الحضارة الفارسية في ظل التوترات السياسة العالمية
يقام معرض "الشاه عباس" في وقت يتزامن مع الذكرى الثلاثين للثورة الإسلامية في إيران والذكرى العشرين لإصدار الخميني فتواه في حقِّ سلمان رشدي، الأمر الذي يثير في بريطانيا ذكريات متباينة للغاية. حيث يعتقد البعض أنَّ هذا المعرض سوف يسهم في فهم إيران الحديثة بشكل أفضل ومن الممكن أنَّه يمكن حتى أن يساعد في توضيح كيف تكَّنت تاريخيًا السجايا الإيرانية الثلاث التي تميِّز إيران في يومنا هذا؛ أي الكبرياء وسرعة الانفعال والطموح.
وفي عهد الشاه عباس لم يتم إحياء التشيّع باعتباره المذهب الديني للدولة الإيرانية وحسب، بل تم كذلك تأسيس عصر ذهبي في الفن الإيراني. فقد خلق الحرفيون والفنانون التابعون للشاه عباس نمطًا موحَّدًا ظهر في كلِّ أطياف الأعمال الفنية - من المساجد والمزارات إلى البلاط المزخرف والرسومات الجدارية والسجَّاد والمنسوجات وحتى شكل المخطوطات والكتب.
ترف أصفهان في عهدها المبكِّر
وحتى إنَّ هذا العصر ترك آثاره فيما يتعلَّق بمظهر أبناء المجتمع الأرستقراطي؛ إذ ظهرت موضة العيون الكبيرة اللوزية تمامًا مثل موضة الشفاه المصبوغة بصبغة حمراء قانية. "لا عجب من أنَّ هذه الموضة الجديدة انتشرت هناك بعدما انتقل بلاط الشاه عباس إلى أصفهان"، مثلما يرد في دليل المعرض: "وحتى يومنا هذا ما يزال الكثيرون من الناس يقلِّدون تلك الموضة، كما أنَّ جونس دورييه الأصفهانية لا تشكِّل أي استثناء".
لقد تم في عام 1501 وعلى يدِّ أوَّل حكَّام الأسرة الصفوية، الشاه إسماعيل الأوَّل، إعلان المذهب الشيعي مذهبًا رسميًا للدولة، ولكن الشاه عباس هو الذي تمكَّن من توطيد هذا المذهب. ويركِّز هذا المعرض الذي يُقام في قاعة المطالعة الشهيرة، ذات الشكل المستدير والتابعة للمتحف البريطاني، على المدن الإيرانية المقدَّسة الأربعة؛ أي أصفهان ومشهد وأردابيل وقُمّ.
وفي هذا المعرض يتم عرض صور للروائع المعمارية الخاصة بهذه المدن على شاشات كبيرة. وكذلك تُعرض في المعرض سجَّادات قيِّمة منسوجة بخيوط ذهبية وفضية، بالإضافة إلى قطع خزفية صينية ومخطوطات مزيَّنة برسومات وصور مرسومة بالألوان المائية وكذلك مصنوعات معدنية دقيقة وأقمشة حريرية فاخرة. وهذه المعروضات تشبه تلك التحف التي كان الشاه عباس يقدِّمها إلى أهم الأماكن المقدَّسة.
جمال أصفهان
وفي العام 1589 نقل الشاه عباس عاصمة البلاد من قزوين إلى أصفهان، حيث شيَّد مشاريع عمرانية كبيرة. فحول الساحة الكبيرة المعروفة باسم "نقشى جهان" لم يبنٍ فقط قصره، بل بنى كذلك مسجدًا خاصًا سمَّاه طبقًا لاسم حماه ومرشده الروحي، بالإضافة إلى سوق خاص بالسلع الفاخرة والكماليَّات. وتعتبر أصفهان حتى يومنا هذا واحدة من أجمل مدن العالم.
