"أنا مسلم، لكن ليس هناك داع للخوف!"
في البلدة القديمة لسارايفو وتحديدا في نادي سلوغا تعزف فرقة "أنبلاغد بلاغ" أشهر الأغاني الغربية. يتمتع المغني صالح وعازف الغيتارة عظيم وعازف الكيبورد سلي وعازف الإيقاع تساغ بشعبية كبيرة لدى المعجبين. سواء كانت الأغنية ل U2 أو أوازيس فإن الجمهور المحتشد أمام سدة المسرح يشارك بالغناء بصوت عال وبإمعان وانهماك كبيرين مرددا ذلك أغنية بأغنية وسطرا بسطر.
أصبح الهواء ثقيلا، أما البيرة في بار النادي فغالية جدا: أربعة ماركات بوسنية أي 2 يورو. رغم ذلك فعندما يغني صالح أغنية "فيل" (المشاعر) للفنان روبي وليمز فإن جمهور نادي سلوغا يشعرون بأنهم ينتمون لنفس عالمه وتراودهم أحاسيس الحرية ويشعرون بأن سارايفو تقع في أوروبا وليس في منطقة انتداب البوسنة والهرسك. جمهور النادي يغلي حماسا وسعادة عندما يستمع إلى أغنية وليمزCome and hold my hand.
حدود عشوائية وألغام وجوازات سفر مختلفة
يقع خارج أبواب النادي بلد لا يعرف مثل هذه المشاعر واليقين. صحيح أنه بعد انقضاء عشرة أعوام على الحرب هناك حكومة مشتركة بين المسلمين والكرواتيين والصربيين انبثقت عن انتخابات حرة، وصحيح أيضا أن ما سمي في السابق "زقاق القناصة" في سارايفو حيث كان قناصة مسلمون وكرواتيون وصربيون يقتلون الأفراد كما يصطاد المرء الأرانب أصبح اليوم يحمل واجهات مزينة لمحلات بيع سيارات فولكسفاجن وبي إم في وفولفو.
لكن الزعماء السياسيين للاتحاد القائم بين المسلمين والكرواتيين ولجمهورية الصرب الانفصالية لم يتوصلوا من الناحية الأخرى إلى اتفاق بشأن توحيد جوازات السفر أو إشارات أرقام السيارات أو نص النشيد الوطني.
وللدولة حدود عشوائية كما توجد آلاف الألغام في مناطق القتال القديمة، مثلما يوجد في كل مكان في المدينة شهود على ويلات الحرب كالمكتبة الوطنية المدمرة أو ما تبقى من مبنى البرلمان الذي التهمته نيران الاحتراق.
حينما يكون المسجد رمزا للتمزق!
أما في حي دوبرينيا التابع لمدينة سارايفو والواقع بين القرية الأولمبية التي شيدت عام 1984 وبين مبان عالية متآكلة فهناك مسجد الملك فهد الذي شيد قبل بضعة أعوام. وقد أصبح هذا الصرح رمزا للتمزق الداخلي الذي تعاني منه المدينة.
فهو يرمز من ناحية إلى المساعدات التي قدمتها دول إسلامية عديدة أثناء الحرب بما في ذلك الأسلحة التي تم تهريبها إلى هذه المدينة المحاصرة رغم الحظر الذي كان الغرب قد فرضه حينذاك على يوغوسلافيا.
من الناحية الأخرى فإن هذا المبنى بأبهته الاستعراضية يشكل للكثيرين من سكان البوسنة المسلمين مظهرا استفزازيا لأنهم يرون فيه رمزا لإدعاء أتباع المذهب الوهابي بأنهم دعاة النهج السليم الوحيد في الإسلام.
وفيما بدت مساجد البلدة القديمة بغطائها الحجري الأبيض ومآذنها السامقة وكأنها صور متناسقة ومتلازمة مع المعالم الأخرى للمدينة وشواهد على تقاليد إسلامية مضت عليها قرون عدة في البلقان، يظهر مسجد الملك فهد كما لو كان مصنعا لتربية المؤمنين الحقيقيين مفتقدا إلى الروحانية.
مبشرون من الخليج
معظم مسلمي البوسنة يسودهم الاستياء حيال المبشرين القادمين من منطقة الخليج على حد تعبير أزهر كلامويتش الذي يعمل صحفيا في الجريدة اليومية المشهورة "أسلوبودينيه". فهو يقول "لدى الناس هنا ثقة كبيرة في نفوسهم فيما يخص بطريقة فهمهم للإسلام".
يجلس كلامويتش في مكتبه الواقع في مبنى رتيب مبني من الخرسانة المسلحة يعود إلى عهد تيتو ويقول إن الدين لم يكن في يوغوسلافيا معرضا للاضطهاد على نحو يذكر كما كان الحال عليه في الاتحاد السوفيتي، فالكنائس والمساجد كانت مفتوحة دوما، وبالتالي لم تفقد يوغوسلافيا تقاليدها الدينية بتاتا على عكس الحال في الجمهوريتين السوفيتيتين السابقتين أوزبكستان وكازاخستان.
ثم يضيف قائلا: "لقد سمح رجال السياسة ببناء مسجد الملك فهد رغم أن ذلك يتعارض مع إرادة المجموعة المسلمة هنا."
