مجتمع مدني ليبي إغاثي رغم سنوات التضييق
انتهت رحلة بحث السيدة الليبية حليمة رجب عن نجلها يوم الأربعاء (13 سبتمبر / أيلول 2023). وبنبرة يعتصرها الأسى والحزن قالت حليمة: "وجدت فلذة كبدي ميتاً. لقد دفناه مع 600 جثة في المقبرة"، مضيفة أن مشهد قيام الجرافات بحفر المقبرة الجماعية التي تضم جثة ابنها (22 عاماً) مازالت عالقة في ذهنها وأذهان أقارب الضحايا.
ومن اللافت أو بالأحرى من المحزن أن جهود إنشاء مقبرة جماعية في مدينة درنة تمت بسرعة، وعلى النقيض الصارخ من المحاولات الأخرى المتعثرة في تنسيق جهود إغاثة المناطق المتضررة من الإعصار "دانيال".
وربما أوجه هذه القصور انعكس في تضارب الأرقام حيال حصيلة الضحايا، حيث قالت وزارة الداخلية الليبية إن عدد القتلى بلغ قرابة 7500، فيما أعلن الهلال الأحمر الليبي أن الحصيلة ارتفعت إلى 11300 قتيل.
ومنذ عام 2014 تئن ليبيا تحت وطأة انقسام واقتتال داخلي وتناحر سياسي مع وجود حكومتين متعارضتين في شرق البلاد وغربها، حيث توجد حكومة الوحدة الوطنية، المدعومة من الأمم المتحدة والمعُترف بها دولياً في طرابلس غرب ليبيا برئاسة عبد الحميد الدبيبة، في حين تقع حكومة أخرى مدعومة من مجلس النواب في طبرق شرق البلاد برئاسة أسامة حمد.
وتحظى الحكومتان بدعم من ميليشيات محلية وقوى إقليمية وأخرى دولية.
تعقيدات تنسيق المساعدات
ورغم الفرقة والتناحر السياسي وصراع النفوذ بين الأطراف الليبية إلا أن كارثة الإعصار جلبت معها لحظة نادرة من الوحدة حيث سارعت المنظمات الحكومية في جميع أنحاء البلاد لمساعدة سكان المناطق المتضررة. وفي سياق ذلك قادت حكومة طبرق جهود الإغاثة في حين خصصت حكومة طرابلس ما قيمته 412 مليون دولار من التمويل لإعادة إعمار درنة ومدن أخرى في الشرق، بيد أن التنسيق على نطاق أكبر لم يتحقق بعد.
وفي مقابلة مع دي دبليو قالت فيرجيني كولومبييه -المحللة السياسية والأستاذة في جامعة "لويس" في روما Luiss School of Government- إن حكومَتَيْ شرق وغرب ليبيا "أعلنتا عن إنشاء لجان تنسيق وتخصيص ميزانيات، لكن ما زال من غير الواضح كيف سيتم ترجمة ذلك على أرض الواقع".
وأضافت كولومبييه -الباحثة المشاركة في تأليف كتاب بعنوان "العنف والتحول الاجتماعي في ليبيا"- أنه "حتى في الأوقات العادية، ليس من قبيل المبالغة القول إن التنسيق بين الحكومة المركزية في طرابلس والبلديات في جميع أنحاء ليبيا والمنظمات الدولية يتسم بالتعقيد على نحو كبير".
وفضلاً عن المخاوف من غياب التنسيق بين الحكومتين المتنازعتين يُلقِي خبراء بظلال من الشكوك حيال وصول المبالغ التي جرى تخصيصها إلى سكان المناطق المتضررة بشكل كامل.
وعن ذلك قالت هاجر علي -المتخصصة في الشأن الليبي والباحثة في "المعهد الألماني للدراسات العالمية والمناطقية" GIGA ومقره هامبورغ- إن المجتمع المدني أصبح لا يثق في طريقة إدارة البلاد بعد سنوات من عدم وجود حكومة موثوقة بها أو أي إدارة توزع موارد البلاد بشكل عادل وفعال في جميع أنحاء ليبيا.
وفي مقابلة مع دي دبليو قالت: "لا ينحصر الانقسام في ليبيا على الشرق والغرب فقط". وتابعت: "سوف يستغرق عملية إصلاح هذا الانقسام الكبير على المستوى السياسي وعلى مستوى البلديات والمنظمات المحلية عقوداً".
