ديمقراطية الجنرالات....سيناريوهات التمديد

يرى الكاتب التونسي، سليم بوخذير، في مقالته أن الانتخابات الرئاسية في البلدان المغاربية الثلاث، الجزائر وموريتانيا وتونس، تؤكد أن "الجنرالات" يتخذون من الديمقراطية مطية من أجل صبغ نظام حكمهم بصبغة مدنية والتي جاءت كذلك نتاجا لعمليات تطويع الدستور لخدمة التمديد.

أتتْ استقالة الحاكم العسكري في موريتانيا مؤخرا وإصراره على خوض انتخابات رئاسية من تنظيم الأجهزة العسكرية نفسها، بمثابة الصفعة الجديدة لحلم الديمقراطية الذي سرعان ما تبدّد في البلد عقِب انقلاب السادس من آب/أغسطس الماضي. وغير بعيد عن موريتانيا أعادت الانتخابات الرئاسية مؤخرا في الجزائر مسألة الحكم في البلد –وفي المنطقة المغاربية ككل- إلى مربّعها الأول ونعني الإجهاز على أي فرصة في المغرب العربي لأي انتقال إلى الديمقراطية من خلال تكريس عادات الرئاسة مدى الحياة وفرض السيناريو المتكرر منذ عقود في المنطقة المتمثل في تمديدٍ يتبعه تمديد آخر لنفس الحاكم الذي يستمد شرعيته عادة إما من البوليس أو من الجيش.

و في تونس، الحالة على ما هي عليه منذ أكثر من 20 سنة: انتخابات منتظرة في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل يراها المراقبون مجرّد انتخابات صورية ومهرجانا للتمديد لابن علي لولاية خامسة رغم تعهده يوم انقلاب 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987 بإلغاء الرئاسة مدى الحياة في تونس . لقد ظلت آمال شعوب البلدان المغاربية الثلاث التي اشتركت حكوماتها في اختيار 2009 عاما للانتخابات الرئاسية معلقة لعشرات السنوات في أن "تُصالحهم" الديمقراطية لأول مرة ، لكن من الواضح أن إرادة العسكر والبوليس أبعد ما تكون عن إباحة هذه المصالحة بين الديمقراطية والمغاربيين .

تطويع الدستور لخدمة التمديد..

لقد أعطت الأشهر السابقة لشهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي في الجزائر شيئا من الانطباع لدى الجزائريين بِأن الرئيس بوتفليقة الذي لم يكن يسمح له الدستور وقتئذ بأي إمكانٍ للتمديد سيترك كرسي الحكم فور نهاية عُهدته الثانية وسيُبيح لأحفاد المليون شهيد لأول مرة تداولا سلميا على الحكم في كنف الديمقراطية. ولكن في غفلة من كل التوقعات، تسارعت الأحداث في الجزائر فأدخل بوتفليقة-هديا بالمنوال التونسي- ، أولا تعديلا على المادة 74 من الدستور اكتفى فيه بمصادقة الأغلبية النيابية الموالية له في البرلمان في 12 نوفمبر – تشرين الثاني 2008 ، بما سمح له بــ"حق" الترشح لعُهدة ثالثة. ثم جاء موعد 9 أبريل الجاري ، ليضع بوتفليقة قدمه من جديد على سدة الحكم في الجزائر لـ5 سنوات إضافية ، في انتخابات وصفتها المعارضة ب"المهزلة" و"المسرحية".

وفي الواقع، إنّ التقليل من شأن جدية ونزاهة الانتخابات الرئاسية التي شهدتها الجزائر مؤخرا، لا يستمد شرعيته ووجاهته فقط من مجرد مقاطعة سواد كبير من الأطياف السياسية الفاعلة لموعد 9 أبريل ، وإنما من مؤشرات عديدة ثابتة في لوحة الحياة السياسية الجزائرية التي تشبه في معادلاتها وملامحها كثيرا لوحة الحياة السياسية في كل بلد مغاربي تقريبا. لقد حاولت الترسانة الإعلامية التي توافرت للحُكم في الجزائر إظهار 9 أبريل على أنه "يوم عرس ديمقراطي" وساعد ظهور 5 مرشحين "منافسين" لبوتفليقة في سباق الرئاسة في محاولة إبراز هذه الصورة. إلاّ أنّ ذلك لم يحجب ولو نسبيا حقيقة أنّ ما حدث في الجزائر هو أمر آخر غير الديمقراطية. ولم تكن الديمقراطية يوما توجه عدد من أفراد الشعب إلى مراكز اقتراع تشرف عليها الحكومة من الألف إلى الياء ليُدلوا بأصواتهم بشأن مرشحين من فئات دون غيرها من الطبقة السياسية ويكون فيها القسط الأوفر والمستديم من الدعاية لمرشح الحكومة دون فسح المجال أمام أية مراقبة حقيقية محايدة للانتخابات بالمعايير الدولية لكلمة محايدة.