وأقيم هذا المعرض بالتعاون مع مؤسسة التراث الإيراني Iran Heritage Foundation ومتحف إيران الوطني ومنظمة التراث القافي الإيراني Iranian Cultural Heritage. وأمَّا المعروضات التي يتم عرضها في هذا المعرض فقد قدَّمتها ثمانية متاحف إيرانية، بالإضافة إلى بعض المتاحف والمجموعات والمؤسسات في بريطانيا والولايات المتَّحدة الأمريكية والكويت وألمانيا وروسيا وإيطاليا وسويسرا وفرنسا.
توتّرات وتعاون
ومن الجدير بصورة خاصة ملاحظة هذا التعاون بين إيران والخبراء البريطانيين إذا أخذنا بعين الاعتبار العلاقات التي ما تزال متوتِّرة جدًا بين البلدين. فعلى الرغم من أنَّ رئيس الوزراء البريطاني، غوردون براون عرض على إيران في أواسط شهر آذار/مارس مساعدة دولية في إقامة برنامج نووي خاص بالاستخدام المدني وتشرف على رقابته هيئة الأمم المتَّحدة، إلاَّ أنَّه أوضح في الوقت نفسه أنَّ البرنامج النووي الذي تقيمه إيران في الوقت الراهن غير مقبول ويهدِّد بتشديد العقوبات المفروضة على إيران في حال استمرارها في برنامجها النووي.
وعلاوة على ذلك هناك نقاط خلاف أخرى؛ إذ وصفت الحكومة الإيرانية قناة التلفزيون الفارسي "Persian TV" الذي تم تأسيسه في شهر كانون الثاني/يناير من قبل هيئة الإذاعة البريطانية BBC بأنَّه "مشبوه وغير شرعي"، كما حكمت عليه بأنَّه يعمل ضدّ مصالح إيران. وفي نهاية شهر كانون الثاني/يناير أغلقت القنصلية البريطانية مكتبها في طهران وأوقفت العمل في إيران، وذلك بعدما تعرَّض موظَّفوها إلى تهديدات شديدة وإجراءات إرهابية من قبل الحكومة الإيرانية. وفي شهر كانون الأوَّل/ديسمبر دُعي جميع أفراد طاقم القنصلية البريطانية المقيمين في طهران من أجل الحضور إلى الرئيس محمود أحمدي نجاد وطُلب منهم إنهاء عملهم.
اعتراف بالذنب
وعلى الرغم من ذلك تمكَّن وزير العدل ووزير الخارجية السابق، جاك سترو من استخدام عبارات لطيفة عندما افتتح المعرض، إذ قال: "كلَّما فهمنا إيران فهمًا أفضل سيكون ذلك أفضل بالنسبة لعلاقات الغرب مع هذا البلد؛ ولكن في الوقت نفسه سوف نفهم أيضًا أنفسنا وتاريخنا المشترك".
وفيما يتعلَّق بالتاريخ البريطاني الإيراني اعترف جاك سترو بأنَّ العلاقات مع إيران لم "تكن متوازنة وكذلك لم تكن تقوم على أساس التفاهم والانسجام". وذكر في هذا الصدد بعض الأمثلة: "احتكار التبغ في القرن التاسع عشر وعقود إمدادات النفط واحتلال إيران وتقاسمها من قبل بريطانيا والاتِّحاد السوفييتي في الفترة من عام 1941 وحتى عام 1946. وكذلك مشاركتنا في العملية التي نظَّمتها الولايات المتَّحدة الأمريكية لإسقاط الرئيس محمد مصدَّق الذي تم انتخابه في انتخابات شرعية هي أيضًا مثال على ذلك. وأخيرًا يجب أيضًا ذكر دعمنا الذي استمر فترة طويلة من الزمن للشاه - فترة استمرَّت عهدًا طويلاً بعدما كان قد فقد تأييد الشعب الإيراني".
الشاه عباس والملكة إليزابيث الأولى
يقارن نيل ماك غريغور Neil MacGregor، مدير المتحف البريطاني في المقدِّمة التي كتبها في دليل المعرض الذي يقع في مئتي وأربعة وسبعين صفحة الشاه عباس مع معاصرته ملكة إنكلترا، إليزابيث الأولى. ومثل الملكة إليزابيث الأولى تولى الشاه عباس ولاية العهد في ظلِّ ظروف صعبة وكان يجب عليه حكم بلد غير مستقر شهد قبل ذلك بفترة قصيرة تحوّلاً دينيًا وكان بالإضافة إلى ذلك محاطًا ومهدَّدًا بأعداء أقوياء.
