"مصر والقطيعة مع ماضيها"

يرى أستاذ الاقتصاد وعالم الاجتماع المصري جلال أمين أن الإيديولوجيات التي سادت فترة حكم جمال عبد الناصر اختفت من الخطاب السياسي في مصر في الوقت الراهن. وثورة 25 يناير ستغير مصر جذرياً، كما كانت ثورة 1952 قد غيرته سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. سوزانه شاندا ألتقت جلال أمين في القاهرة وحاورته عن ثورة 25 يناير.

جلال أمين،  الصورة: كلاوديا شاندا
"إن الصراعات بين المسيحيين والمسلمين في السنوات الماضية كانت تؤجج إلى حد ما من النظام السابق نفسه، النظام الذي أراد أن يضفي شرعية على جهازه القمعي"

​​ وصفت في الكثير من المؤلفات طبيعة التغيرات الجذرية التي كان على المجتمع المصري مواجهتها بعد ثورة 1952، هل ستكتب التغيرات الراهنة عاماً مهماُ مثل عام 1952؟

جلال أمين: إن كلتا الثورتين تمثلان قطيعة مع الماضي. حتى وإن كانت ثورة عام 2011 ما تزال يافعة للغاية، يمكننا أن نقول سلفاً إن أتت بقطيعة تامة مع الماضي. في عام 1952 أردنا إنهاء كل ما له صلة بنظام الملك، والتأسيس لمجتمع أكثر عدالة. وهذا ما ينطبق تماماً على ثورة 25 يناير 2011.

هل شاركت آنذاك في ثورة 1952؟

أمين: لم أشترك بشكل مباشر، فقد كنت في السابعة عشر من العمر. ولكن منذ عامي الثاني عشر كانت لي اهتمامات سياسية وكنت أتابع مجريات الأمور بدقة كبيرة. وكلتا الثورتين حدثا بشكل غير متوقع، على الرغم من أن الأجواء -قبيل حدوث هذه الثورتين مباشرة- كانت مشحونة للغاية، والأجواء في عام 1952 كانت أكثر مشحونة بشمل أكبر من هذا العام. والثورات في مصر تأتي دائماً بشكل غير متوقع.

لماذا؟

أمين: لأن ليس للمصريين في الأساس طبيعة ثورية. وهم في هذه النقطة يشبهون البريطانيين. وحين يتخاصم مصريان ويصبحان على درجة كبيرة من الغضب، يأتي شخص ثالث ويهدئ من روعهما بالقول: "صلوا على النبي!". هذه الكلمات تهدئ المشاعر، وهذا هو حالنا نحن المصريبن. هذا لا يعني أننا لا نقوم بثورة مطلقاً، لكننا إن قمنا بثورة، فإن ذلك يكون بشكل مفاجئ.

ماذا يميز هذه الثورة الحالية عن ثورة 1952؟

أمين: في عام 2011 كانت كل شرائح المجتمع مشتركة فيها، كل الطبقات الاجتماعية، أغنياء وفقراء، مثقفون وغير مثقفين، رجال ونساء، شباب وأشخاص كبار في السن، مسيحيون ومسلمون، كل هؤلاء قاموا بالمشاركة في الاحتجاجات جنبا إلى جنب. وهذا ما نال استحساني للغاية. على عكس ذلك بدأت ثورة 1952 كانقلاب عسكري، ولم تأت من الشعب بصورة مباشرة. إن إسقاط الملكية نال شعبية كبيرة وقوبل بترحيب الكثيرين ودعمهم. لكنها في النهاية كانت انقلاباً خُطط له بسرية. أما اليوم فالوضع مختلف تماماً: فالشعب هو الذي يصنع الثورة، والجيش بقوم بدعمها.

وماذا يعني هذا؟

مظاهرات ضد نظام مبارك، الصورة د ب ا
"اليوم الوضع مختلف تماماً: الشعب هو الذي يصنع الثورة، والجيش بقوم بدعمها"

​​

أمين: إنها معضلة هذه الثورة، ففي الاقتصاد مثلاً نفرق بين أصحاب شركة ما ومديريها. وفي الغالب لا يكون أصحاب الشركة هم مديروها، أصحاب الشركة هم المساهمون، أما من يديرون الشركة ليس لهم بالضرورة أسهم فيها. وإذا ما طبقنا هذا الأمر على الثورة، فإن هذا يعني أن الشعب يمثل هنا أصحاب الثورة أو المساهمين فيها، بينما نجد على العكس من ذلك يمثل الجيش مديري الثورة. وهذه هي معضلة هذه الثورة. وهذا الأمر يشكل نقطة مهمة، لها عواقب بعيدة المدى.

