في تفنيد القول بأن الغزالي قضى على الفلسفة في المشرق العربي

عانى الفلاسفة المسلمون، من الاغتراب في مجتمعاتهم العربية الإسلامية، كما عانت الفلسفة بطبيعة الحال هذا المصير، إلى أن جاءت «الضربة القاضية» -كما يرى الكثيرون- على الفلسفة في المشرق العربي على يد أبو حامد الغزالي، في كتابه «تهافت الفلاسفة». وإن كان الغزالي في كتابه لم يعترض أو يرفض الفلسفة ككل وإنما ركز نقده على المبحث الإلهي، الذي يعبر عن تصورات ذهنية للفلاسفة الإغريق لا يوجد دليل عقلي عليها، موجزاً إياها في عشرين مسألة، عدّ بعضها موجباً للكفر مثل القول بقِدم العالم، والقول إنّ الله لا يعلم إلا الكلّيّات، ولا يعلم الجزئيات، وإنكار بعث الأجساد.



القول إن الغزالي بكتابه «تهافت الفلاسفة» قضى على الفلسفة في المشرق، كما يرى عبدالرشيد محمودي في كتابه «فلاسفة الأندلس» (الدار المصرية اللبنانية) في حاجة إلى إعادة نظر. فما جاء به الغزالي وافقَ رفض المجتمع العربي المسلم الفكر الفلسفي، وعلم الكلام. فتحذير الفقهاء مِن علم الكلام وتكفير مَن يعملون به أقدمُ من الغزالي نفسه. كما أن تلقيب أبو حامد الغزالي بحجة الإسلام، ما هو إلا تعبير عن رضا الفقهاء عليه بعد مهاجمته الفلاسفة ونجاحه في فعل ما لم يستطيعوا أن يفعلوه، بلغة العقل لا النقل كما فعل السلفيون، وخصوصاً أنه من وجهة نظرهم مارَس الفلسفة ثم انقلب عليها، على رغم أن الحقيقة أن الغزالي هاجمَ الفلاسفة لا الفلسفة كما يظهر في عنوان كتابه.



فإذا كان هذا مصير الفلسفة في المشرق العربي، فإن الوضع لم يختلف كثيراً في المغرب العربي، ففلاسفة الأندلس عانوا من هذه الغربة، مثل ابن باجة وابن طفيل، وابن رشد، وهذا ما ينقله عبدالرشيد محمودي الذي يرى أن «الغزالي» كان له دور كبير في غربتهم وغربة الفلسفة بعد أن قتلها في الشرق، ومثل هذا القول يفنده المستشرق ديبور، في كتابه «تاريخ الفلسفة في الإسلام»؛ ترجمة عبدالهادي أبو ريده، الذي يرى فيه أنه ليس بإمكان شخص مهما كان، أن يكون حاسماً في إنهاء حقل معرفي داخل سياق ثقافي ما، وأن هناك أساتذة الفلسفة وطلابها بعد الغزالي كانوا في المشرق بالمئات بل الآلاف، لكن لم تعد بالحظوة ذاتها التي كانت لها قبل ما كتبه الغزالي.



ويناقش محمودي في أول الكتاب ذي اللغة السلسة والطابع الحكائي الشيق، قضية الفلسفة الإسلامية والصورة المغلوطة عنها حتى في البلدان العربية، مِن أنها نسخ مشوهة من المذاهب اليونانية، وباتت أقسام الفلسفة في الجامعات المصرية تعطي الأولوية لعلم الكلام والتصوف تاركة أمر الفلسفة الإسلامية، لمستشرقين يكتبون أعمالاً جليلة عن الفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم من فلاسفة المسلمين، ليس لها نظير باللغة العربية. وتجاهلُ الفلسفة الإسلامية هو أمر لمستُه شخصياً أثناء دراستي لعلم الجمال في قسم الفلسفة في كلية الآداب- جامعة القاهرة- في برنامج الساعات المعتمدة للدكتوراه، كمادة اختيارية للشعبة الأدبية في قسم اللغة العربية، فالاتجاه الشائع هناك أن الفلسفة الإسلامية لم تقدم شيئاً ولم تضف جديداً إلى الفلسفة اليونانية، واكتفت بدور الناقل والشارح لها. لكن محمودي ينبه إلى أننا وإن كنا نميل عادة إلى التقليل من شأن الشرح مقارنة بأعمال التنظير والإبداع، علينا أن نتذكر أن للفلسفة في عملها أساليب مختلفة منها الحوار (أفلاطون)، والمحاضرة (أرسطو)، والقصة الخرافية (ابن طفيل)، والاعترافات (أوغسطين والغزالي)، والسيرة الذاتية (ديكارت)، والشرح لا سيما إذا كان على طريقة ابن رشد ذات النزعة النقدية الواعية.



