تركيا تتنفَّس الصعداء

فاجأت المحكمة الدستورية التركية المراقبين برفضها طلب حظر حزب العدالة والتنمية. وبهذا حصل رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان على فرصة ثانية لإنهاء الصراع الدائر على السلطة بين العلمانيين والإسلاميين. كما شكَّلت المسألة الكردية عاملاً مهمًا في قرار المحكمة. تعليق من ديلَك زابتچي أُوغلو.

​​كانت تركيا تنتظر صدور هذا الحكم بلهفة واهتمام، إذ كان من المقرَّر أن تحسم المحكمة الدستورية التركية التي تعتبر أعلى هيئة قضائية في البلاد قضية حظر حزب العدالة والتنمية AKP الحاكم. وكان اسم رئيس الوزراء التركي، رجب طيب إردوغان مدرجًا في أعلى قائمة الأشخاص البالغ عددهم 71 شخصًا، الذين كان من المفترض أن يتم من خلال حظر حزبهم منعهم من ممارسة العمل السياسي طيلة الأعوام الخمسة القادمة.

وقبل شهرين فقط كان هؤلاء القضاة نفسهم يريدون التصويت تقريبًا بالإجماع ضدّ قرار إلغاء حظر الحجاب في الجامعات التركية ومن خلال ذلك إيقاف أهم مشروع لحزب العدالة والتنمية بسبب مخالفته الدستور. وكان يبدو من المؤكَّد أنَّهم سوف يحظرون حزب العالة والتنمية. ففي آخر الأمر كان يوجد في هيئة المحكمة الدستورية المؤلفة من أحد عشر قاضيًا تسعة قضاة ممن عيَّنهم الرئيس التركي الأسبق، أحمد نجدت سيزار الذي كان يعتبر في عهده العدو الألدّ لحزب العدالة والتنمية.

لقد كانت المفاجأة كبيرة عندما أعلن رئيس المحكمة الدستورية التركية، هاشم كيليك Hasim Kilic عن قرار المحكمة؛ إذ لم يتم حظر الحزب الحاكم، أي حزب العدالة والتنمية. وكذلك لن يمنع أي أحد من ممارسة العمل السياسي.

تركيا تتنفَّس الصعداء

وفي هذه المرَّة تقلَّص عدد أغلبية القضاة المؤيِّدين لقرار الحظر؛ إذ لم يصوِّت على حظر الحزب سوى ستة قضاة. ومع أنَّ هذا العدد يشكِّل أغلبية، بيد أنَّه لم يكن كافيًا من أجل حظر الحزب - إذ كان يجب أن يصوِّت سبعة قضاة لصالح حظر الحزب. ولكن لقد تم حرمان حزب العدالة والتنمية من نصف المساعدات المالية التي تقدِّمها الدولة لتمويل الأحزاب والمخصَّصة لانتخابات العام المقبل. وذلك بغية "توبيخ" الحزب، على حدّ قول هاشم كيليك: هذا الحكم "توبيخ جاد". غير أنَّ هذه الغرامة لا تؤلم حزب العدالة والتنمية الذي يدعمه مموِّلون قادرون.

الأمر الذي لا يعتبر سوى حل مؤقت للأزمة التركية. لقد منح قضاة المحكمة الدستورية الذين يمثِّلون القوى العلمانية في أجهزة الدولة التركية حزب العدالة والتنمية ورئيسه رجب طيب إردوغان عن قصد فرصة ثانية.

​​أما رئيس هيئة أركان الجيش التركي، يشار بويوكانيت Yasar Büyükanit فقد بقي متحفِّظًا ولم يرغب في التعليق على الحكم. وأعرب اتحاد أرباب العمل التركي "توسياد TÜSIAD" العلماني عن ارتياحه إزاء هذا القرار. وكذلك سرّ أبناء الطبقة الوسطى العلمانية في المدن لأنَّ المحكمة الدستورية لم تصنع من حزب العدالة والتنمية ومن إردوغان أبطالاً وشهداء. وبعد هذا الحكم تصدَّر تقريبًا جميع الصحف التركية هذا العنوان العريض: "تركيا تتنفَّس الصعداء".

فرصة إردوغان الثانية

لقد سئم المجتمع التركي من هذا الصراع وصار يريد أخيرًا وبعد سنوات متعبة من النزاعات التمتّع بـ"العدالة والتنمية". والآن صار يُنتظر من هذا الحزب الذي يُطلق هذين الشعارين على نفسه أن يضطلع أكثر بواجبه. إذ يجب تأخير معالجة الموضوعات الدنية وتقديم الموضوعات الدنيوية عليها؛ وتتصدَّر هذه الموضوعات البطالة والتضخّم المالي المتزايد وانخفاض الانتاج وتدهور الزراعة ومشاكل نظام التعليم غير المحلولة.

