الانتظار الطويل لنساء الأنفال
قام الجيش العراقي في الفترة ما بين شباط/فبراير وآب/أغسطس 1988 بتنفيذ عملية عسكرية ضدّ المواطنين الأكراد في منطقة الحدود العراقية الإيرانية، التي تعتبر معقلاً للجماعات الكردية المسلحة المناوئة لنظام صدّام حسين؛ أُطلق على تلك العملية اسم "الأنفال". يقول الأكراد إنّ تلك الحملات أسفرت عن 182.000 قتيل ومفقود، بينما تحدّث في فترة لاحقة العسكري المسؤول عن تلك الحملات، علي حسن المجيد، عن سقوط "ما لا يزيد عن مائة ألف" قتيل.
لقد تمّ تدمير آلاف القرى من دون أن يعبأ الرأي العام العالمي بذلك. في البدء تمّ تجميع النساء والأطفال والشيوخ في سجون ومعتقلات ومن ثمّ رُحّلوا إلى مناطق أخرى. لا يعرف حتّى الآن مصير الرجال الباقين والكثير من النساء صغيرات السن. تشير كلّ الدلائل إلى أنّهم قُتلوا ودُفنوا في قبور جماعية. تتعاون جمعية هاوكري HAUKARI والمعالجة النفسية كارين ملودوخ منذ عدّة سنين مع نساء ناجيات من حملة الأنفال.
تنتظر هاته النساء منذ ثمانية عشر عامًا معرفة مصير رجالهنّ وأبنائهنّ وأخوانهنّ. كثيرات منهنّ فقدن في الأنفال جميع أقربائهنّ الرجال. إنّ عدم معرفة مصير ذويهنّ يجعل حياتهنّ مؤقّتة. فهنّ لا يجدن أيّ مكان للحزن ولا يستطعن نسيان الماضي، ولا يردن بداية شيء جديد".
كذلك يعتبر الوضع الاجتماعي والقانوني لهاته النساء غير مبين. إذ أنّهن غير متزوّجات، لكنّهن لسن أرامل. كما يتحتّم عليهنّ أن يحفظن شرف المفقودين؛ بيد أنّهن لا يتمتعن بحمايتهم ولا برعايتهم. زد على ذلك أنّه يجب عليهن أن يتدبّرن شؤون استمرارهن واستمرار أطفالهن في الحياة.
"إنّ الآداب والتقاليد والأعراف المتشدّدة في المجتمع الكردي لا تضع أيّ اعتبار لحياة النساء اللواتي يعشنّ وحيدات. حيث يتم بسرعة اتّهام نساء-الأنفال اللواتي يعشن وحيدات ويذهبن للعمل بممارسة سلوك غير أخلاقي. فهكذا تبقى النساء الناجيات من الأنفال صابرات في المكان الوحيد المقبول لهنّ اجتماعيًا: الجلوس والانتظار".
سجون ومقابر جماعية
تبذل كولالة كريم، النائبة في البرلمان المحلي الكردي، جهودًا من أجل تحسين رعاية نساء الأنفال:
"أعمل منذ عشرة أعوام مع بعض نساء-الأنفال. أرى أنّ المشكلة الكبرى التي تعاني منها نساء-الأنفال هي أولاً: انتظارهنّ؛ وثانيًا: أنّهنّ لا يستطعن فعل أيّ شيء. وثالثًا: أنّهنّ لا يستطعنّ بحكم متاعبهنّ الاقتصادية أن يضمنّ لأنفسهنّ رعايةً نفسيةً وصحيةً. لقد بدأن فقط منذ حصولهنّ على معاشات تقاعدية يتحدّثن ببطء عن حالتهنّ النفسية ويفكّرن بها. لكن وعلى مدى كلّ هذه السنين منذ الأنفال تأثّرت كلّ حياتهنّ بفكرة مفادها كيف لهنّ أن يبقين مستمرّات في الحياة".
مع سقوط نظام صدّام حسين في العام 2003 انبعثت الآمال لدى نساء-الأنفال مرّة أخرى في رؤية أزواجهنّ أو أبنائهنّ من جديد. حيث سافرت كثيرات منهنّ في طول البلاد وعرضها للبحث في السجون أو حتى في المقابر الجماعية عن دلائل ترشدهنّ إلى ذويهنّ. بيد أنّ الأوضاع الفوضوية التي لا تزال مثل ذي قبل منتشرة في باقي أجزاء العراق تحول دون إجراء دراسة منظّمة للوثائق أو التعرّف على الموتى المدفونين في المقابر الجماعية، التي يزيد عددها عن ثلاثمائة مقبرة جماعية.
الرعاية المفقودة
بدأت يوم الإثنين الـ21 من آب/أغسطس في بغداد محاكمة صدّام حسين وستة متّهمين آخرين بتهمة ارتكاب مذابح جماعية في عملية الأنفال. إنّ هذه المحاكمة تعني بالنسبة للباقين واحدًا من آمالهم الأخيرة في معرفة مصير ذويهم، وكذلك القليل من العدالة؛ ليس فقط بالنسبة لزوجات الرجال المفقودين، بل كذلك بالنسبة للأطفال الذين كبروا منذ ذلك الحين، مثل الشابة كوليستان البالغة من العمر 24 عامًا:
"لقد حدث ذلك في وقت كان يجب عليّ فيه الذهاب إلى المدرسة، عندما كنت في أمسّ الحاجة إلى أبي وأمي. وفي ذلك الوقت حدث كلّ هذا، وانهدمت حياتنا. لقد أصبحت قريتنا من دون رجال. نأمل أن نتحقّق عما إذا كانوا على قيد الحياة أم لا. ونريد بالإضافة إلى ذلك أن يذوق الجناة مرارة الشيء الذي اقترفوه بحقّنا وبحق آبائنا وأشقّائنا وكذلك ما هو أسوأ وأمّر. نسمع في هذه الأيّام أنّ صدّام يحصل على سيجار ويلبس ملابس جيّدة. إنّ هذا ليس سجنًا. أنت تُسيءُ في البداية لكلّ العالم شرّ إساءة، ومن ثم تحصلُ على سيجار وطعام جيّد وملابس جيّدة. كيف يمكن حدوث ذلك؟".
تقول كوليستان: "وثم يجب عليهم أن يفكّروا أيضًا بمستقبلنا وبحياتنا. لقد ربّتنا أمّنا لوحدها من دون أيّة مساعدة. كانت تحمل الخشب على ظهرها من الجبال إلى هنا. أمّي تقدّمت في السن - ليست أمي لوحدها، بل هناك آلاف أخريات مثلها: ينبغي وجود مكان لها ولهنّ جميعًا، حيث تتوافر لهنّ الرعاية وحيث لا يمكن لأيّ أحد أن يطردهنّ، وحيث لا يتعرضنّ للشتم والإهانة".
بقلم ديرك بيترس
ترجمة رائد الباش
حقوق طبع النسخة العربية قنطرة 2006
قنطرة
غرباء في وطنهم
ترتفع أَعداد الأَكراد العراقيين المغتربن العائدين إلى وطنهم منذ سقوط نظام صدام حسين. كما يعود معهم أَطفال في سن الالتحاق بالمدرسة، نشأ معظمهم في دول الخارج. تم في العام 2004 تأسيس مدرسة خاصة بهم في مدينة السليمانية الواقعة في شمال شرق العراق ، بغية استيعابهم ضمن الثقافة الجديدة بالنسبة لهم. تقرير من أندريه فيرمير.