أما عن موضع غربة الفلاسفة، وغربة الفلسفة نفسها فهو قديم قِدم أفلاطون، ويرجع في التراث الإسلامي إلى الفارابي ومدينته الفاضلة، التي يستطيع الفيلسوف المغترب أن يحتل فيها المكانة التي تليق به، واشترك في هذه الغربة الثلاثة الأندلسيون وعلى رأسهم ابن باجة الذي يصف في رسالته «تدابير المتوحد» حال الفلاسفة في المجتمع وما يعانونه. فعلى المتوحد ألا يصاحب إلا أهل العلم وإن لم يجدهم فعليه أن يعتزل الناس جملة بقدر الإمكان. واشترك معه في هذا الأمر ابن طفيل في قصته «حي بن يقظان» التي تدور أساساً حول غربة الفلسفة في بلاد الإسلام، وابن رشد الذي تعرض بسبب دفاعه عن الفلسفة إلى النفي وحرق كتبه، ما قضى على الفلسفة الإسلامية في الأندلس وفي العالم الإسلامي كله.



ويشير المحمودي إلى أن ابن طفيل بثّ فكره الفلسفي في حكاية «حي بن يقظان» التي تمثل النموذج الرمزي لقدرة الإنسان على بلوغ الحقيقة بعقله المحض، والتي ردّ فيها بأسلوب غير مباشر على كتاب الغزالي، مستعيناً بأفكار ابن رشد الواردة في كتاب «تهافت التهافت» دفاعاً عن الفلسفة بعد تخليصها مما شابها من خلط وتلفيق.



ويذكر أن أول من تناول قصة حي بن يقظان هو الشيخ الرئيس ابن سينا (428هـ)، ثم ابن طُفَيل (581هـ)، ثم السهروردي المقتول (587هـ)، الذي أطلق على قصته اسم «الغريبة الغربية»، وأخيراً ابن النفيس (687هـ)، الذي غيّر اسم (حي بن يقظان) إلى «فاضل بن ناطق»، وأطلق على قصته اسم «الرسالة الكاملية». وهي في الأصل مأخوذة كما يشير الدكتور غنيمي هلال في كتابه «الأدب المقارن» من قصة «أبسالوسلامان» التي ترجمها ابن إسحاق عن اليونانية، وقد نظم هذه القصة عبدالرحمن الجامي في القرن التاسع الهجري.



ويكشف المحمودي عن دور فلسفة ابن رشد في الحضارة الغربية، فهو رائد التنوير، وكان لفلسفته دور في تجديد الثقافة الأوروبية، عندما انتقلت إليهم عن طريق الترجمة، فقد كان له تلامذة في أوروبا منهم الرشديون اللاتينيون والعبريون، وظلت فلسفته تشغل أذهان أوروبا كلها، خاصة عندما فصل في فلسفته بين مجال العلم والدين، ما هدّد السلطة الدينية الكنسية التي كانت تسيطر على أوروبا في عصورها الوسطى، فقد كان له أثر في جميع الحركات التجديدية التي تلت الرشديين اللاتينيين، بما في ذلك ثورة العلم الحديث، حتى ديكارت تأثر وتشابه موقف كانط معه في قضية الأساس الأخلاقي ومبادئ الدين، ما يرجح تأثره بما قاله ابن رشد. فابن رشد استهل اتجاهاً فكرياً جديداً تابعه فيه بعض المفكرين الأوروبيين بوعي أو من دون وعي.



ويرى المحمودي أن ابن رشد تعرض لمؤامرة في الغرب سواء في العصور الوسطى أو من الفلاسفة المحدثين، كل لأسبابه الخاصة. ففي العصور الوسطى أصابت فلسفة ابن رشد أوروبا المسيحية بالهوس، فقد وصف هناك بالمسيح الدجال، وبأنه معاد للأديان، وشُبه بالكلب المسعور، وجعله دانتي في كوميدياه في الجحيم، وهناك اللوحات التي تظهر توماس الأكويني واقفاً بينما ابن رشد مطروحاً على الأرض مسحوقاً، منهزماً بفعل أعمال السحر الأسود، فإن كان العداء لابن رشد كان قوياً لابن رشد وفلسفته وظهر في الأعمال السابقة وغيرها، إلا أننا نرى أنه في الكوميديا الإلهية لم يكن دانتي بوضع ابن رشد في الجحيم -على عكس ما سعى على التدليل عبدالرشيد محمودي في كتابه- يقصد التقليل من ابن رشد فقد وضعه دانتي في منطقة اللمبو في مدخل الجحيم التي يوجد بها عظماء العالم الذين ماتوا قبل المسيحية أو بعدها ولم يعمّدوا، حيث عذاب الروح لا الجسد.



ويفسر المحمودي العداء لابن رشد في القرون الوسطى، بالشر الذي رأوه كامناً وراء شرحه لأرسطو الذي فصل فيه بين مجال الدين ومجال العلم، ما أحدث تصدعاً في البناء الثقافي السائد بعد أن كان متماسكاً في ظل هيمنة الدين، وسلطة الكنيسة، وأصبح يهدد باستقلال العلم.



ويرجع محمودي تجاهل الفلاسفة المحدثين في القرن السابع عشر بداية العصر الحديث للفلسفة بل ومعاداتهم للرشديين اللاتينيين ولأرسطو في بعض الحالات، إلى مصلحتهم في عدم الاعتراف بفضل مَن سبَقَهم في التجديد، مشيراً بذلك إلى أن ابن رشد وقع ضحية لمنعطف تاريخي كبير التقى عنده أنصار القديم والجديد، كل يعاديه بطريقته، بإدانته بالإلحاد وغيره من التهم، أو بإخفاء دوره في تحرير العلم، من سلطة الدين.