وتمكَّن كلاهما - الشاه عباس والملكة إليزابيث الأولى - في تلك الأثناء من خلق هوية قومية ذات معالم واضحة. ولكن الشاه عباس أقرَّ على خلاف الملكة إليزابيث الأولى لمعتنقي ديانات أخرى وقبل كلِّ شيء للأرمن المسيحيين بمجال واسع من الحرية. وكان الشاه عباس يصدّ الغزاة والمهاجمين الغرباء، كما استطاع الشاه عباس والملكة إليزابيث الأولى تسجيل مجموعة من الانتصارات العسكرية، واستطاعا كذلك توسيع نطاق التجارة الخاصة بمملكتيهما على مستوًى دولي.
"وفي حين كانت الملكة إليزابيث الأولى تقيم على طرف العالم المحيط بها، كان الشاه عباس يعيش في مركز عالمه؛ فقد جعل الشاه عباس من عاصمته أصفهان مركزًا وبوتقة للتجارة العالمية وكذلك للثقافة. ففي اللوحات الجدارية المرسومة في قصره يظهر أشخاص أتراك وصينيون وهنود وأوروبيون. ولكن من الصعب تصوّر كيف تسنَّى لأبناء هذه الشعوب في ذلك العصر التلاقي والاجتماع وتبادل الآراء في أي مدينة أخرى بمثل هذه البديهية".
الدخول إلى وعي الأوروبيين التاريخي
ويلاحظ ماك غريغور أنَّ بلاد فارس دخلت في الواقع وبالذات في فترة حكم الشاه عباس إلى وعي الدول الأوروبية - وظهر ذلك قبل كلِّ شيء في زيادة الاتِّصالات بين المدن الأوروبية وأصفهان زيادة عظيمة وذلك على المستوى الاقتصادي والدبلوماسي والعسكري. ويقول ماك غريغور: "منذ هذا العهد ازدادت باستمرار بالنسبة لأوروبا أهمية دراسة وفهم تاريخ إيران وثقافتها. ونحن نأمل في أنَّ هذا المعرض سوف يساهم في ذلك".
وهذا المعرض يهتم أيضًا بالطائفة الأرمينية المسيحية التي لعبت بشكل خاص دورًا مهمًا في تجارة الحرير التي كانت تعتبر ركنًا من أركان التجارة الإيرانية مع البلدان الخارجية. وفي عام 1604 تم إجبار مواطني مدينة جولفا الأرمنيين على الرحيل إلى حيّ من أحياء أصفهان، أطلق عليه اسم جولفا الجديدة. وتُعرض في المعرض معروضات أرمينية دينية مختلفة من بينها صليب فضي وصليب مطلي بالفضة من عام 1575.
شخصية معقَّدة ومتناقضة
ووصفت منظِّمة المعرض، شايلا كانبي Sheila Canby الشاه عباس بأنَّه "رجل مضطرب قلق ويرغب في اتِّخاذ القرارات وقاسٍ لا يعرف الرحمة وذكي"؛ وتضيف شايلا كانبي أنَّ الأروربيين الذين تعرَّفوا عليه "لاحظوا سرعة بديهته وجسمه القوي ووعيه التجاري، بالإضافة إلى طبيعته المفعمة بالنشاط والحيوية".
وقد كان رجلاً تقيًا بحقّ كما أنَّه حجَّ بعد استيلائه على مدينة مشهد من الأوزبكيين في عام 1598 إلى تلك المدينة سيرًا على الأقدام - حيث سار من أصفهان إلى مشهد قرابة ألف كيلو متر. وتكمن الأهمية الكبرى لمدينة مشهد في وجود ضريح الإمام الرضا فيها، وهو الإمام الشيعي الوحيد المدفون في إيران. ولكن كان لدى الشاه عباس جانب مظلم. فقد فقأ عيني اثنين من أبنائه الخمسة وفي عام 1615 نظَّم عملية اغتيال ابنه الأكبر والمطالب بعرشه، محمد باقر ميرزا الذي اتَّهمه اتِّهامًا خاطئًا بتدبير مآمرة عليه.