أما أنَّ حزب العدالة والتنمية سوف يستمر وزعيمه إردوغان البالغ من العمر أربعة وخمسين عامًا في حكم تركيا، فهذا يعود من دون شكّ إلى تسوية كبيرة. تم التوصّل إلى هذه التسوية بين قيادة حزب العدالة والتنمية الملتفة حلول إردوغان والنخبة الكمالية العلمانية التي كانت تحكم البلاد في السابق. وتنتسب لهذه النخبة قبل كلِّ شيء هيئة أركان الجيش التركي. لقد أجرى إردوغان حديثين على انفراد - الأول في العام الماضي مع يشار بويوكانيت الذي كان ما يزال يشغل منصب رئيس هيئة الأركان والحديث الثاني قبل بضعة أسابيع مع خليفة بويوكانيت، إيلكر باشبوج lker Basbug الذي تم تعيينه رئيسًا لهيئة الأركان.

وتم التعامل مع ما دار في هذين الحديثين بغاية السرية ولم يتسرَّب منهما شيء حتى يومنا هذا. ويعتقد البعض أنَّ قضية إرهاب حزب العمال الكردستاني وحركة الانفصال الكردية قد احتلت موقع الصدارة في هذين الحديثين. وفقط في نهاية الأسبوع الماضي قُتل ثمانية عشر شخصًا في هجوم بالقنابل وقع في إسطنبول - من المحتمل أنَّ المسؤول عنه حزب العمال الكردستاني.

"مصدر الخطر الأول"

ولكن ما الذي أدَّى إلى هذه التسوية بعدما كانت تدور الإشاعات حتى عن احتمال قيام الجيش بانقلاب عسكري على حكومة رجب طيب إردوغان؟ تلعب قضية الأكراد في ذلك دورًا كبيرًا، هذه القضية التي يُنظر لها على أنَّها "مصدر الخطر الأول"، ليس فقط بالنسبة للمواطنين الأتراك العاديين، بل كذلك بالنسبة لهيئة أركان الجيش التركي. وفي هذا الصدد لا تختلف آراء ناخبي حزب العدالة والتنمية عن آراء خصومهم.

​ولكن خصومهم جرَّبوا كلَّ شيء، بما في ذلك الحلّ العسكري. وحركة الانفصال الكردية هذه تبدو أخطر بكثير من ذي قبل، نظرًا إلى تأسيس دولة كردية شبه مستقلة في شمال العراق. وفي هذا السياق يفكِّر إردوغان تمامًا مثل خصومه ومعارضيه. وحزب العدالة والتنمية الذي يتزعَّمه إردوغان يمثِّل القوة الوحيدة التي تستطيع تجريد الحركة الانفصالية الكردية في الانتخابات المقبلة، سواء في جميع أنحاء تركيا أو في شرق هضبة الأناضول. الأمر الذي يحول دون إمكانية استبدال حزب العدالة والتنمية.

وكلما اقترب حزب العدالة والتنمية من المركز، سيتحوَّل أكثر إلى حزب عادي ووطني ومحافظ يمثِّل يمين الوسط. وبذلك سوف يصبح حزب العدالة والتنمية بزعامة إردوغان حزبًا قوميًا، كما أنَّ خصومه العلمانيين سوف يصبحون أكثر تسامحًا إلى حدّ ما تجاه مظاهر الرموز الدينية التي كانوا يرفضونها حتى الآن في الأماكن العمومية.

ومن خلال ذلك سوف يحصل إردوغان على مزيد من الأصوات وسيكون بإمكان تركيا بالفعل أن تتنفَّس الصعداء. والآن يمكن "حقًا العمل في السياسة"، حسب قول سائق سيارة أجرة في إسطنبول؛ "الآن تستطيع تركيا جمع قواها من جديد".

وهذا "التوبيخ" الصادر عن المحكمة الدستورية يعتبر الفرصة الأخيرة بالنسبة لإردوغان - هذه الفرصة التي فهمها وسوف يعمل على مراعاتها.

