المصريون تحت وطأة ظروف معيشية قاسية
"لم تمر علينا أيام صعبة مثل هذه منذ أيام الحرب" .. كانت هذه كلمات أحد المتقاعدين يبلغ من العمر سبعين عاماً قالها وهو يكاد يبكي وهو يتحدث عن راتب تقاعده الذي لا يتعدى المائة دولار بحسب ما نقل عنه أحد الأشخاص على مواقع التواصل الاجتماعي.
حال هذا الكهل هو حال ملايين المصريين الذين فوجئوا بانخفاض قيمة الجنيه المصري بشكل غير مسبوق. لكن اليوم يشكو كثير من المصريين من مختلف الفئات من تدهور أحوالهم – خصوصاً من هم في الطبقة الوسطى – ويدور الحديث الذي كان هامساً وتتصاعد حدته يوماً بعد يوم عن كيف خسر المصريون أكثر من نصف قيمة ودائعهم ومدخراتهم بسرعة قياسية وخلال أعوام معدودة.
نار تحت الرماد
يقول الكهل المتقاعد إن راتب تقاعده لم يعد يكفي للوفاء بالاحتياجات الأساسية من إيجار للمنزل ودواء له ولزوجته إضافة الى ارتفاع قيمة فواتير الكهرباء والمياه والغاز عدة مرات متتالية ما جعل المتبقي من معاش تقاعده لا يكاد يكفي الطعام حتى آخر الشهر.
على مواقع التواصل الاجتماعي يسهل للغاية ملاحظة التحذيرات المتصاعدة من انفجار مرتقب لا يدري أحد وقته ولا مكانه ولا يلجمه إلا الخوف من بطش الأجهزة الأمنية، بل يرى آخرون أن أجواء ما قبل يناير 2011 قد عادت لتخيم على سماء مصر، مع فارق أن الأمر قد أصبح مرتبط بشكل أكبر بالغذاء والعلاج والتعليم.
قبل انتفاضة يناير اعترى المصريون غضب شديد من صورة شاب قتل بأيدي عناصر شرطة وتخيل كثيرون أن أبناءهم قد يلقون المصير نفسه على أيدي أجهزة الأمن، إلى جانب مشهد انتخابات البرلمان في 2010 والذي تم إخراجه بشكل رآه البعض شديد الاستفزاز إضافة إلى الفساد الذي استشرى في جنبات نظام الرئيس الراحل حسني مبارك.
"الناس جابت آخرها بجد"
ما عنديش أي رهان على وجود عاقلين جوه النظام، لكن حتى الغشيم المتعافي محتاج يفتكر إن التعامل مع صوت الناس الحقيقي بالغشومية آخرته لحن حزين جدا على الكل. pic.twitter.com/FcQVSWQa4V— Belal Fadl (@belalfadl) September 20, 2023
لكن رغم ذلك، لم يصل الحال وقتها إلى أن يعجز أبناء الطبقة الوسطى عن توفير الطعام أو دفع قيمة فواتير المياه والكهرباء أو شراء الوقود اللازم للسيارات، حتى أن بعضهم لجأ إلى إخراج أبنائه من التعليم الخاص ذي التكلفة العالية إلى التعليم الحكومي – الذي لم يعد مجانياً بشكل ما - بعد أن رفعت حكومة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الدعم عن كل شيء تقريباً، وأصبحت تقدم الخدمات للمواطن المصري صاحب واحد من أقل الرواتب في العالم بسعر لا يلائم إلا راتب موظف في أوروبا أو الولايات المتحدة بحسب وصف رواد مواقع التواصل الاجتماعي.
وأكد مدونون ومستخدمون لمواقع التواصل الاجتماعي غير ذات مرة أن بعض من كانوا يصنفون من ذوي الدخل المتوسط إلى المرتفع أو الطبقة المتوسطة /العليا قد بدأوا في إخراج أبنائهم من المدارس الخاصة وألحقوهم بالمدارس الحكومية ذات التعليم المنخفض الجودة والأقل تكلفة نظراً لعدم قدرتهم على الاستمرار في دفع تكلفة هذا التعليم، وأن البعض الآخر قد بدأ يعمل في وظائف جانبية كقيادة السيارات وغيرها فقط للوفاء بالاحتياجات اليومية العادية والمتصلة بشكل أكبر بالطعام والشراب والملابس والعلاج.