فعالية إعلامية لصالح جمهورية إيران الإسلامية
ويقام ضمن سياق هذا المعرض برنامج فعاليات متنوِّعة، يمكن اعتباره من دون ريب مهرجانًا ثقافيًا إيرانيًا؛ وفي هذا البرنامج تُعرض أفلام وتلقى محاضرات وتقام نقاشات ومؤتمرات وجولات وأيَّام أسرية. وعلاوة على ذلك يعرض المتحف البريطاني معرضًا بعنوان "تخطيط" ويضم أعمالاً تم اقتناؤها مؤخرًا للفنان الإيراني المعاصر، خسرو حسن زاده. والفنان خسرو حسن زاده يستوحي الكثير من أعماله مثل الكثيرين من الفنانين الإيرانيين من التراث الثقافي في بلده.
ولم يستحسن جميع زوَّار المعرض التقارب المكشوف من السياسة الإيرانية المعاصرة. فقد اشتكت الفنانة الكاريكاتورية المولودة في إيران والتي نشأت في بريطانيا، شابّي خورساندي Shappi Khorsandi في برنامج Newsnight Review الذي تبثّه الإذاعة البريطانية BBC قائلة: "يؤثِّر هذا المعرض في نفسي ويبدو مثل معرض إعلامي يقام لصالح جمهورية إيران الإسلامية".
ولكن أخيرًا من الجائز أن ينظر المرء إلى أي معرض كبير يهتم بثقافة بلد ما ويتم عرضه في مؤسسة ثقافية تابعة لبلد آخر باعتباره إلى درجة معيَّنة فعالية إعلامية دعائية. ولا يمكن إنكار خدمات ومناقب الشاه عباس، وليس من المدهش إذا كان المعرض يدفع المزيد من الناس إلى السفر إلى إيران من أجل التمكّن من رؤية المزيد من الأمثلة الخاصة بإرث إيران الثقافي غير العادي - والتعرّف أيضًا وبشكل أفضل على الإيرانيين بالذات.
سوزانة طربوش
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: قنطرة 2009
سوزانة طربوش، صحفية وكاتبة بريطانية معروفة، مختصة بالشؤون الثقافية الشرق أوسطية
قنطرة
عرض كتاب: "إيران في السياسة الدولية"
الأوجه المختلفة لجمهورية إيران الإسلامية
في كتابه يصف أرشين أديب مُقَدِّم التجليات المختلفة لجمهورية إيران الإسلامية – من اليوتوبية الإسلامية في الفترة المبكرة من الثورة، إلى حرب الخليج الأولى، وصولاً إلى المواجهة الحالية بين المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية والنظام الإيراني الحالي. أندريه بانك قرأ الكتاب ويعرفنا به.
عاماً من الإعلام في الجمهورية الإسلامية:
بين المنع والرقابة الذاتية
على الرغم من الفترات القصيرة، التي تمتعت فيها الصحافة في إيران بحرية نسبية، ما زال الخناق يضيق حتى اليوم على الصحفيين المستقلين. جاسم تولاني يقدم لمحة عن تاريخ الصحافة وحدود حريتها خلال ثلاثين عاماً من تاريخ جمهورية إيران الإسلامية.
حوار مع كلاوس بيتر هازة:
"المتاحف الألمانية جسور تواصل مع الحضارة الإسلامية"
يحتوي عدد من المتاحف الألمانية على عدد كبير من الكنوز وقطع الآثار التي تحكي قصة الحضارة الإسلامية عبر عدد كبير من العصور والأزمنة. هذه المتاحف تقيم علاقات تعاون مع عدد كبير من المتاحف الوطنية في عدد من البلدان الإسلامية، بالإضافة إلى التبادل العلمي حول المكتشفات الأثرية. أريانا ميرزا في حوار حول هذا الموضوع مع كلاوس بيتر هازة، مدير المتحف الإسلامي في برلين.