وما هي هذه العواقب؟

أمين: إن الجيش يحدد الآن ما يجري. رئيس الوزراء أحمد شفيق، الذي أدى اليمين الدستورية تحت حكم مبارك، أُجبر بعد أسبوعين من ذلك على الاستقالة. صحيح أن شباب حركة الاحتجاجات طالبوا قيادة الجيش بتنحية شفيق، لكن ما زال يوجد حتى اليوم وزراء آخرون في هذه الحكومة، أدوا اليمين الدستورية تحت حكم الرئيس السابق حسني مبارك.

لكن حركة الاحتجاجات قامت بدور حاسم في استقالة شفيق؟

أمين: أنا وغيري الكثير نرى أن هذا التأثير ليس كافياً، فرئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة كان طوال عشرين عاماً تقريباً وزيراً من وزراء مبارك! وهذا الأمر لا يمكن القبول به! والشباب يشعرون بذلك، والشباب الأقل سناً يشعرون بذلك بشكل أكبر. لكن لا يتحدث أحد عن هذه الشكوك. ولا يُسمع سور الامتنان لموقف الجيش خلال الثورة وبعدها. وليست هناك رغبة بخلق المزيد من المشاكل من خلال مهاجمة الجيش. كان الوضع مختلفاً في ثورة 1952، فقد استولى الجيش على السلطة وغير النظام برمته. وأسس مجلس قيادة الثورة وبدأ بحكم البلد. صنع العسكر الثورة وبدأوا بتحديد مستقبل البلد. وهذا يختلف عما يحصل اليوم.

إن ثورة 1952 كانت ذات صبغة إيديولوجية قومية، أما في عام 2011 فلم نسمع شعارات إيديولوجية، ما الذي تغير؟

أمين: في الوقت الحاضر تُرفع مطالب أساسية: الخبز والكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. خلال أكثر من ثلاثة عقود من الزمن حرمت علينا الحرية، وقول رأينا بصراحة. والآن بات مسموحاً لكل شخص أن يقول ما يريد. الشاعر المعروف أحمد فؤاد نجم، الذي أوده كثيراً، أنشد مؤخراً في مقابلة تلفزيونية قصيدة قديمة، يقول فيها: "كل شيء ممنوع، ممنوع من المناقشة ممنوع من السكات". أحياناً كان يفضل المرء السكوت، لكن لم يكن يسمح له بذلك، وإنما كان يتوجب عليه قول نعم في استفتاء لبقاء الرئيس في منصبه تأكيد رئاسته. ولهذا السبب فإن مطالب الشباب متواضعة للغاية.

أما زال الوقت مبكراً للبرامج السياسية والإيديولوجيات؟

أمين: إذا ما نظرنا إلى الخطاب السياسي خلال العقود الثلاثة المنصرمة وما يردده المثقفون، نلاحظ أن الإيديولوجيات قد اختفت من الناحية العملية. المعارضة تنتقد الحكومة من دون أن تقدم خيارات بديلة أو يكون لها برامج، إنها تعارض فحسب. إن هذا الأمر ما هو إلا نتيجة حتمية لتقييد حرية الرأي بشكل تام، فعندما يقبع المرء في السجن، لا يقوم بالتخطيط للمستقبل، وإنما يبدأ بالصراخ داعياً لإخراجه من السجن. وهنا يكون الأمر سواء، إن كانت له أفكار اشتراكية أو رأسمالية. إن غبطة الشعب التي تجلت خلال الثورة، إنما هي غبطة شخص خرج لتوه من السجن. وهذا يوضح أيضاً لماذا عمت هذه الفرحة كل شرائح المجتمع. لكن حان الوقت الآن للنقاشات الإيديولوجية.

 الصورة ويكيبيدايا
"في عام 1952 صنع العسكر الثورة وبدأوا بتحديد مستقبل البلد وهذا يختلف عما يحصل اليوم"

​​ ماذا يمكن لمصر أن تتعلم من تاريخها؟

أمين: أجد أنه في فترة من فترات حكم جمال عبد الناصر تم تحقيق نجاحات كبيرة، وتلك الفترة تنحصر في عامي 1956 و1966. في هذا الوقت كانت أوضاعنا الاقتصادية والعدالة الاجتماعية جيدة. كما أننا تحررنا من الضغط الدولي. إن حرب الأيام الست مع إسرائيل أفسدت كل شيء. ومنذ ذلك الوقت ساءت الأمور. وكل ما حدث من ذلك الوقت، ما هو إلا نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لهذه الحرب الخاطفة. بالنسبة لي، أجد أن الأوضاع في مصر لم تتدهور في العقود الثلاثة المنصرمة التي حكم فيها مبارك، وإنما خلال الـ 43 عاماً، أي منذ 1967. لكني لست على هذا الغباء كي أقول يجب أن نقوم بكل شيء من جديد، كما كان في عهد ناصر. لأن العالم قد تغير.

