جهاز أمن الدولة المصري .....كابوس الماضي وقلق المستقبل
"لماذا يتم نشر الغسيل القذر على العلن؟" يتساءل صاحب أحد الأكشاك، عبد المنعم، الرجل ذي اللحية المشذبة بعناية. بالنسبة له فإن الأمر واضح: إنه يرحب بما يجري الآن من محاكمة لبعض قادة نظام مبارك، ولكنه لا يتوقع الكثير من التحقيق المنهجي بجرائم الشرطة والمخابرات.
رغم أن لديه، هو تحديدا، كل الحق للمطالبة بذلك. فطالما قامت الشرطة وعملاء المخابرات باستجوابه مرارا وتكرارا، بسبب قربه من جماعة الإخوان المسلمين. وعندما يدخلون إلى كشكه تمتد أيديهم إلى علب السجائر وبطاقات الهاتف والمشروبات، دون أن يدفعوا ثمنها. وعندما كان يحتج على ذلك، كانوا يأخذونه معهم ليستجوبوه هناك، وليضربوه في بعض الأحيان. هل سيدّعي على من عذبوه؟
الأمر خطير جدا، كما يقول عبد المنعم، إضافة إلى أن مصر تواجه مشاكل أخرى الآن. أسباب تحفظه واضحة؛ فعلى الرغم من وصول أحد أفراد جماعة الإخوان المسلمين إلى قمة الحكم في البلاد، ألا وهو الرئيس محمد مرسي، لكن الكثير من الأمور في مصر بقيت كما كانت عليه سابقا. معظم الموظفين من العهد الماضي بقوا في مناصبهم والاستخبارات مازالت مستمرة في نشاطها، تحت اسم جديد. لا عجب إذن في أن الكثير من المصريين صاروا يطبقون الآن القاعدة الأساسية للسير في شوارع القاهرة على السياسة: انظر دائما إلى الأمام! أما الماضي فالأفضل تجنبه.
نهاية الرقابة
مع أن الأمور كان يمكن أن تسير في البداية بشكل مختلف فبعد أسابيع قليلة من سقوط مبارك في أوائل عام 2011، وبالتحديد عندما انتشر الخبر في كل مكان بأنه جرى إتلاف ملفات شائنة بالجملة في مباحث أمن الدولة، اتخذ بعض النشطاء المبادرة، واقتحموا، يومي الرابع والخامس من مارس/ آذار، العديد من مقرات أمن الدولة، وقاموا بتأمين الكثير من الملفات.
صور الهجوم على "شتازي (جهاز أمن الدولة) تحت أشجار النخيل" - كما عنونت الأسبوعية الألمانية "دير شبيغل"- انتشرت في كل مكان في العالم. وأعادت إلى الأذهان ذكريات احتلال سكان برلين الشرقية للمقر الرئيسي لجهاز أمن الدولة في ألمانيا (شتازي)، قبل أكثر من 21 عاما.
وهكذا أتيحت الفرصة، لفترة قصيرة جدا، للنظر خلف كواليس جهاز سلطوي، لم يكن يُعرَف عنه أي شيء قبل ذلك، باستثناء أنه كان واحدا من بين عدد قليل من الأجهزة الحكومية المؤثرة في البلاد. وتشير المعلومات إلى أن حوالي 100.000 شخص كانوا يعملون في هذا الجهاز، من بينهم العديد من المدونين والناشطين والمترجمين.
جبال من الوثائق تشير إلى أنهم كانوا يراقبون الحياة الخاصة للكثير من الأشخاص دون أن تخفى عليهم خافية. الإسلاميون كانوا أكثر من تعرضوا لتلك المراقبة، ولكنهم لم يكونوا الوحيدين، فهناك المعارضون الليبراليون، والنقابيون، والفنانون، وأجانب، وممثلو الأقليات الدينية والعرقية، وليس آخرا أشخاص على اتصال بإسرائيل.
