وطن يتجاوز المسافات....ولغة حروفها العالم

تجاوز عبد الكبير الخطيبي، أحد أهم مثقفي المغرب، منطق الهوية الانكفائي والمركزية الأوروبية، محررا "الأنا والآخر من الطابع الاستعماري"، منفلتا بذلك من مركزية الثقافة العربية ـ الإسلامية. الفيلسوف الفرنسي رولان بارت يرى أن كتابات الخطيبي تخلخل معرفته وتأخذه بعيدا عن ذاته، كما تأخذنا نحن أيضا بعيدا عن ذاتنا الموهومة وعن مسلماتنا. رشيد بوطيب يستذكر الراحل الخطيبي.

عبد الكبير الخطيبي، الصورة: مجلة ميدوزا
"يريد الآخرون أن يؤطروني في خانة ما، والحال أني ممتهن لقياس المسافات".

​​ التقيته العام المنصرم، غالبا في مقهى ميرامار المطل على الأطلسي أو في بيته الذي لا يبعد سوى خطوات عن المقهى، وتواعدنا أن نلتقي في لايبزيغ أو برلين هذا العام شهر يوليو. لكني لن أنسى أول مرة ألتقيه، "عرفته" للتو رغم أنه لم يسبق لي أن رأيته من قبل.

ورغم زحام وضجيج المقهى، كان يسير في تؤدة كما لو أنه يتخوف من أن يخدش الأرض بحذائه، لغته صمت، أقرب إلى الظل هو.. سألني عن برلين، وقادنا الحديث إلى آداب أوروبا الشرقية. فغرت فاهي دهشة، معرفته مذهلة، هو الذي قرأ "كوسموس" غومبروفيتش في سن الشباب، اقتنى الكتاب من سوق شعبي في ترجمة فرنسية، والذي عشق أشعار فيسوافا شيمبورسكا، الشاعرة البولندية الحائزة على جائزة نوبل في عام 1996، عشقها وهي تقول:"أعلم الصمت في كل اللغات".

"تراثنا هو الكون"

أنا مغربي لأني لا أملك هوية، فأنا قبل الهوية، لغتي حروفها العالم، أو كما قال بورخيس، الذي كان يقربه أكثر من أي كاتب "تراثنا هو الكون". حين نحدد معنى أن يكون المرء مغربيا، سنتجاوز عديدا من المسلمات والصراعات، تحديد يستعصي على التحديد، لأنه لا يحتمل الاختزال، أفق متعدد لا نفق، "فكر في لغات متعددة" يقول الخطيبي، ساخرا من لغة الهوية.

للآخرين هوية ولنا هذا الاغتراب واللااغتراب، مواطن في عوالم ووجهات نظر مختلفة، لا يخشى التناقض، مدرك لذاتيته الضعيفة، ذاتية من دون ذات إذا استعملنا لغة فيلسوف الآخر ليفيناس. كما أنه فكر يستعصي على التحديد، فكر هو ماوراء النسق: "يريد الآخرون أن يؤطروني في خانة ما، والحال أني ممتهن لقياس المسافات". حب نقدي هو ذلك الذي ربطه بوطنه وثقافته، وطن ينتمي لأكثر من مستقبل، لأنه وطن يملك أكثر من ماض وأكثر من حاضر وأكثر من لسان ولون وأصل.

تجاوز للمركزية الاثنية

في تمردنا على الأصل نكون أكثر وفاء، يقول الشاعر الكبير باول تسيلان (مديح البعاد)، الذي كان الخطيبي يعشق شعره. هوية تنتمي إلى المستقبل وغير مسجونة في ماض، فهي ماض يخترقه التعدد. وهكذا فإن مقولة شرق/غرب تضحي واهية، فاللغة والثقافة غير مرتبطتين بأمة أو عرق أو دين.

