جماعة "ميلي غوروش" الإسلامية: ذئاب في شكل حملان؟

في كتابه الجديد قام فرنر شيفاور – رائد الدراسات الأنثروبولوجية الثقافية عن الأتراك في ألمانيا بوضع جماعة "ميلي غوروش" الإسلامية تحت المجهر. سوزانه شروتر تلخص لنا أهم ما توصل إليه في دراسته.

هل يلقى المتحمسون الإسلامويون المصير نفسه الذي انتهى إليه الثوار العلمانيون خلال مسيرتهم الطويلة عبر المؤسسات المعادية التي احتوتهم في النهاية وهذبتهم وأعادت تشكيلهم، ليغيروا في نهاية المطاف من خطابهم الانقلابي ويحولوه إلى برنامج إصلاحي لين كالشمع؟ هذه هي النظرية التي يتبناها الباحث في شؤون الهجرة فرنر شيفاور، أستاذ الأنثروبولوجيا الثقافية في جامعة فيادرينا الأوروبية بمدينة فرانكفورت (الواقعة على نهر الأودر)، وحول تلك النظرية يدور أحدث كتبه الذي يحمل العنوان الدال: "ما بعد الإسلاموية".

على خلفية تحليل غني بالمعلومات التاريخية يرسم شيفاور الخطوط العريضة للطريق الطويل الذي سارت عليه جماعة "ميلي غوروش" الإسلامية: من منظمة ذات توجه تركي معاد للغرب تتبنى إيديولوجية إسلاموية فظة إلى منظمة ديمقراطية براغماتية ترعى مصالح المسلمين الألمان من ذوي الأصول التركية. هذا التطور يمر به المثقفون الشبان على وجه الخصوص الذين ولدوا ونشأوا في ألمانيا، وهم يجيدون اللغة الألمانية كما أنهم يعرفون الثقافة السياسية السائدة أفضل معرفة. يتحدث شيفاور في كتابه عن مسلمين ملتزمين، غير أنهم ينظرون نظرة تقدير إلى النظام السياسي لجمهورية ألمانيا الاتحادية، بل ويدّعون أنهم اكتشفوا المثال الإسلامي للعدالة في الديمقراطية ونظام السوق الحر الاجتماعي. هكذا – على الأقل – يتحدث أغوز أوتونتشو، الأمين العام الوسيم الذي يجسد نظرية شيفاور تجسيداً كاملاً. يطلق شيفاور على الكادر الشاب في منظمة "ميلي غوروش" "ما بعد الإسلاميويين"، ويعتبرهم النسخة الإسلامية للاتحاد المسيحي للشباب في ألمانيا، وبسرده لتاريخهم يوحي الباحث للقارئ بأن الإسلاموية سوف تتجاوز نفسها بعد أن تحتك بالديمقراطية.

"لقد أضحى بوقاً للإسلاميين"

​​بإمكان المرء أن يتخيل أن الآراء حول نظرية شيفاور تنقسم بين مؤيد ومعارض؛ ففي الماضي أثارت "ميلي غوروش" المرة تلو الأخرى اهتمام الشرطة والنيابة العامة وأجهزة أمن الدولة، وما زالت تُتهم بالقيام بأفعال إجرامية وإسلاموية، ومنها تقديم الدعم لمنظمة حماس الفلسطينية. وهذا هو محور النزاع الذي نشب في بافاريا حول مشروع مسجد بنتسبرغ الرائد، إذ ينسب إلى إمام المسجد قيامه باتصالات مع "ميلي غوروش". كما أن وزير الداخلية الألماني دو ميزير لم يوجه الدعوة إلى "المجلس الإسلامي" – الذي يغلب عليه أعضاء "ميلي غوروش" – لحضور مؤتمر الإسلام الألماني الذي أسسه سلفه فولفغانغ شويبله. لقد كان شيفاور يدعو دائماً إلى التعامل بقدر أكبر من الهدوء والاسترخاء مع "ميلي غوروش"، ولذلك وُجهت إليه تهمة افتقاد المسافة النقدية اللازمة مع موضوع بحثه الأكاديمي. لقد سمح لهم باحتوائه، يقول منتقدوه، وأصبح بوقاً للإسلامويين، ووقع ضحية كلامهم المعسول والتكتيك الذي يستخدمونه بإظهار غير ما يبطنون، ولهذا بات عاجزاً عن التعرف على الذئاب المتخفية في شكل حملان.