إلى أي حد؟

أمين: كان الأحرى بنا أن نخطط لمستقبلنا، وهذا ما تم إهماله خلال السنوات الماضية، لكننا يجب أن نخطط بطريقة تختلف عن عبد الناصر، إذ بات يتحتم علينا في هذه المرحلة أن دعم القطاع الخاص ونستقبل الاستثمارات. خلال فترة حكم جمال عبد الناصر (1953-1970) كانت مصر من الناحية الاقتصادية منعزلة تماماً تقريباً عن بقية العالم. كانت الضرائب الجمركية مرتفعة للغاية، والسفر كان صعباً هو الآخر. في تلك الفترة كانت المصريون يرددون نكتة، يجب أن احكيها لك: ذهب جمال عبد الناصر لزيارة أبي الهول، وقال له إنه فخور به للغاية وسأل عبد الناصر أبا الهول عما إذا كانت له رغبة يحققها له. وهنا قال أبو الهول لجمال عبد الناصر: أرجو أن تمنحني تأشيرة خروج من مصر. (يضحك جلال أمين ضحكة مجلجلة). كانت كلمات السعة آنذاك: "هل لديك تأشيرة خروج؟ كيف يمكنني الحصول على تأشيرة خروج؟". آنذاك كان من في منتهى الصعوبة مغادرة مصر، لكن مقابل ذلك كان كل شيء آخر تقريباً على ما يرام، التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، بل وحتى الفن والأدب.

يشكك أستاذ السياسات الخارجية الأميركية مايكل ماندلباوم في إمكانية تحقيق الديمقراطية في مصر، ويعلل ذلك بأن الديمقراطية لا تعني فقط الانتخابات الحرة، بل وحرية دينية واقتصادية وسياسية أيضاً. كيف تنظر إلى هذا الرأي؟

أمين: إنه على حق في قوله إن الديمقراطية تعني أكثر من مجرد انتخابات حرة ونزيهة. لكننا يمكن أن نحقق الكثير مما ذكره: إن حرية التعبير تحققت إلى نقطة ما وستتحسن باستمرار. أما الحرية الدينية فتتعلق بالعلاقة بين المسلمين والأقباط في مصر، وهذه العلاقة يمنكن أن تتحسن مع تولي حكومة وطنية السلطة. إن الصراعات بين المسيحيين والمسلمين في السنوات الماضية كانت تؤجج إلى حد ما من النظام السابق نفسه، النظام الذي أراد أن يضفي شرعية على جهازه القمعي. أعتقد حقاً أننا سنقوم بحل هذه الصراعات.

أجرت المقابلة: سوزانه شاندا
ترجمة: عماد م. غانم
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2011

ولد جلال أمين في القاهرة عام 1936، وبعد أن أقام لفترة طويلة في الكويت ولبنان، عاد إلى مصر ليعمل وأستاذا للاقتصاد في الجامعة الأميركية بالقاهرة منذ 1979 حتى اليوم. وضع العديد من المؤلفات، ومنها "وصف مصر في نهاية القرن العشرين" و"خرافة التقدم والتأخر"، و"ماذا حدث للمصريين؟ تطور المجتمع المصري في نصف قرن 1945-1995".

قنطرة

المحطات الفاصلة للثورة المصرية
سقط الفرعون!
لأول مرة في تاريخ مصر الحديث يتم الحديث عن رئيس سابق. فقبل أقل من شهر من اليوم لم يكن أحد يتوقع سقوط نظام الرئيس المصري محمد حسني مبارك، حيث أعلن مساء اليوم نائب الرئيس عمر سليمان تنحي محمد حسني مبارك بعد 30 سنة من الحكم وتسليمه السلطة إلى المجلس العسكري. ريم نجمي تستعرض اللحظات الأخيرة من الثورة المصرية.

حديث أبناء الثورة المصرية:
"ارفع رأسك، مصر الجديدة تولد"
بعد تنحي مبارك انطلقت الحشود في قلب القاهرة تهتف "الشعب خلاص أسقط النظام". وفي اليوم التالي سادت أجواء كرنفالية ميدان التحرير. الصحفي سمير جريس تجول في منطقة وسط البلد وسجل انطباعات ومخاوف الناس بعد الرحيل و"التحرير".

من ثورة الياسمين إلى ثورة النيل:
"العرب الجدد" وملامح المرحلة المقبلة
يرى الباحث في جامعة كامبردج والإعلامي المعروف خالد الحروب في هذه المقالة أن جوهر التغيير الذي جلبته ثورتا تونس ومصر يكمن في إعادة الشعوب ورأيها العام إلى قلب المعادلة السياسية، مؤكدا أن هذه التغيير غير مؤدلج قادته أجيال الشباب الذين تجاوزت علومهم وخبراتهم أجيال آبائهم وحكوماتهم الشائخة التي لا تدرك أساساً كيف يفكر هؤلاء الشباب وما هي طموحاتهم