تنافس سعودي – إيراني
لا ينشط في سارايفو السعوديون وحدهم، فالإيرانيون أيضا أسسوا في المدينة معهدا ثقافيا أنفقوا عليه مبالغ طائلة. السعوديون والإيرانيون يتنافسون على غزو قلوب سكان سارايفو. ونظرا لأن المركز الإيراني يحتوي على حمام للسباحة يتهافت عليه الشباب فقد قرر السعوديون بناء حمام سباحة أيضا.
أما فيما يتعلق ب"الهدايا" الأخرى فإن الإيرانيين لم يحققوا النجاح، فقد وعدوا بمنح كل امرأة 75 يورو شهريا إذا كانت على استعداد لارتداء الحجاب الإسلامي المعروف سابقا في البوسنة (بولا). كما عرضوا على الرجال تربية لحاهم لقاء دعم مالي.
ومع أن تلك العروض مغرية نظرا للحالة الاقتصادية العصيبة إلا أن التجاوب مع هذه العروض ضئيل إلى أبعد حد. ويلاحظ أن عدد الفتيات والنساء اللواتي يرتدين الحجاب في برلين يفوق عددهن في سارايفو. كما يكشف الشباب والشابات في أندية المدينة عن الكثير من أجسادهم.
مسلمون ليبراليون
يتسم الإسلام في البوسنة والهرسك بطابع خلّفه تاريخ تعددية الشعوب في البلقان. يقول كلامويتش: "سكان سارايفو فخورون بالتراث الليبرالي لمدينتهم. فقد كرّس هنا المسلمون والكاثوليك والأرثوذكس واليهود تسامحا دينيا كبيرا".
ويضيف بأن هذا التراث لم تزعزعه حرب البوسنة. أما أسباب الحرب فإنها تعود في نظره إلى وجود "نمط عقيم" من القومية وليس إلى الدين نفسه. ويمضي كلامويتش قائلا:
"كان حوالي 30 بالمائة من المقاتلين الذين دافعوا عن سارايفو أكثر من ثلاثة أعوام صربيين". وهو يرى في إسلام بلاده مثلا ينبغي لأوروبا أن تحتذي به. كما أن أستاذ الفلسفة وعالم الدراسات الإسلامية في جامعة سارايفو، أنيس كاريتش، يرى بأن الرغبة في تكريس إسلام أوروبي قد تحققت من خلال النمط الإسلامي السائد في البوسنة.
فهو يقول: "هناك تماسك في الإيمان وانفتاح وتسامح تجاه المجتمع وتحفظ حيال السياسة". يرى كاريتش الذي سينتخب في غضون الأسابيع المقبلة لتولي أعلى منصب ديني في البوسنة والهرسك بأن المأساة تكمن في عدم اغتنام الغرب الفرصة للاستفادة من إسلام البوسنة كجسر يربطه بالعالم الإسلامي ويضيف قائلا:
"بدلا من ذلك ينظر ساسة الغرب نظرة الخوف إلى هذا البلد معربين عن خشيتهم في أن يصبح بؤرة لغلاة الإسلاميين".
الدين ليس خيارا بديلا لدى الشباب
هذا ويقر الجنرال ديفيد ليكي وهو إنكليزي يقود قوات حفظ السلام الأوروبية (أيفور) بعدم وجود أي دليل حتى الآن على نشاط مجموعات تابعة لشبكة القاعدة في البوسنة:
"ما زالت المشاكل التي يمر بها هذا البلد نابعة من النزعة القومية والوضع الاقتصادي العصيب". ثم يضيف بأن الشباب حاولوا أن تتحقق انطلاقة جديدة، أما الدين فلم يشكّل بالنسبة لهم خيارا بديلا. كما أن اللورد بادي اشداون الممثل الأعلى للإدارة الدولية في البوسنة والهرسك لا يرى في الإسلام نفسه خطرا بل في تداعيات الماضي:
"لقد أنهت معاهدة دايتون الحرب لكنها لم توفر العوامل الكفيلة بتحقيق بداية جديدة". ونظرا لامتناع الصربيين عن تسليم مجرمي الحرب فإنه لم يمكن حتى الآن إبرام اتفاقية مشاركة مبنية على أسس قوية مع الاتحاد الأوروبي. أما الاقتصاد فهو في حالة متداعية، مما يجعل أكثر من 60 بالمائة من الشباب الذين لا تتعدى أعمارهم 22 عاما تحدوهم الرغبة في مغادرة البلاد في اتجاه الغرب.
قمصان أم لافتات دعائية!
يقول كلامويتش "شبابنا منفتح على العالم، وهو يبحث عن فرص للعمل بدلا من الاهتداء بوحي النبي". هذا ويسخر شباب سارايفو من هستيرية الغرب في هذا الصدد.
وهناك قميص أسود شائع يرتديه الشباب مكتوب عليه "أنا مسلم، لكن ليس هناك داع للخوف!". والشباب يرتدون هذه القمصان في نادي سلوغا أيضا حيث يعرب صالح في أغانيه عن الحنين إلى مستقبل أفضل مقتبسا في هذا الصدد مقاطع من أغاني روبي وليمز."كوم أند هولد ماي هاند".
بقلم توبياس أسموت
حقوق الطبع قنطرة 2005
ترجمة يوسف حجازي