تداعيات حوادث التحرش الجنسي بنساء في ألمانيا - صرخة كولونيا!
الاعتداءات التي حدثت ليلة الاحتفال بالعام الجديد 2016 أمام محطة القطارات الرئيسية في كولونيا غير مقبولة ولا يمكن تحملها بأي شكل من الأشكال، إذ وقعت العديد من النساء كضحايا لعنف جنسي على يد مجموعة من الرجال وفقا لأقوال شهود عيان. وبلغ عدد البلاغات التي تلقتها شرطة كولونيا أكثر من 700 بلاغ كثير منها يتعلق بتحرشات جنسية.
وقالت الشرطة نفسها إن الموقف كان أكبر من طاقتها لذا لم تتمكن من حماية النساء. وتمثل رد الفعل الأول في إحالة رئيس الشرطة في كولونيا، فولفغانغ ألبيرس للتقاعد. هذا ما تناقلته وسائل الإعلام بشكل مشترك تقريبا، لذا لا يمكن تأكيده دون تحفظ.
مرة أخرى يجب التأكيد بكل وضوح على أنه لا يمكن قبول العنف الجنسي بأي حال من الأحوال وبالتالي فكل شخص أغضبته أحداث كولونيا، لديه كامل الحق في ذلك. أما بالنسبة لمن ارتكبوا هذا العنف -تم اختيار الكلمات بعناية هنا- فيجب أن تحاسبهم دولة القانون بكل قوتها، من خلال الإجراءت المشددة لقانون العقوبات والقانون المدني.
بين الأحكام المسبقة والمصالح السياسية
وانطلاقا مما اعتبر متفقا عليه حتى الآن، تبدأ المعارك السياسية غير الموضوعية والتي اندلعت في أعقاب أحداث كولونيا وتتأرجح بين معلومات مستندة على حقائق وبين أحكام مسبقة ومصالح سياسية. أما إخفاق أحد أجهزة الدولة وهي الشرطة، التي فشلت لسبب أو لآخر في حماية أشخاص في الأماكن المسؤولة عنها، فلا يجب أن يكون في مركز النقاش، لكن التركيز ينبغي أن ينصب على هوية الرجال الذين يواجهون تهمة التحرش الجنسي والذين يقول الإعلام وشهود عيان مرة إنهم ينحدروا من شمال أفريقيا، من تونس أو المغرب أو ليبيا ومرة من الشرق الأوسط مثل سوريا أو حتى من أفغانستان.
ثمة نقطة واحدة اتفق المختلفون عليها ألا وهي أن: رجال عرب هم من تحرشوا بالنساء. وعلى الفور تعالت النبرة التي ترجح أن الجناة من اللاجئين. ومن جهتها قدمت الشرطة والادعاء العام هذه المعلومات على أنها مؤكدة، كما وقعت حالات اعتقال فردية واستجواب لمشتبه بهم من الدول العربية ومن بين طالبي اللجوء أيضا، لم يتجاوز عددهم حتى الآن أصابع اليد الواحدة.
بالعودة للأحكام المسبقة عند الكثير من الألمان والأوروبيين عن العالم العربي خلال القرن العشرين سنجد أنها كانت متمثلة -ما كان يرى بشكل إيجابي وقتها- في الحرية الجنسية والراقصات في قاعات الحريم والحكايات الخيالية المبالغ فيها للمسافرين للشرق وقتها. أما في القرن الحادي والعشرين فتركزت الأحكام المسبقة المعتادة عن العالم العربي، في وجود نساء يعتمدن بشكل كلي على الرجال، الذين لا يمكنهم التحكم في شهواتهم الجنسية ويستغلون النساء ويستخدمون الدين لإخضاعهن.
ولا تمثل التخيلات حول قاعات الحريم أكثر من مجرد أحكام مسبقة ومبالغات لا أساس لها وهو أمر صار معروفا الآن. أما بالنسبة للصورة النمطية للرجل العربي الذي لا يستطيع التحكم في غرائزه فهي ساذجة لدرجة أنها لا تحتاج حتى لتعليق جاد. لكن الواضح أن هذه النقطة لم تصل بعد للعديد من الناس مثلها تماما مثل الاعتقاد بأن العالم العربي وحدة واحدة، وهي الفكرة التي يبدو أنها مسيطرة على بعض العقول.
خليط من التعميم والأحكام المسبقة
تستغل الأحزاب والحركات اليمينية الشعبوية واليمينية المتشددة من دون ضمير هذا الخليط المسمم من أشكال التعميم والأحكام المسبقة غير الموضوعية، من أجل تحقيق مكاسب سياسية. فها هم يحولون بطريقة تفوح منها الكراهية، حقيقة أن اللاجئين هم أشخاص بحاجة للحماية إلى العكس وهو أن اللاجئين هم مصدر للخطورة كما نجدهم أيضا يشيرون ضمنيا إلى أن المعتدين في أحداث كولونيا هم من اللاجئين العرب بالرغم من عدم وجود أي تأكيد لمثل هذا الاتهام.