جهاز أمن الدولة
رسميا، لم يعد لذلك وجود في مصر الجديدة. فلقد تم حل جهاز أمن الدولة، ونقلت الصلاحيات إلى سلطة جديدة؛ هي قطاع الأمن الوطني المصري. الهيئة التي، كما قال وزير الداخلية في الحكومة الانتقالية منصور العيسوي، لن تتجسّس على المصريين بعد اليوم، وإنما ستقوم بحمايتهم. وسيتم تسريح 700 من الضباط القادة في جهاز أمن الدولة، بينما سيمثل 41 منهم، قريبا، أمام المحكمة.
ولكن هذه التغييرات لايُلاحَظ منها على أرض الواقع شيء. فمعظم العاملين في جهاز أمن الدولة لا يزالون جالسين في مكاتبهم. والرئيس سيئ السمعة للجهاز، حسن عبد الرحمن، برّأته المحكمة، في يونيو/ حزيران 2012، من الاتهامات بالمسؤولية عن مقتل المتظاهرين. وماعدا ذلك لم يمثل أمام المحكمة سوى عدد قليل جدا من ضباط هذا الجهاز. وإضافة إلى ذلك، لا أحد يعرف مكان الوثائق التي زُعِم أنه جرى تأمينها، كما لايُعرف من يملك الحق في الوصول إليها. ونتائج لجان التحقيق تبقى حبيسة أدراج البيروقراطية المصرية الشهيرة.
ويعتقد العديد من المراقبين أن ضباطا في إدارة أمن الدولة ووزارة الداخلية يقفون، اليوم أيضا، وراء العديد من الهجمات على الناشطين والمعارضين والمتظاهرين. كما أنهم مسؤولون أيضا عن تنظيم عصابات البلطجية، وعن حملات تُشَن ضد صحافيين غير محبوبين، وعن التضييق على عمل منظمات غير حكومية. الفاعلون اليوم هم ذات الوجوه التي كانت حاضرة في العهد السابق. فلا عجب إذن أن الأجهزة الأمنية غير مهتمة بفتح ملفات جرائم الماضي والانتهاء منها.
الإصلاح الأمني: أمر يتحاشاه الجميع
وحتى الآن لم يطالب أحد بوضوح بإلغاء قطاع الأمن الوطني المصري، باستثناء السلفيين. بينما أقصى ما تطالب به بقية القوى السياسية الفاعلة هو إصلاح وإعادة هيكلة الجهاز الأمني. وحتى هذه المطالبة تصدر بشكل خجول. إنهم يخشون أن تخرج حقائق غير مريحة إلى العلن.
وتبقى الشكوك قائمة حول ما إذا كان الرئيس محمد مرسي سينجح بتغيير هذا الوضع. الإخوان المسلمون، ورغم أنهم كانوا من أكثر الضحايا تضررا من قمع مبارك، ولكنهم ارتبطوا، في الماضي، بصلات بأجهزة الأمن. ذلك ما كشفت عنه صحف مصرية في يونيو/ حزيران 2012، من أنه قبل الانتخابات البرلمانية لعام 2005، دارت مفاوضات سرية بين الإخوان وأمن الدولة.
سلطات الأمن المصرية، التي تم تدريب عناصرها لمحاربة الإسلاميين، يقابلون الرئيس الجديد المسلم بشيء من الارتياب. ويخشى الكثيرون من رغبة جماعة الإخوان المسلمين في تعيين أعضاء منها في المناصب القيادية في قطاعي الشرطة والاستخبارات. وعندها سيصبح ضحايا الأمس قادة الغد.
ضابط الشرطة الشاب محمود يرى الأمور بشكل مختلف عن زملائه. "إن مصر بحاجة إلى جهاز شرطة أكثر فعالية، ويراعي مصلحة المواطن". ثم يستدرك قائلا: "ولكننا لن ننجح في تحقيق ذلك، إلا إذا كان هناك توازن بين الجناة والضحايا". وجنبا إلى جنب مع نشطاء شباب، انخرط الضابط الشاب في حلقات دراسية لتعلم السياسة، كما إنه يدخل في حوارات عامة مع نقابيين ومع أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين، وكل ذلك يتم وهو يرتدي زيّه الرسمي. ولأنه أتم تدريبه للتو في كلية الشرطة، فهو لا يخشى من أن ينظر إليه الناس على أنه من المجرمين من حقبة نظام مبارك.