الطبقة الوسطى .. الرافد الرئيسي لقيم المجتمع
ويحذر الدكتور عمار علي حسن الروائي والخبير في علم الاجتماع السياسي من تآكل الطبقة المتوسطة التي تعد صمام أمام أي مجتمع، ويقول إن "الطبقة الوسطى هي التي تحمل القيم الاجتماعية التي تدفع بالمجتمع إلى الأمام في أغلب الأوقات، وهذا الدفع للأمام ليس معناه أن تلك الطبقة متمردة أو مبدعة بالضرورة، لكنها على الأقل هي القادرة طوال الوقت والحريصة في الوقت نفسه على أن تمد المجتمع بشكل مستمر بالفئات الحديثة و الفئات المنحازة إلى التحديث الاجتماعي المستمر".
ويقول علي حسن إنه إذا اتسعت الطبقة المتوسطة في أي مجتمع ومثلت تياراً اجتماعياً عريضاً أو قوياً أو يمثل نسبة معتبرة من المجتمع، فإنها تحافظ على تماسكه لأنها تهذب بالاحتكاك والمعاملة اليومية جزءا من سلوك الطبقة المترفة الأعلى منها مالياً، وجزءا من سلوك الطبقة الفقيرة أو المعدمة والأقل في التعليم والوضع المالي وهي بذلك تمثل جسراً واصلاً بين الاثنين.
ويؤثر التضخم بشكل كبير على الطبقة الوسطى في مصر، حيث يتسبب في انخفاض القوة الشرائية لأجورهم ودخلهم. وقد أدى ذلك إلى انخفاض القدرة على شراء السلع الأساسية، مثل الطعام والملابس إضافة إلى صعوبة دفع قيمة الإيجار التي ارتفعت بشدة كما أدى إلى زيادة الديون وصعوبة الوفاء بها.
وقد أعربت العديد من الجمعيات الأهلية المصرية عن قلقها بشأن تأثير التضخم على الطبقة المتوسطة، حيث حذرت من أنه قد يؤدي إلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة كما أنه قد يخلق توترات اجتماعية شديدة ومقلقة للغاية.
مخاطر تآكل الطبقة المتوسطة في مصر
ويشير الدكتور عمار علي حسن خبير الاجتماع السياسي إلى أن الطبقة المتوسطة "هي الطبقة التي يخرج منها القضاة والأطباء والمهندسين والمدرسين والضباط والممثلين، لسبب بسيط هو أن أبناء هذه الطبقة حريصون على التعليم ويقتطعون من أرزاقهم ومن أقواتهم من أجل تعليم أولادهم".
ويقول علي حسن إنه في الفترة الأخيرة شهدت مصر تآكلاً مستمراً للطبقة الوسطى بعد أن كانت قد تعاظمت وتمددت في أعقاب حركة الضباط في يوليو تموز 1952 في أعقاب إجراءات أدت - رغم الاعتراض على بعض توجهاتها - إلى توسع هذه الطبقة التي اعتمدت على التعليم كوسيلة للحراك الاجتماعي، ونجحت في أن تمد مصر بالسفراء والوزراء والمهندسين والأطباء، واستطاع هؤلاء أن يلعبوا دورا كبيرا للغاية في مشروع التنمية الذي انتهى لاحقاً.
ويضيف أنه في ظل حكم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تآكلت هذه الطبقة إلى حد كبير ولم تعد قادرة على مواصلة العيش، حيث غُلَّت يدها من الإنفاق على التعليم لحساب الإنفاق على القوت، ولم تعد تلك الطبقة تجد وقتاً للاستمتاع أو القراءة أو التواصل الاجتماعي، بل أصبحت تلهث طوال الوقت في سبيل الحفاظ على حياة تقف على حافة الفقر.
ويشير الدكتور عمار علي حسن الروائي وخبير الاجتماع السياسي إلى أن "الطبقة الوسطى في مصر أضيرت بشدة وتآكلت زواياها وأخذت في الانكماش كما تراجعت قدرتها على مواصلة طقوسها وأيضاً أخذت أفكارها وقيمها في التراجع تحت ضغوط الحياة اليومية".
