لماذا فشلت تجارب الانتقال الديمقراطي العربية؟
في أعقاب انتفاضات "الربيع العربي" سادت توقعات كثيرة بأنها ستكون بداية عهد جديد من التحوّل الديمقراطي في المنطقة العربية. وبعد نحو عقد، يبدو أن النتيجة سلبية في كل الدول التي شهدت تلك الانتفاضات. ولفهم السبب، علينا أن نعود إلى ما حدث وما لم يحدث منذ عشر سنوات في الدول التي شهدت سقوط أنظمتها القديمة، والبحث عن الأسباب العميقة التي أدت إلى فشل تجارب التحوّل الديمقراطي، بما في ذلك الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في كل دولة، ومدى تأثيرها على فشل هذا التحوّل الديمقراطي، فضلاً عن الشروط التي كانت مطلوبةً لتعزيز هذا التحوّل منذ انطلاق عمليته، من دون أن تُنسى أيضا العوامل الخارجية، ممثلة أساسا في الثورات المضادّة التي استثمرت كل شيء، من أجل إفشال كل محاولات الانتقال الديمقراطي في مهدها.
لن يقف هذا المقال عند جميع أسباب فشل محاولات الانتقال الديمقراطي في الدول العربية التي شهدت إرهاصات هذا الانتقال، بعد انتفاضات شعوبها للمطالبة بالحرية والديمقراطية، وجديد هذه التجارب التي تسير اليوم نحو الفشل الذريع التجربة التونسية التي دخلت إلى مأزق سياسي، سيعيدها إلى مرحلة أسوأ مما كانت عليه قبل انتفاضة ربيعها الديمقراطي. يكفي فقط أن نقف عند واحد من هذه الأسباب التي أعتبرها جوهرية ومؤسّسة في كل تجارب الانتقال الديمقراطي الناجحة التي عاشتها شعوب أخرى، عبرت بدولها من السلطوية المطلقة إلى الديمقراطية، حتى وإن لم تكن مكتملة، لأنه لا وجود لنظام ديمقراطي مثالي في العالم، فالديمقراطية، كما كان يقول ونستون تشرشل: "هي أسوأ أشكال الحكم، باستثناء كل الأشكال الأخرى التي تمّت تجربتها".
لا وجود لنظام ديمقراطي مثالي في العالم
أسباب الفشل كثيرة، وتختلف من تجربة إلى أخرى، وقد كتب عنها كثيرون، باحثون ومهتمون بشأن الانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية، لكن أهم هذه الأسباب التي لا يقف الباحثون عندها طويلا مسألة العدالة الانتقالية التي تُعتبر مرحلةً مؤسّسة وجوهرية للعبور بسلاسة نحو انتقال ديمقراطي حقيقي. وحتى التجارب الاستثنائية، مثل تجربة إسبانيا التي عبرت نحو الديمقراطية من دون إقامة عدالة انتقالية ما زالت الأصوات ترتفع داخلها، على الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود ونيف على تحوّلها الديمقراطي، تطالب بتصفية تركة الماضي الأليم الذي عاشته الأمة الإسبانية تحت نير الديكتاتورية. جديد تجليات هذه المطالبة قرار الحكومة الاشتراكية عام 2019، نقل رفات الدكتاتور الإسباني الراحل، فرانثيسكو فرانكو، إلى مكان لا يمكن لأنصاره أن يمجّدوه فيه، لأن أغلب الإسبان كانوا يرون في ضريحه السابق أكبر إهانة لديمقراطيتهم الناضجة. في الحالات العربية، ثمّة تجربتان ناقصتان لما أطلق عليها عدالة انتقالية، تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، التي شهدها المغرب عام 2004 بداية عهد الملك محمد السادس، وتجربة هيئة الحقيقة والكرامة التي تأسست في تونس ما بعد الثورة، عام 2014. واليوم يمكن الحكم على التجربتين بالفشل، لأنهما بكل بساطة لم تحققا الأهداف الأساسية من فلسفة العدالة الانتقالية.
العدالة الانتقالية مرحلة مؤسّسة وجوهرية للعبور بسلاسة نحو انتقال ديمقراطي حقيقي
يعرّفها المركز الدولي للعدالة الانتقالية أنها "مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وتتضمّن هذه التدابير الملاحقات القضائية، ولجان الحقيقة، وبرامج جبْر الضرر وأشكالا متنوّعة من إصلاح المؤسسات". ويلخص المعهد نفسه أهداف هذه العدالة في "الاعتراف بكرامة الأفراد والاعتراف بالانتهاكات التي تعرّضوا لها، والإنصاف، ومنع وقوعها مرة أخرى". هل حققت تجربتا "العدالة الانتقالية" في كل من المغرب وتونس هذه الأهداف؟ الجواب واضح، ولا يحتاج إلى كثير من التفسير، لكن أسبابه كثيرة ومتعدّدة، وتختلف من تجربة إلى أخرى. وليس الكاتب هنا بصدد مقارنة بين التجربتين، بقدر ما يهمه الوقوف عند مرحلة انتقالية ضرورية، سرعان ما يتم القفز عليها، وهو ما يفسّر الفشل الذي يصاحب تجارب الانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية. يكفي أن نقول إن "العدالة الانتقالية" في التجربتين، المغربية والتونسية، تم اختزالها في التعويض المادي لجبْر ضرر الضحايا، في حين تم تجاوز أهداف هذه العدالة، المتمثلة في الكشف عن الحقيقة والمحاسبة، للوصول إلى المصالحة، أما تشريعاتها التي يكون هدفها عدم تكرار ما جرى في الماضي وحماية الانتقال الديمقراطي، فما زالت في كلتا الدولتين حبرا على ورق، ما ساعد على الردّة التي يشهدها المغرب في المجال الحقوقي، والآن في المجال السياسي عقب الاستحقاقات الأخيرة التي شابها كثير من التلاعب بأصوات الناخبين، وشجّع الديكتاتور التونسي الشعوبي، قيس سعيّد، على القيام بانقلابه على كل مكتسبات ثورة 2011.
لقد أبان فشل تجارب الانتقال الديمقراطي في أكثر من دولة عربية شهدت انتفاضاتٍ شعبية، سواء أدّت إلى تغيير النظام أو دفعته إلى إصلاح نفسه بنفسه، عن مدى أهمية الحاجة إلى إقامة "عدالة انتقالية" حقيقية، لأنه من دونها لا يمكن بلوغ المصالحة المتجلّي غيابها اليوم في فقدان الثقة ما بين الحاكمين والمحكومين وما بين الدولة والمجتمع، ولا يمكن إقامة العدالة الاجتماعية، بسبب استشراء الفساد الذي يضع نفسه فوق كل مساءلةٍ أو محاسبة، وأخيرا يصعب تحقيق كرامة المواطن وصون حقوقه وضمان حرياته.