وأعرب فولفرام لاشر -الباحث في معهد السياسات الدولية والأمنية الألماني SWP ومقره برلين- عن قلقه إزاء احتدام التنافس السياسي في ليبيا حيث تركز الحكومتان و(رجل شرق ليبيا القوي خليفة) حفتر على استغلال الأزمة لتحقيق أهداف سياسية أكثر من محاولة معالجتها، على حد قوله.
وفي مقابلة مع دي دبليو قال فولفرام لاشر الذي شارك في تأليف كتاب "العنف والتحول الاجتماعي في ليبيا": "أخشى أن يكون اهتمامهم وتركيزهم في المقام الأول منصباً على الظهور كمقدمي مساعدات بهدف التأثير على الرأي العام مع إبداء القليل من الاهتمام نحو تحقيق شيء ملموس. سوف تتضمن الأموال الكبيرة -التي خصصتها حكومة طرابلس لمساعدة مدينة درنة- أعمال توزيع غير مدارة بشكل جيد وربما أعمال اختلاس".
المجتمع المدني يأخذ زمام المبادرة
ورغم أن حليمة رجب المكلومة لا تتوقع حصولها في الوقت الراهن على مساعدة حكومية أو مأوى أو حتى دعم نفسي، إلا أنها سعيدة بنجاة شقيقها وعائلته، وتقول: "سوف يدعم بعضنا البعض".
الجدير بالذكر أن الليبيين اعتادوا منذ سنوات على التعويل على جهودهم الذاتية في حالات الأزمة بسبب الأجندات المتضاربة وجهود التنسيق غير الناجحة على المستوى الحكومي.
وفي هذا السياق قالت هاجر علي: "لقد اضطروا إلى اعتماد بعضهم على بعض لأنهم يدركون أن لا مساعدة سوف تأتي لهم من كِلتَا الحكومتين".
وقد بدا ذلك جلياً مع انتشار الأخبار الأولى عند حدوث فيضانات بعد انهيار السدّين قرب مدينة درنة شمال شرق ليبيا جراء الإعصار، حيث انخرطت منظمات المجتمع المدني في تقديم يد العون فيما لعب النشطاء خارج البلاد دوراً في جهود جمع التبرعات.
وفي هذا الصدد قالت كولومبييه إن الليبيين في جميع أنحاء البلاد "أظهروا تضامناً كبيراً وهذا ما يعد إشارة مهمة، نظراً لحالة الاستقطاب الحادة بينهم على مدى السنوات الماضية". وأضافت أن موقع فيسبوك كان أداة اتصال ساعدت على تبادل المعلومات حول الأشخاص المفقودين وأرقام هواتفهم، وتنسيق المعلومات والأسماء، فيما أطلق الليبيون خارج البلاد حملات تبرع عبر الإنترنت.
وأشارت إلى أن هذه الجهود حققت نجاحات، مضيفة "أعرف شخصياً نشطاء وشباب خاصة من شرق ليبيا ذهبوا إلى درنة لمحاولة تقديم الدعم".
تأثير التناحر السياسي على المجتمع المدني
ورغم الدور الذي لعبه -ومازال يلعبه- المجتمع المدني في تقديم المساعدات لسكان المناطق المتضررة إلا أن منظمات المجتمع المدني في ليبيا ليست بالقوة ولا بالقدرة على تحمل مثل هذا العبء الثقيل.
وحول ذلك قالت كولومبييه: "يجب ألا ننسى أن حكومَتَيْ شرق وغرب البلاد قامتا بقمع منظمات المجتمع المدني لسنوات عديدة. المجتمع المدني في ليبيا يحاول تقديم الدعم، لكنه ضعيف ولا يعمل بكفاءة كبيرة نظراً لما تعرض له من ضغوط كبيرة خلال السنوات الماضية".
الجدير بالذكر أن بعض الدول ومنظمات دولية سارعت إلى إرسال مساعدات وفرق إغاثة للبحث عن ناجين بين الأنقاض، وهو ما بعث بصيص أمل في نفوس أقارب المفقودين.
ورغم حزنها الشديد على فقدان فلذة كبدها إلا أن حليمة رجب ترحب بالدعم الخارجي، قائلة: "أدعو الله أن يعثروا على المزيد من الأشخاص على قيد الحياة".
جنيفر هوليس / إسلام الأطرش
ترجمة: م. ع
حقوق النشر: دويتشه فيله 2023