ويقول علي حسن إن كثيراً من المجتمعات التي شهدت نوعاً من الإفقار المنظم أو مرحلة ما بعد الحروب أو الأزمات على مدار التاريخ، شهدت تأثر الطبقة الوسطى بشدة، مؤكداً أنه لا يمكن الحد من هذا التأثر إلا بالعودة مرة أخرى إلى التنمية والتوسع في التشغيل وفي الإنتاج وفي التعليم والاستثمار، وأن كل ذلك يمكن أن يحدث بالتتابع وفي سنوات محددة ومن خلال ذلك يمكن إعادة الطبقة الوسطى مرة أخرى سواء من ناحية التمكين أو القوة المادية أو من ناحية العدد.
وضع اقتصادي مأزوم في مصر
على مواقع التواصل الاجتماعي يبدو الغضب متصاعداً من ارتفاع أسعار كل شيء تقريباً، ويقول البعض إن الرواتب حتى وإن زادت بأي قدر فإنها لن يكون لها أي قيمة أمام الأسعار التي ترتفع تقريباً بشكل شبه يومي وبلا مبرر واضح.
ويرى التجار وأصحاب رأس المال أن تكلفة الإنتاج قد أصبحت عبئا لا يطاق وأنهم ليس بمقدورهم إلا أن يرفعوا أسعار منتجاتهم وإلا فإن خسائرهم قد تلتهم رأس المال نفسه بسبب ارتفاع سعر الدولار الخرافي (الدولار يساوي نحو 30 جنيها حتى لحظة كتابة المقال) وزيادة تكلفة استيراد مواد الإنتاج بل وتعطلها في الموانئ لعدم قدرتهم على توفير الدولار.
7️⃣ مصر حلت في المركز السادس ضمن أعلى 10 دول في العالم في ارتفاع أسعار الغذاء بنسبة بلغت 66% وفقًا لبيانات #البنك_الدولي ⏬ pic.twitter.com/NhhQPwrozc
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) September 21, 2023
فيما يرى المواطن العادي أن الدولة تركته فريسة للتجار دون أن تتدخل بأي شكل للجم الأسعار وهو ما تنفيه الدولة باستمرار والتي تقول إنها تعمل على رفع الرواتب وتوفير بعض السلع بأسعار مخفضة للمواطنين.
تعرف على أسباب ارتفاع أسعار #الغذاء في #مصر رغم انخفاضها عالميًا pic.twitter.com/5kClwHLibG
— Watan TV-تلفزيون وطن (@watanegypt) September 21, 2023
وترجع الحكومة المصرية ارتفاع الأسعار لأسباب عالمية مثل أزمة الحرب الروسية الأوكرانية وتبعات جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي وتأثر سلاسل الإمداد بها، لكن منظمة الأغذية والزراعة العالمية "فاو" أكدت في الوقت نفسه انخفاض مؤشرها لأسعار الغذاء عالميًّا إلى أدنى مستوى له في عامين
وقد شهد التضخم في قطاع الأغذية وحده ارتفاعاً بلغ أكثر من 70% لتصبح من أعلى دول العالم في تضخم أسعار الغذاء وكأقل دول العالم من حيث الرواتب.
وبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي) فإن مصر عانت في الشهر الماضي فقط (أغسطس/آب 2023) من تضخم مذهل بمعدل 39.7% بالمقارنة مع 15.3% في الشهر نفسه من العام الماضي، لتحتل المركز السادس بين أعلى عشر دول في العالم في تضخم أسعار الغذاء.
مصر: شهر آخر، رقم تضخم قياسي آخر
ارتفعت أسعار المستهلك بنسبة 37.4٪ في أغسطس مقارنة بالعام السابق
وهو أعلى رقم تضخم منذ عام 2010 - أعلى حتى من المستويات التي تم الوصول إليها بعد أزمة العملة في عام 2016
كما أشارت البيانات الى ارتفاع تكاليف الغذاء بنسبة 71.4% pic.twitter.com/RBrq5lGchQ— Mokhles Nazer (Ph.D) (@Dr_MokhlesNazer) September 11, 2023
ووفقًا لبيانات البنك المركزي المصري فقد سجل المعدل السنوي للتضخم الأساسي 40.7 % في يوليو / تموز 2023، مقابل 41.0% في يونيو / حزيران 2023، وهو ما تستدل به الحكومة المصرية على أن التضخم آخذ في التراجع مع استقرار سعر الجنيه المصري أمام الدولار وتوافر العملة الأجنبية والتصدي للسوق السوداء بشكل أكثر فعالية. كما تقوم برفع أسعار الفائدة وخفض الدعم باستمرار لكن يرى خبراء اقتصاديون أن هذه الأمور تحتاج إلى وقت لتظهر نتيجتها في الوقت الذي تكافح فيه الأسر والشركات المصرية للتعامل مع ارتفاع تكاليف المعيشة.
