الدولارات من السلطات السعودية في إطار ما يُعرف بنظام "الدية".
ورغم بعض الإجراءات القانونية الجارية لتحقيق العدالة في قضية خاشقجي، إلا أن يبدو أن المجتمع الدولي قد تغاضى عن الأمر ضمنياً.
فبعد أن تعهد بايدن بتحويل السعودية إلى "دولة منبوذة " خلال حملته الرئاسية عام 2019 قدم وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن تهانيه للسعودية بمناسبة يومها الوطني، قائلا: "الولايات المتحدة تقدر بشدة العلاقات المتينة التي جمعتنا بالسعودية خلال العقود الثمانية الماضية".
ويقول مراقبون إن حكومات الدول الغربية تتجاهل بشكل متعمد انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية إعلاءً لمصالح مع أكبر منتج للنفط في العالم.
"الطغاة لا يجلبون الاستقرار"
ورغم ذلك، يستمر النشطاء السعوديون في نضالهم لتحقيق العدالة وتسليط الضوء على الانتهاكات الحقوقية في المملكة، وهو ما شددت عليه لينا الهذلول.
وحول ذلك قالت: "نواصل النضال على أي حال. وباعتباري مواطنة سعودية، أعتقد أن النضال من أجل جمال سيحقق العدالة له ولأسرته وإرثه على المدى الطويل. لكن على المدى القصير، نحذِّر الناس بأن هذه الجريمة قد تُرتكب مرة أخرى".
أما عبد الله العودة فيحاول -من خلال إقامته في واشنطن- إقناع مسؤولي السياسة الخارجية الأمريكية بإعادة تقييم ما يعتبر أنه "تفرُّعٌ زائفٌ" بين الواقع السياسي وحقوق الإنسان مع ضرورة التخلي عن فكرة أن "الطغاة يجلبون الاستقرار".
وأضاف: "(الولايات المتحدة الأمريكية) لا تخسر فقط الشعب السعودي بهذا النوع من التفكير وإنما تخسر أيضاً الجميع بإرسالها رسالة خاطئة إلى العالم وإلى كل دكتاتور مفادها أنه طالما أنك تتربع على بئر نفط فيمكنك حرفيا أن تفلت من جريمة قتل".
كاثرين شير
ترجمة: م. ع
حقوق النشر: دويتشه فيله 2023