العدالة والتنمية يمكن أن يصبح صوت الأكراد

​​والخاسرون من هذه "التسوية الكبيرة" هم ممثلو الأكراد المتطرِّفون وعلى رأسهم الحزب الكردي، حزب المجتمع الديموقراطي DTP، الذي يتم الآن تداول قضية أمام المحكمة الدستورية من أجل حظره. وربما سوف يصدر نفسهم هؤلاء القضاة هذه المرَّة حكمًا مختلفًا ويحظرون هذا الحزب الكردي مثلما كانت الحال حتى الآن مع الأحزاب الكردية التي سبقته. وحتى الآن لم تكن هذه الأحكام تفيد في شيء، وكان يتم مباشرة بعد حظر حزب ما تأسيس حزب جديد. ولكن حزب المجتمع الديموقراطي يعاني من تراجع في شعبيته حتى من دون أن يتم حظره.

ففي الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي أجريت عام 2007 كاد حزب العدالة والتنمية يطيح به في المناطق الكردية. ولم يستطع السياسيون المتطرِّفون الأكراد التغلّب على مرشحي حزب العدالة والتنمية هناك إلاَّ بشكل محدود. ويعتقد الخبراء أنَّ حزب إردوغان سوف يحتل في الانتخابات البلدية القادمة حتى منصب رئيس بلدية مدينة ديار بكر التي تعدّ "عاصمة الأكراد السرِّية".

وهذا لا يعني سوى أنَّ حزب العدالة والتنمية سوف يصبح أيضًا صوت الأكراد وسيصبح بذلك الحزب الذي سيتمكَّن للمرَّة الأولى من توحيد البلاد تحت "راية واحدة" بعد حرب مندلعة منذ نحو ثلاثين عامًا بين الدولة والانفصاليين الأكراد.

المجتمع التركي يريد السلام

وهذا الحكم صحيح ويعزِّز الديموقراطية التركية. وكذلك لم تعد القوى الإسلامية تحتاج إلى الشعور بأنَّها ضحية أو شهيدة، كما أنَّها تستطيع الآن التعامل من موقف القوي وأن تثبت جدارتها. ويمكننا افتراض أنَّ إردوغان سوف يتصرَّف منذ الآن بشكل أكثر رزانة وحيطة. وكذلك سوف يتم البحث عن تسوية في قضية الحجاب.

والقوى الليبرالية التي كانت تدعم حتى الآن حزب العدالة والتنمية ضدّ الكماليين المتشدِّدين - سوف تعمل أكثر ضدّ حظر الكحول بشكل تدريجي وخفي أو انتشار الحجاب انتشارًا شاملاً. ولن تتم بعد مناقشة الموضوعات الاجتماعية في قاعات المحاكم أو الثكنات العسكرية. وسيتم التخفيف من حدَّة التوترات المتعبة. فالمجتمع التركي يريد السلام بدل الحرب. كما أنَّ أعلى القضاة في البلاد استجابوا لهذا الطلب.

ديلَك زابتچي أُوغلو
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: قنطرة 2008

قنطرة

موروث أتاتورك اليوم:
الإسلام والكِماليّة في تركيا
نظرة إلى المشهد السياسي التركي الحالي يشير بوضوح إلى إمكانية التعايش بين الوسط الإسلامي مع الموروث اللائكي لمؤسس الدولة مصطفى كمال أتاتورك. بكيم أغاي يتقصى طبيعة هذه العلاقة، كما يعرض تعامل الكمالية مع الإسلام

قضية حظر حزب العدالة والتنمية في تركيا:
معركة سياسية وقضائية باسم العلمانية
لا يمكن أن يكون الدافع الذي يحرِّك الشعب التركي من دون أي توجيهات من الدولة إلاَّ مجرّد عمل من صنع الأعداء الأجانب. بهذا الخطاب تتحدث وتفكِّر النخب العلمانية التي تريد حظر حزب العدالة والتنمية - هذا الحزب الذي ينفرد بالحكم منذ عام 2002 والذي حصد في الانتخابات الأخيرة نصف أصوات الناخبين. غونتر زويفرت في تحليل لهذا الخطاب.

نتائج الانتخابات البرلمانية التركية:
الحاجة إلى قوّة مضادّة لحزب العدالة والتنمية
صوَّت نصف المواطنين لحزب العدالة والتنمية. وفي المقابل كانت نسبة الذين انتخبوا حزب العدالة والتنمية في الانتخابات السابقة التي أُجريت في عام 2002 فقط 34 بالمائة. تمثِّل نتيجة الانتخابات صفعة في وجه العسكر وفي وجه أحزاب المعارضة، التي كانت تعتقد أنَّها ستتمكَّن من كسب أصوات الناخبين من خلال الشعارات القوموية والتسوية العسكرية. تعليق عمر إرزيرين