والقول أيضا بثقافة فرنسية فيه الكثير من التجني على هذه الثقافة، إن الكتابة الفرانكفونية تنسيب لهذا المركز، خلخلة وتحويل للفرنسية من لغة إلى لغات، افتضاض لها من الداخل/ الخارج، تجاوز للمركزية الاثنية التي أسست لما يسمى بالحضارة الفرنسية:"ما هو فرانكفوني، يقول أحد كبار المهتمين بالخطيبي، ألفونسو دي تورو ـ هو طبعا مرتبط بالذات، لكن "الأنا" تملك أصلا مختلفا وتقليدا مغايرا، وفي علاقة القوة هذه فإن الفرانكفونية تعني ازدواجية اللغة وهي ليست لغة أم ولا لغة أب، إن الأمر يتعلق بتجربة كتابة غير شخصية بما أن اللغة لا تنتمي إلى أحد".

غلاف الكتاب
يمتاز الخطيبي بقدرة كبيرة على ملاحقة العالم من حوله بفضول لا ينضب، وإصرار على إعادة صوغ القضايا والإشكاليات من منظور التفكيك والتركيب

​​ يأخذنا الحديث إلى الثقافة العربية، يذكر علمين، محمد عزيز لحبابي، الذي كان يريد الدعوة لإعادة طبع كتبه، لحبابي داعية الغيرية والاختلاف في زمن النعرات القومية والدينية والطبقية، وعبد الله العروي الذي كان يحترمه وإن كان يرفض تاريخانياته:"إن العروي يرد التاريخ إلى شمولية ميتافيزيقية". وعند نهاية آخر لقاء، يحملني سلاما لصديقه الفنان السوري مروان قصاب باشي الذي لم ألتقه بعد.

كان أول كتاب أقرأه للخطيبي "الاسم العربي الجريح". كتاب هزني بعنف، قرأته في وقت متأخر للغاية، قبل سنتين فقط. تفكيك للمفهوم اللاهوتي للجسم العربي، و للمقاربات الاثنولوجية، التي تتعامل مع الثقافة الشعبية باحتقار. كتاب اعتمد منظورا جديدا وجهازا مفاهيميا مختلفا.

الكتاب تأسيس لما أسماه الخطيبي بالنقد المزدوج والذي يتجاوز منطق الهوية الانكفائي والمركزية الأوروبية، وبلغة الخطيبي نوع من "نزع الطابع الاستعماري عن الأنا والآخر". لقد أخرج الثقافة العربية من النص (الرسمي) إلى الجسد، في زمن يتمحور فيه الفكر العربي حول النص والعقل، وأضحى اللامفكر فيه داخل هذه الثقافة موضوعا للتفكير، كبلاغة الجماع والخط والوشم والحكاية الشعبية.

ينفلت الخطيبي بذلك من مركزية الثقافة العربية ـ الإسلامية ليهتم بالمكبوت والمقموع والمسكوت عنه داخل هذه الثقافة، وهذا رولان بارت يؤكد بأن كتابة الخطيبي تخلخل معرفته وتأخذه بعيدا عن ذاته، كما تأخذنا نحن أيضا بعيدا عن ذاتنا الموهومة وعن مسلماتنا.

في وجه الاستعمارية

الخطيبي بين طلبته، الصورة: صحيفة الجديدة
عمل الخطيبي بعيداً عن الأضواء، وأحدثت مؤلفاته النظريّة والإبداعيّة نقلة جذريّة في وعي معاصريه