ويحاول الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري وحزب "البديل من أجل ألمانيا"، الإشارة إلى أن اعتداءات كولونيا لا تمثل حالة استثنائية ولكن قاعدة. العرب كمرتكبين لجرائم جنسية، هذا الاعتقاد العنصري والأحادي الجانب. ومن هذا المنطلق تخرج المطالب بمنع استقبال المزيد من اللاجئين في ألمانيا. هذه هي الرسالة التي تبث من صفوف الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري وحزب "البديل من أجل ألمانيا"، مرة بوضوح ومرة ضمن طيات الحديث، والتبرير الدائم هو: حماية النساء.
سردا لبعض الحقائق فقد ذكرت منظمة"تيري دي فام" أن 13 بالمئة من النساء في ألمانيا قد تعرضن من قبل لمرة واحدة (على الأقل) للعنف الجنسي، أما بالنسبة لبلاغات الاغتصاب التي تم الكشف عن ملابساتها من قبل السلطات فنسبتها خمسة بالمئة، وهي أيضا نسبة مؤسفة. ومن يبحث عن هذه البيانات على المواقع الإلكترونية للحزب المسيحي الاجتماعي البافاري وحزب البديل من أجل ألمانيا، فلن يجد شيئا، من الواضح عدم وجود اهتمام بهذا الأمر. لماذا؟ يمكن أن يكون السبب هو أن العنف الجنسي المذكور في الإحصائية ارتكبه بشكل أساسي "ألمان أصليون" وليس "عرب". لماذا أيضا لم ترتفع أصوات الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري وحزب البديل من أجل ألمانيا، ضد الهجمات اليومية التي تتعرض لها أماكن إيواء اللاجئين في ألمانيا والتي يبحث فيها أطفال ونساء عن الحماية بعد أن فروا من الاستعباد الجنسي الذي يمارسه ما يعرف بـ"تنظيم الدولة الإسلامية"؟
حزب الأقلية النسائية يدافع عن المرأة؟
الحزب المسيحي البافاري وهو الحزب الذي خرجت إحدى وزيراته باقتراح لمنح الأمهات -اللاتي يبقين في المنزل لرعاية الأطفال ولا يرسلنهم إلو دور الحضانة- منحة مالية شهرية (وهو ما انتقده البعض باعتباره يمثل تشجيعا على بقاء المرأة في المنزل بدلا من العمل)، هذا الحزب -وهو صاحب المشاركة النسائية الأقل بين صفوفه- بات مهتماً بالدفاع عن حقوق المرأة، لأن هذا يمكنه في الوقت نفسه من التحريض ضد اللاجئين. وكان هذا الحزب قد قرر قبل خمسة أعوام منح المرأة نسبة 40 بالمئة من مقاعده للنساء لكن المرأة تمثل اليوم خمس نساء فقط من أصل 17 عضوا وزاريا في الحكومة المحلية لولاية بافاريا.
شيء آخر لا يجب إغفاله في المناقشات: ففي عام 1997 عندما أقر البرلمان الألماني (البوندستاغ) العقوبة الخاصة بالاغتصاب في الحياة الزوجية، صوت هورست زيهوفر - الرئيس الحالي للحزب والبالغ من العمر آنذاك 48 عاما- ضد القانون وبجانبه عدد كبير من ساسة الحزب. واليوم وتحديدا في الخامس من كانون الثاني/يناير 2016 قال الأمين العام للحزب المسيحي البافاري، آندرياس شويَر: "لا مكان في مجتمعنا وفي ألمانيا لمن لا يقبل قواعد التعايش المشترك هنا ومن بينها احترام المرأة". فهل تنطبق هذه المقولة على الأجانب وحدهم أم على "الألمان الأصليين" أيضا، يا سيد شويَر؟
ما واجهته الكثير من النساء في كولونيا ليلة الاحتفال بالعام الجديد، هو أمر بشع ولا يمكن تبريره ولا التسامح معه بأي شكل، لذا فليس من المهم الآن البلاد التي ينحدر منها الجناة، فهم مجرمون بلا شك كما أن الجميع أمام القانون سواء. وفي حال التأكد من شخصيات الجناة، فيمكن وقتها الحديث عن سبل التعامل مع مثل هذه الحالات.
يجب معاقبة الجناة في وقائع التحرش الجنسي التي وقعت في مدن كولونيا ودوسلدورف وهامبورغ بغض النظر تماما عن شخصياتهم. أما بالنسبة لمن يستغل الآن معاناة النساء المتضررات بهدف التحريض الشعبوي ضد هؤلاء الذين فروا من معاناة غير إنسانية، فهو بالتأكيد يتخلى عن إنسانيته.
رالف سارتوريوس
ترجمة: ابتسام فوزي