وزارة الداخلية وقوات الأمن، لاتحبّذ مثل هذه المعادلة، ولاتُبدي أي تأثر بالعروض القادمة من خارج البلاد. زوّار يتم الترحيب بهم، ومحادثات تجري هنا وهناك، وحتى أنهم يسمحون بمحاضرات عامة، ولكن المشاريع الحقيقية فشلت حتى الآن، بسبب التحفظات السياسية والعقبات البيروقراطية. الخوف من "نفوذ القوى الأجنبية" هو مرجل أوقدت تحته، في المرحلة الانتقالية، كل الأطراف.
نموذج ألمانيا
وبسبب هذه التحفظات، فإن التعاون الإنمائي يجد صعوبة في التدخل لمعالجة جراح الماضي في مصر. ولكن ألمانيا، وتحديدا ألمانيا، يمكنها أن تقدّم في هذا المجال عروضا مفيدة، لأنها تعيش، منذ سقوط جدار برلين، عملية مشابهة. فالطريقة الألمانية في التعامل مع ماضي جهمورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية)، هي فريدة من نوعها في كل العالم.
ولعل النقطة الأهم، التي يأمل مواطنو الدول العربية في التعامل مها والتي يمكن أن تساعد فيها ألمانيا، هي كيفية التعامل مع ملفات أمن الدولة (شتازي). فالمزيد من الزوار من مصر وتونس والعراق واليمن ومؤخرا سوريا يأتون إلى أرشيف برلين الخاص بهيئة وثائق أمن الدولة (في ألمانيا الشرقية آنذاك)، للتزود بمعلومات حول كيفية الوصول إلى السجلات، ومن له الحق في الاطلاع عليها. ويجري الآن في الأوساط السياسية التونسية التفكير بجدية في اعتماد قانون خاص يُنظم الوصول إلى السجلات، مُستَلهَم من النموذج الألماني. وفي مصر تجري، على الأقل، مناقشة هذا الأمر بشكل علني.
وما يحظى بإعجاب الزوار العرب هو ما توصلت إليه ألمانيا في تحقيق توازن بين الشفافية وحماية البيانات الشخصية، وكذلك بين معالجة الماضي وحماية الضحايا. ممثلٌ لأحد الأحزاب الليبرالية المصرية، قال لدى زيارته للأرشيف الخاص بوثائق أمن الدولة في برلين في صيف عام 2011: "وأيضا في مصر، يرغب معظم الناس بالمصارحة وكشف الأمور وليس الانتقام ... هدفنا هو المصالحة، وليس العقاب".
مثل هذه الزيارات تبقى محدودة التأثير، لأن ألمانيا لا يمكنها أن تتحمل تكاليف سوى عدد قليل من الزوار. ولذلك يمكن القيام بمشاريع دولية، كتنظيم ندوات نقاشية مثلا في تلك البلدان، حيث يمكن للناس أن يتحدثوا عن خبراتهم للآخرين. الأمر الجديد والمهم في مصر هو أن يجري الحديث بشكل علني عن التعذيب وسوء المعاملة وعن الإصلاح. ولكن الدعم الفني والمؤسساتي ممكن أيضا. فالعروض القادمة من الخارج، للمساعدة في إعداد مشاريع قوانين ولإعادة هيكلة المؤسسات ولتحسين أساليب التدريب والعمل، تحظى بالاهتمام. ولكن الأمر الهام في مثل هذه المشاريع، هو أن لا يتحوّل المسؤولون عن المشروع من مساعدين إلى شركاء. هم بحاجة ماسة لمساعدة من جهات حكومية، وأن يواصلوا مراقبة التطورات السياسية، والتركيز على المسائل الواقعية وعلى التفاصيل.