غير أن هذا النقد لا يكاد يقنع أحداً. فمن الناحية العلمية لا يرقى غبار الشك إلى الطريقة المنهجية التي اتبعها شيفاور ولا إلى الاستنتاجات والنتائج التي توصل إليها عبر البيانات التجريبية التي استند إليها. على العكس: لقد استخدم المؤلف مبادئ علم الإثنولوجيا أفضل استخدام، وقام عبر سنوات طويلة من المشاركة والملاحظة بوضع "ميلي غوروش" تحت المجهر، وشرع في فهم أعضائها، فانفتحت أمامه آفاق كان من المستحيل أن يراها لو ظل على مسافة كبيرة من موضوع بحثه. هذه الملاحظات والخبرات والمعايشات قام المؤلف بفحصها من الناحية التاريخية والاجتماعية، ثم أعاد ترتيبها. إن ما قام به المؤلف هو دراسة أنثروبولوجية ثقافية راسخة الأركان. ما فعله يتطابق مع الطريقة التي أثبتت نجاحها في مجاله، أي أنه لم يخف موقفه وآراءه، بل أشرك القارئ معه في رحلته الاستكشافية لذلك العالم المجهول لجماعة "ميلي غوروش"، بدلاً من استخدام بيانات كمية للوصول إلى يقين يدّعي الموضوعية.

أكثر دقة مما يظن منتقدوه

كما أن نظريات شيفاور ليست بالجديدة تماماً في ضوء الأبحاث الدولية التي أُجريت على الإسلاموية. إن باحثين مثل جيل كيبل وأوليفر روي أو نيلوفر غوله أكدوا منذ سنوات طويلة فشل الإسلام السياسي. إنهم يتفقون مع شيفاور في أن المثقفين والفنانين ورجال الأعمال الشبان الذين حصلوا على تعليم جيد – والذين تغلبوا بنجاح على مشكلات الجمع بين القيم الإسلامية والحداثة العلمانية – هم أبناء الثورات الإسلاموية المحبطة.

​​هل القلق الذي يشعر به البعض حيال جماعة "ميلي غوروش" مبالغ فيه، أم أنه ربما تعبير عن موقف معادٍ للإسلام يطلق عليه بعض الباحثين في شؤون الهجرة المصطلح المضلل: "إسلاموفوبيا" ؟ في هذه النقطة تحديداً يتعامل شيفاور مع موضوع بحثه على نحو أكثر دقة مما يظن منتقدوه. إنه يعترف بأنه لا يستطيع على وجه اليقين تحديد قدر تأثير الديمقراطيين الشبان في الجماعة بالفعل وكيف سيكون هذا التأثير في المستقبل.

ويفرّق شيفاور بين ثلاثة تيارات داخل جماعة "ميلي غوروش" في الوقت الراهن: تيار محافظ تسوده التصورات القيّمية التركية الريفية؛ وتيار شاب ينشط أعضاؤه داخل الجماعة وداخل مجتمع الأغلبية على حد سواء، غير أنهم يتسمون بروح المعارضة المرنة إلى حد ما؛ وأخيراً التيار المابعد إسلاموي الذي يضم مثقفين يتحلون بالرزانة ويسعون إلى الاتصال بالمؤلف لأنهم يبحثون عن "الحوار مع علماء الاجتماع". ولأن أنصار ما بعد الإسلاموية، هكذا يقول شيفاور، يمارسون نفوذهم بالدرجة الأولى على الدوائر المحلية وغير المحلية، فإنهم هم الذين يصوغون الشكل الخارجي للمنظمة. أما على مستوى القاعدة وداخل الجماعات الدينية نفسها فإن التيارين الآخرين هما السائدان.

التركيز على الحجاب فقط يدل على عدم فهم أشياء عديدة

كما أن البرنامج الثقافي لـ "ميلي غوروش" إشكالي أيضاً. يعترف شيفاور بأنه سيكون من "سوء الفهم لو اعتقدنا أن المشروع المابعد إسلاموي سيصب في تيار إسلامي أوروبي "ليبرالي". إن الانطباع المتولد هو بالأحرى أن هذا المشروع إنما يستمد قوة إقناعه - مثلاً أمام منتقديه من العالم الإسلامي - عبر تبنيه إسلام يستند استناداً صارماً على مبادئ الشريعة". وهذا أمر لا بد أن يثير القلق، وخصوصاً عندما يفكر المرء في حالات دولية أخرى شبيهة تظهر لنا عواقب الاستراتيجية الإسلاموية الثقافية.