​​ "إن نزع الطابع الاستعماري هو الاسم الآخر لهذا الفكر ـ الآخر". وهذا ما قام به صديق كبير له، جاك دريدا، نزع الطابع الاستعماري عن الفكر الغربي، كما كتب الخطيبي نفسه في رسالته المفتوحة إليه. دريدا الذي سيخص الخطيبي بكتاب من أجمل كتبه "أحادية لغة الآخر"، قراءة أو هوامش على كتاب الخطيبي "حب مزودج اللغة"، "هذا السفر الكبير" كما يسميه دريدا، تفكير في معنى أن يكون المرء مغاربيا، في هذا "الاضطراب على مستوى الهوية". كتابة بأكثر من أم أو بأكثر من أصل.. بلا أصل، لا تعرف سوى لغة الاستقبال، أو كما يكتب الخطيبي:" نعم لقد فقدتني لغتي الأم (الأصلية)، فقدتني، لكن هل معنى ذلك أنني توقفت عن الكلام، أو عن الكتابة بلغتي الأم (الأصلية) وبمتعة كبيرة. ثم ماذا تقدم لي هذه اللغة الثنائية عبر هذه الفرصة؟ هنا سأقول شيئا آخر: إن أمي كانت أمية، وكذا عمتي التي كانت بمثابة شبه مربية لي.

هذا التشوه الخلقي قد يكون سبب توجهي للكتابة في منزلة بين المنزلتين: بين الكتاب المقدس وبين لغتي الأجنبية، وذلك عبر تجرعي لأوجاع ولادة ثانية بمعزل عن كل أم، الأم الواحدة الوحيدة. ذلك أنني عندما كنت طفلا كنت أنادي خالتي بدلا عن أمي، وأنادي أمي عوض الآخر، ليبقى الآخر دائما هو الآخر" ( ترجمة عمر مهيبل).

ألا يلتقي هنا الخطيبي مع ليفيناس الذي لم يبرح يردد بأن "ماهية اللغة هي في جوهرها صداقة وضيافة"؟ لكن الصداقة ككل عقد اجتماعي وإن كانت خارج كل سلطة كما يعلمنا أرسطو، هي صداقة مشروطة، ولهذا يؤكد دريدا بأن هذه المناقشة حول الأحادية اللغوية " ما كان لها أن تكون شيئا آخر سوى كتابة تفكيكية، كتابة ما انفكت تتهجم على ما يمثل ماهية هذه اللغة، لغتي الوحيدة، وعلى أفضل ما تحمله وهو ميراثها الفلسفي.." أو كما يكتب الخطيبي في رسالته إلى دريدا :"اللغة لا مسكن لها، إنها متغربة، فضاء، وعد.." وعد أشبه ببحارة بابلو نيرودا:"يتركون وعدا، لكن أبدا لا يعودون".

رشيد بوطيب
حقوق الطبع: قنطرة 2009

رشيد بوطيب، روائي وصحفي مغربي مقيم في برلين، صدرت له رواية "موت" ومؤخرا كتاب "العقل قاطع طريق" ويهتم أيضا في التفكير الفلسفي والأدبي المعاصر .

قنطرة

في رثاء الكاتب السوداني الشهير الطيب صالح:
الطيب صالح "يهاجر" إلى عالم الخلود
بوفاة الكاتب السوداني الشهير الطيب صالح فقد الأدب العربي أهم روائييه بعد نجيب محفوظ. ونظرا لرحلة الطيب صالح الطويلة مع الأدب والثقافة والصحافة حدا بالكثير من النقاد إلى تسميته بـ"عبقري الرواية العربية"، لاسيما في ضوء تجليه في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال". شتيفان فايدنر يرثي الروائي الكبير.

برهان غليون:
"الديمقراطية العربية المنتظرة لم تولد بعد"
المفكر برهان غليون مدير مركز دراسات الشرق المعاصر وأستاذ علم الاجتماع في جامعة السوربون في باريس، يتحدث لقنطرة عن الإصلاحات السياسية، والتطورات الديمقراطية في العالم العربي،ومستقبل الإصلاحات والديمقراطية في سوريا.

الإصلاحات الديموقراطية في العالم العربي:
وهم أم واقع؟
يرى الباحث والكاتب فريد هاليداي أن الغرب ودول الشرق الأوسط على حد سواء بحاجة إلى تحليل واقعي للسؤال عن أسباب عدم نهوض الديموقراطية في عدد كبير من الدول العربية والتقرير الأخير عن التنمية الإنسانية العربية لا يعطي تفسيرات شافية.