"لابد من الحديث عن الخوف"
الكاتب المعروف علاء الأسواني أشار، في مطلع العام الحالي، إلى أن مصر أنفقت على الأمن الداخلي، في الماضي، ضعفي ما أنفقته على الرعاية الصحية. وهذا يدل، وفقا لعلاء الأسواني، على أن تركيز النظام كان مُنصبّا في الحقيقة على تأمين سيطرته، وليس على الرعاية العامة. وهذا الأمر كان أيضا أحد الأسباب التي دفعت إلى الثورة: فالمظاهرات الجماهيرية الحاشدة لم تندلع بسبب غياب المشاركة السياسية وانعدام الآفاق المستقبلية، ولكنها كانت موجّهة أيضا ضد الأجهزة الأمنية.
ولهذا فإن إعادة بناء جهاز الشرطة وقوى الأمن هي من أهم التحديات لمرحلة ما بعد مبارك. غير أنه لا يزال من غير الواضح، ما مدى توفر الإرادة السياسية اللازمة للقيام بالإصلاح. الكثير من المسؤولين لديهم تخوف من الانتقام والحسابات المفتوحة. أما بالنسبة لضابط الشرطة الشاب، محمود، فإن هذا هو الطريق الخطأ. "يجب أن نغير الوعي على كِلي الجانبين، اذا كنا نريد بالفعل بناء جهاز أمني جديد. لايمكن للمرء أن يتغلب على الظلم والخوف، إذا لم يجري الحديث عن ذلك".
الصراحة غير مرغوب فيها
بقية بلدان الربيع العربي تتعامل مع تاريخها الحديث غالبا بشكل مماثل لما يقوم به المصريون: فالماضي هو في الواقع أمر هام، ولكن الخوض فيه هو أمر غير محبذ. تونس تشهد، هي الأخرى كما مصر، خلافات حادة حول كيفية التعامل مع ملفات المخابرات، وإصلاح الأجهزة الأمنية. ونصيبها من النجاح ضئيل أيضا: فلا جرى تنظيم مسألة الوصول إلى السجلات، ولا تحقّق أي شكل من أشكال إصلاح قوات الأمن. اثنان فقط من ضباط الشرطة أُدينا لمسؤوليتهما عن الاعتداء على المتظاهرين وحُكِم عليهما بالسجن لمدد طويلة، بينما حصل الآخرون على البراءة، بل وما زال الكثير منهم على رأس عمله.
ورغم أنه جرى تشكيل لجنتين متخصصتين، إحداهما للفساد والأخرى لوحشية قوات الأمن، إلا أن نتائجهما لا تزال إما غير مُفعّلة أو بقيت طي الكتمان. فيما يتحدث المنتقدون عن مراوغات و"ذر الرماد في العيون".
نفس الشيء يمكن سماعه من المغرب، التي يوجد فيها منذ عام 2004 "هيئة الإنصاف والمصالحة"، لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتُكبت بين عامي 1956 و 1999. ومن مهام تلك اللجنة: عقد جلسات استماع عامة، والبحث في الأرشيف، والتفاوض على دفع تعويضات للضحايا. وبهذا تتمثل خصوصية النموذج المغربي بأنه لا يسعى إلى تمحيص المسؤولية الفردية، وإنما إلى توضيح الأمور بكشل جماعي. ولهذا حظيت انطلاقة عمل اللجنة في عام 2004 باهتمام واسع من قبل وسائل الإعلام. ولكن حتى في هذه الحالة، لم ينتج عن عمل اللجنة أي مسؤولية جنائية حتى الآن.
أندرياس ياكوبز
ترجمة: فلاح آل ياس
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: مجلة التنمية والتعاون الألمانية/ قنطرة 2012
يعمل أندرياس ياكوبز لصالح مؤسسة كونراد أديناور في برلين. وكان، من عام 2007 إلى مايو/ أيار 2012، رئيسا لمكتب المؤسسة في مصر. قبل أن يُضطر لمغادرة البلاد، بعد اتهامه بالعمل بصورة غير شرعية في المكتب المرخص هناك منذ أكثر من 30 عاما.