​​ففي كل مكان سادت فيه ثقافة الإسلاموية فإنها غيرت المجتمع تغييراً دائماً. من مصر حتى إندونيسيا يتزايد الضغط على المسلمين لاتباع معايير موحدة، كما يتقلص هامش الحركة بالنسبة للنساء، وتنشأ قيم سلوكية جامدة. في ألمانيا يحاول نشطاء "ميلي غوروش" "إعفاء" البنات المسلمات من دروس السباحة والرحلات، وليس نادراً ما يكون النجاح حليفهم. من المفهوم إذاً أن تُدق أجراس التحذير بسبب هذا الهجوم على حق المساواة بين الرجل والمرأة الذي يكفله الدستور. إن غض الطرف عن ذلك بدعوى النسبية الثقافية لا بد أن توضع له حدود يحترمها الفاعلون الدينيون، من أي لون كانوا.

ولأن قضية الجنسين قضية محورية في النقاش الدائر حول الاندماج، فمن الطبيعي أن توضع "ميلي غوروش" تحت مجهر الرقابة الدقيقة في هذه المسألة. وبدلاً من الحصول على إجابات سهلة يجد المرء هنا أيضاً مستويات مختلفة ومعقدة ومحيرة. لقد أشار شيفاور في دراسات سابقة إلى أن البرنامج التعليمي والاستشاري لمنظمة "ميلي غوروش" يصلح بالفعل إلى إحداث تغييرات لدى العائلات التي ما زالت لديها تصورات ريفية بطريركية معادية للنساء معاداة مطلقة. فإذا استخدم رجل ذرائع دينية، على سبيل المثال، ليمنع زوجته من الخروج بدونه من المنزل، ثم تقول "ميلي غوروش" للمرأة إن الإسلام يسمح بالخروج من المنزل بعد ارتداء الحجاب لقضاء شؤونهن، فلابد من أن نعتبر ذلك "تمكيناً" للمرأة. إن من يُستثار فقط بسبب الحجاب، لم يفهم أشياء عديدة.

لقد وضع فرنر شيفاور على عاتقه مهمة التعرف على الواقع الاجتماعي بكل تعقيداته، وعرض النتائج التي يتوصل إليها على قرائه. وبدراسته الأخيرة نجح في هدفه هذا على نحو جدير بالإعجاب. ليس على القارئ أن يوافقه في كل نقطة، ولكن مما لا شك فيه أن كتابه عن "ميلي غوروش" سيثري النقاش الدائر حول الإسلام والاندماج ثراءً لا حد له، كما أنه جدير كل الجدارة بتصحيح الصور النمطية المرسومة بالأبيض والأسود.

سوزانه شروتر
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2010

صدر كتاب فرنر شيفاور عن دار زوركامب، برلين 2010، بعنوان "ما بعد الإسلاموية. دراسة إثنوغرافية لجماعة "ميلي غوروش" الإسلامية".

قنطرة

"المؤتمر الإسلامي الألماني" الثالث:
ضرورة المحافظة على تعددية المسلمين
أظهر "المؤتمر الإسلامي الألماني" الثالث من جديد أنَّ الجدال الدائر حول إضفاء الطابع المؤسساتي على الإسلام ودمجه في ألمانيا في شكل منظمة مركزية واحدة لا يطرح فقط أسئلة حول قدرة هذه المنظمة المطلوبة سياسيًا على تمثيل الإسلام والمسلمين في ألمانيا، بل يحمل مخاطر توظيف الإسلام سياسيا. تعليق لؤي المدهون.

"مجلس تنسيق المنظمات الإسلامية في ألمانيا":
إشكالية تمثيل المسلمين في ألمانيا
أورزولا شبولر-شتيغيمان أستاذة الدراسات الشرقية والتركية في جامعة ماربورغ ولها العديد من المؤلفات عن الإسلام في ألمانيا وعن تركيا. تأسس في ألمانيا أخيرا مجلس مختص بتنسيق شؤون المسلمين ورافق هذا الإعلان تشديد على أن هذا المجلس هو الممثل الشرعي الوحيد للمسلمين في ألمانيا. تعليق أورزولا شبولر-شتيغيمان

الناخبون المسلمون والانتخابات البرلمانية الألمانية:
توجهات انتخابية من دون برامج سياسية
مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات البرلمانية في السابع والعشرين من شهر أيلول/سبتمبر الجاري تتنافس الأحزاب الألمانية على استقطاب الناخبين المسلمين. غير أن مواقف هذه الأحزاب تتفاوت فيما بينها في نظرتها للقضايا التي تشغل بال الناخبين المسلمين في ألمانيا وبالتالي تتفاوت حظوة هذه الأحزاب بين هؤلاء الناخبين. موريتس باومشتيغر يلقي الضوء على دور الناخبين المسلمين في هذه الانتخابات.