الديمقراطية مسار شامل متكامل تكون فيها الانتخابات مجرد محطة تتويجيّة تعبُر إليها الحياة السياسية بعد مرورها بكل محطات المشوار بشكل سليم. لقد أستحوذ الرئيس بوتفليقة والفريق الموالي له ما بين الانتخابات الأخيرة والتي سبقتها (2004) ، على كل أضواء وسائل الإعلام وتمّ احتكار كل فضاءات الاجتماع والتعبئة والتظاهر السلمي ونال مُخالفوه لاسيما الليبراليون العلمانيين الإقصاء والتهميش في تلك الخمس سنوات تماما كما في الخمس سنوات التي سبقتها ، فكيف يجوز القول إن الحياة السياسية في الجزائر تعيش تكافؤا وتعددية؟ هل يكفي أن تُقيم الحكومة انتخابات على مقاسها لنقول إن الديمقراطية قد تحققت؟ ثمّ هل يجوز تصديق النسب التسعينية التي فاز بها الرئيس وهو في عقده الثامن؟ وهل يحق أن نقتنع فعلا بالنسبة السبعينية المعلنة من قبل الحكومة لنسب المشاركة في الانتخابات؟ من قام بفرز صناديق الاقتراع ؟ أليست أجهزة الحكومة نفسها التي هي أصلا خصم وحكم في الانتخابات فكيف يمكن اعتبارها طرفا محايدا ؟

من موريتانيا إلى تونس ..الجنرال ممتطيا حصان الديمقراطية

وعودة إلى موريتانيا، يحق لنا التساؤل: أليس انحرافا جليا على الشرعية ما جرى في السادس من آب/أغسطس المنقضي عندما انقلب الجنرال ولد عبد العزيز على حُكم منتخب ديمقراطيا بشهادة القاصي والداني في الداخل والخارج ؟ كيف يجرؤ هذا الجنرال اليوم على إدّعاء أنه بصدد إعداد "انتخابات ديمقراطية" في السادس من حزيران /يونيو القادم يكون هو أول المترشحين لها إن لم نقل إنه الوحيد؟ هل يكفي أن يستقيل ولد عبد العزيز وينزع بدلته العسكرية هُنيْهة ليرتدي ملابس مدنية يوم الانتخابات ليحق له القول بعد ذلك إنه حاكم مدني وليس مجرد جنرال مفروض بقوة العسكر على الشعب؟

وفي تونس، المشهد يُحاكي بامتياز المشهد الجزائري، فالحكومة التونسية تستعد للانتخابات الرئاسية في أكتوبر – تشرين الأول بعدم السماح بترشح عديد المعارضين وباحتكار الفضاء العام لمرشحها وبفرض القمع والاضطهاد على مخالفيها في الرأي، فأية ديمقراطية هذه يفرضها القمع ؟ أية ديمقراطية هذه تسمح لابن علي بأن يبقى من حقه الترشح للانتخابات لِ5 مرات متولية وبأن تُشرف الدوائر الموالية له على كلّ تفاصيل "العرس" فتُقصي من تريد وتعلن ما تريد من نتائج هي طبعا لصالح الجنرال!.

إنّها الحُمى نفسها أصابت بلدان المنطقة الثلاث منذ عقود ، فالعدوى تسري من هذا البلد إلى ذاك جِيئة وذهابا والنسب التي زُعِم أن بوتفليقة قد فاز بها تُحاكي حتما نسبا مشابهة كانت الحكومة التونسية زعمت أنّ الرئيس ابن علي قد حاز عليها مرارا وتكرارا في انتخابات 1989 و1994 و1999 و2004 ، وقد تكون هذه النتائج التي زُعِم أن بوتفليقة قد حصل عليها، مقدمة للنظام التونسي في انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول ، وليس غريبا أن تُعلن دوائر الحكم العسكري في موريتانيا نفسها، النتائج ذاتها لصالح ولد عبد العزيز في انتخابات حزيران/ يونيو ، مادام العسكر في المنطقة لم يكن يوما مختصا في غير هذه المسرحيات الرديئة الإخراج .