إنفاق حكومي غير منضبط
لكن الكثير من الخبراء في الاقتصاد يُجمِعون على أن السبب الرئيسي لما يعانيه الاقتصاد المصري هو التوسع غير المنضبط وغير المدروس في الحصول على القروض واستهلاك العملة الأجنبية في مشروعات عملاقة وتأسيس عاصمة إدارية جديدة وحفر تفريعة جديدة لقناة السويس وكلها أمور التهمت حصيلة مصر من العملة الأجنبية وادخلتها في متاهة لم تستطع الخروج منها حتى الآن.
ويُرى أن الرئيس المصري يحاول تأسيس دولة جديدة على أنقاض دولة مبارك التي انهارت تحت وطأة انتفاضة يناير 2011 لكنه في ذلك كان أشد قسوة بكثير من أي حاكم آخر، حيث يعتقد السيسي أن النظام المصري القائم منذ يوليو / حزيران 1952 وحتى اليوم كان رخوا للغاية في التعامل مع الشعب المصري وكان يحرص على عدم استفزازه برفع أسعار الأغذية أو رفع الدعم عن كل شيء تقريبا دون أن يكون المجتمع مستعدا لذلك ودون أن تتمكن الدولة من غل يد التجار وأصحاب الأعمال والمستوردين ومنعهم من سحق المواطن البسيط
ويلوم مواطنون على السيسي ما وصفوه بإهدار أموالهم والتسبب في انهيار العملة الوطنية بإنشائه للعديد من القصور الرئاسية الفاخرة للغاية وشراء طائرات رئاسية بأسعار خرافية وبناء مقر لوزارة الدفاع وآخر للبرلمان بما يتجاوز أضعاف مساحة البيت الأبيض والبنتاغون بواشنطن، وانشاء العشرات من الطرق والجسور ومشروعات النقل والفنادق والقرى السياحية، فيما ينهار القطاع الصحي ويهرب الأطباء المصريون بشكل مقلق للغاية كما تخرج الكثير من الشركات الدولية من مصر ويفقد المئات من الموظفين أعمالهم، فيما يؤكد الرئيس المصري إنها ضريبة بناء "دولة جديدة"، شاكراً للمصريين في أحد خطاباته صبرهم على هذا الوضع.
يقول الدكتور أحمد ياسين خبير في الاقتصاد السياسي من لندن إن برنامج الإصلاح الهيكلي لدى صندوق النقد الدولي يفرض شروطا مجحفة قاسية للغاية، وهذه الشروط تنقل الأزمة الاقتصادية إلى مستويات أكثر خطورة وهذا بالتأكيد ما حصل في مصر.
وقال إن رضوخ الحكومة المصرية لشروط صندوق النقد الدولي وتعويم الجنيه المصري حينها لأول مرة، أدى إلى خسارة الجنيه المصري لما يزيد عن أربعين بالمئة من قيمته، وفي فترة من الفترات خسر أكثر من خمسين بالمئة. وبالتأكيد فإن مثل هذا الوضع سوف ينعكس بتبعات اقتصادية خطيرة جدا على مر السنوات المقبلة، وهذا بالتأكيد ما حدث في مصر طالما أن مصر لم تجد البديل لتأمين حاجياتها من السلع الأساسية المرتبطة بقوت المواطن المصري العادي.
واختتم حديثه بالقول إن أهم إجراء يجب اتخاذه الآن هو الوقف الفوري لأي مشروعات ضخمة تستهلك الحصيلة المتبقية من العملة الأجنبية لدى مصر إضافة الى ضرورة الدخول في مفاوضات جادة للغاية بخصوص الأموال التي حصلت عليها مصر من صندوق النقد الدولي، والعمل بشكل سريع لإخراج مصر من براثن الضغوطات غير المسبوقة للصندوق ووقف تطبيق شروطه المجحفة بالنسبة للاقتصاد المصري وبالنسبة للمواطن المصري العادي وأخيراً الاعتماد على الإنتاج المحلي والتوسع فيه بكل شكل ممكن.
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023