تبخر الأمل في التداول السلمي على الحكم

نعم، قد تُعلن هذه النتائج في كلا البلديْن وستُهلّل عندئذ الترسانة الإعلامية لكلا النظاميْن في تونس وموريتانيا وتُكبّر لوهم الديمقراطية المزعوم مع أن الحقيقة هي أبعد ما تكون عن ذلك. فمع أنّ الفريق المعارض في موريتانيا لانتخابات حزيران/ يونيو يضمّ أبرز الأطياف الديمقراطية بدءا بمكونات الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية ووصولا إلى تكتل القوى الديمقراطية. ومع أن الأصوات المنددة بالانحراف العسكري عن الشرعية أقنعت كل الدنيا بوجاهة مقاربتها إلى درجة جلبت لقادة الانقلاب عزلة دولية مكتملة الملامح، مازال الجنرال ولد عبد العزيز يصر على القول إنّ موعد السادس من حزيران /يونيو موعدا مع الديمقراطية، بينما هي عملية على مقاسه سيحاول من خلالها عبثا إيهام المتابعين بأنه سيدخل هذه المرة القصر الرئاسي ليس من باب العسكر وإنما من باب الديمقراطية.

وبالنسبة لتونس، تلحّ الحكومة على التوغل في طريق التمديد لابن علي، مدعية أنها تمارس "مسارا ديمقراطيا" ، مع أن إعلانها رسميا رفضها لأية مراقبة دولية للانتخابات مع إشرافها هي على هذه الانتخابات فضلا على احتكار ابن علي وفريقه لكل وسائل الدعاية واستئثاره بكل الفضاء العام منذ أكثر من عقديْن من الزمن وقمعه لكل الأطياف المخالفة كلها تقف حائلا أمام اعتبار موعد أكتوبر/ تشرين الأول بأي حال موعدا مع الديمقراطية. إنه السيناريو المملّ المتكرر: الانتخابات في المنطقة هي طريق سريعة ينتهجها الحكم الفردي لإعادة إنتاج نفسه ولإغراء الجماهير .. وفي المحصلة: طال انتظار شعوب المنطقة لعقود وعقود منذ استقلالها لانتقال سلمي إلى حكم مدني ديمقراطي منتخب فعلا وما حدث في الجزائر مؤخرا وما تستعد له حكومتا تونس وموريتانيا من تمديد رئاسي، لَيؤكد أن هذا الانتظار من قبل المغاربيين سيطول للأسف.

سليم بوخذير
حقوق الطبع: قنطرة 2009

سليم بوخذير، كاتب وصحافي تونسي

قنطرة

بعد الانقلاب في موريتانيا:
المغرب العربي . . عاشت ديمقراطيّة العسكر!
شكلت انتخابات آذار2007 في موريتانيا نموذجا ديمقراطيا نادرا استبشرت به الشعوب المغاربية خيرا؛ لكن سرعان ما تم اغتيال هذا الحلم الديمقراطي. هذا المشهد تتويج لتعسف الحكومات التسلّطيّة التي تُكرّس"ديمقراطيّة القوّة " بدلا من "قوة الديمقراطيّة". سليم بوخذير في قراءة تحليلية للواقع "الديمقراطي" في بلدان المغرب العربي.

رواية بوعلام صنصال "البريد الباقي":
حقائق مُرَّة لشعب "أعمى"
فتح الكاتب الجزائري بوعلام صنصال برواية "البريد الباقي" في وطنه حربًا ثقافية متعددة الجبهات؛ فهو يضرب في جميع الاتِّجاهات وينتقد كلاً من الطبقة الحاكمة والإسلامويين على حدّ سواء. بيآت شتاوفَر يستعرض هذه الرواية اللاذعة.

تمديد الأحكام العرفية في مصر:
وداعا للحريات ...مرحبا بالاستبداد!
وعد الرئيس المصري محمد حسني مبارك في أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية برفع الأحكام العرفية واستبدالها بقوانين لمحاربة الإرهاب. لكن بدلاً من ذلك وللمرة الثانية منذ وعده تم تمديد فترة العمل بالأحكام العرفية. يورغين شتيرياك من القاهرة في قراءة لأبعاد تمديد الأحكام العرفية في مصر ودلالاتها.