تموز الأسود في ألمانيا
تلاحقت الأحداث المأساوية في ألمانيا الاتحادية يوماً بعد يوم في مشهد تراجيدي غير مسبوق النظير. مشهد أحدث الكثير من الهلع بين أوساط المجتمع الألماني. فهذا المجتمع يحظى بقدر عال من الأمن والاستقرار، باستثناء ماحدث في (يوليو/ تموز 2016) من أفعال إجرامية استقبلها الشارع الألماني باستنكار عارم. أربع وقائع متتالية في أكثر بقليل من أسبوع واحد، اثنتان منها بدوافع جهادوية وواحدة بدافع جنائي وواحدة بدافع عنصري يميني متطرف. وثلاثة من مرتكبي هذه الأفعال من اللاجئين الوافدين إلى ألمانيا طلبا للحماية والاستقرار، والذين ينتمون إلى الديانة الإسلامية التي منيت بتشويه كبير على أيدي جماعات إسلاموية إرهابية متطرفة من "داعش" وأخواتها.
واقعتان إرهابيتان وأخرى جنائية
الحادثتان التي أعلن تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وقوفه وراءهما في جنوب ألمانيا، إحداها بمدينة فورستبورغ على يد طالب لجوء أفغاني يبلغ من العمر 17عاما، حيث أقدم هذا الشاب على الاعتداء على خمسة أشخاص داخل متن القطار وجرحهم بالآت حادة هي الفأس والسكين وهما سلاح أبيض طالما اعتاد تنظيم "داعش" استخدامه في إزهاق أرواح الأبرياء، وقد قتلت الشرطة الجاني في ذات المكان حين أراد مهاجمتها وأعلنت السلطات الألمانية انتماءه لهذا التنظيم. وفي الواقعة الأخرى أصيب 15 شخصاً، في تفجير انتحاري عند حانة نبيذ في مدينة أنسباخ الألمانية، وكان الانتحاري هو نفسه القتيل الوحيد، طالب لجوء سوري (27 سنة)، كان قد تم رفض منحه حق اللجوء، فأعلن ولاءه لأبي بكر البغدادي زعيم تنظيم الدولة الإسلامية.
فضلاً عن حادثة جنائية وقعت في الفترة نفسها قام بارتكابها طالب لجوء سوري (21 سنة) وسط مدينة رويتلنغن جنوب غربي ألمانيا بولاية بادن فورتمبيرغ، حين أقدم على قتل امرأة حامل وإصابة شخصين أخرين بآلة الساطور، وقد صرحت الشرطة أن هذه الجريمة حالة فردية ولا تمت للجماعات الإرهابية بصلة، بل يبدو أن الشاب، الذي كان معروفاً من قبل لدى الشرطة، كان له علاقة عاطفية مع المرأة الضحية.
اعتداءات على المهاجرين بدافع الكراهية
من جانب آخر فإن الحادثة الأبشع كانت حين أقدم شاب ألماني من أصول إيرانية بإطلاق النار على المارة أمام مطعم ماكدونلز في ميونخ مردياً تسعة قتلى معظمهم من أصول مهاجرة مسلمة (تركية وكوسوفيه وألبانية)، وأكثر من ثلاثين جريحاً ثم انتحر. الشاب الألماني الإيراني علي ديفيد س. كان فخوراً بعرقه الآري وبيوم ميلاده المصادف لنفس يوم ميلاد الزعيم النازي أدولف هتلر، وكان يكره العرب والأتراك، أي أنه عنصري ذو اتجاه يميني متطرف واضح، وفق صحيفة فرنكفورتر ألغيمانيه.
ومن الجدير بالذكر هنا التنويه إلى تضاعف الاعتداءات بدافع الكراهية على مراكز إيواء اللاجئين في ألمانيا خمس مرات بين عامي 2014 و 2015، بحسب تقارير أفادت أيضا أن الكثير من مرتكبي الهجمات لا يعاقبون، وأحيانا تكون هناك عقوبة بالغرامة أو السجن مع إيقاف التنفيذ. وقالت مصادر إعلامية إن العديد من الهجمات التي تستهدف مراكز إيواء اللاجئين في ألمانيا لا تلاحق جنائيا. وتتهم الشرطة الألمانية المتطرفين اليمينيين والنازيين الجدد بارتكاب هذه الجرائم.
لكن فيما يتعلق بالأحداث الصادرة عن لاجئين مسلمين وحتى نتدارس هذ المشهد المرتبك بموضوعية ورصانة علينا الخوض أولا في سياسة اللجوء التي تنتهجها ألمانيا والقوانين المطبقة بهذا الصدد، ومن ثم العروج على خلفية الواقع المحترب الذي أتى منه طالبو اللجوء إجمالاً -وليس فقط حصرا على الحالات التي أوردناها في هذا المقام- وانعكاسات هذا الواقع على حياتهم الجديدة بعد وصولهم إلى ألمانيا، وشكل سياسة اللجوء المتبعة في ألمانيا، ومن ثمّ محاولة حصر المثالب والقصور، في محاولة ربما تساهم جديا في الوصول إلى حلول ناجعة لها.
خلفية الواقع العربي الذي أتى منه اللاجئون
لاشك أن موجة اللجوء إلى الغرب هربا، قد بدأت مع تداعيات الأوضاع العربية، سيما بعد قيام ماسمي بثورات الربيع العربي، حيث احتدمت الصراعات المسلحة وأصبح الاقتتال الداخلي أكبر المشاهد إيلاما ناهيك عن الدمار الذي حل بكل شيء، وكانت النتيجة هي الهجرات الجماعية سبيلا للنجاة من ذلك الخراب .
وفي حقيقة الأمر يصعب وصف هذا الواقع العربي المحترب ووصف آثاره على مواطني. فالموت الجماعي ودمار الممتلكات والمجاعات وانتشار الأمراض والتشرد جميعها ناتجة عن حالة من الصدمة النفسية تفوق قدرة البشر على تحملها، وسنتناول هذا الأمر في معرض الحديث عن الآثار النفسية للحروب في آخر هذا المقال.
سياسة اللجوء في ألمانيا
إن الاندماج الاجتماعي هو الهدف الأساس الذي تسعى سياسة اللجوء في ألمانيا إلى تحقيقه وفقا لأبجديات ومفاهيم القانون الدولي الخاص. وإذا ما أردنا الخوض في سياسة اللجوء بألمانيا كما هي على أرض الواقع، فلا بد من الإشارة أولا إلى أن هناك عدداً من الدول هي التي يحظى لاجئوها بأولوية الحق في ترتيب أوضاعهم، ابتداءً من تسريع المقابلة الشخصية إلى إصدار قرار من المحكمة الفيدرالية بقبول اللجوء ومنح الإقامة لمدة ثلاث سنوات، وكذلك منح الجواز الألماني الأزرق، وما يتبع ذلك من حقوق كالالتحاق بالبرامج الحكومية لتعليم اللغة الألمانية، والحصول على سكن شخصي مستقل، وهذه الدول هي سوريا /العراق / إيران / إريتريا وكذلك أثيوبيا والصومال، أما بالنسبة للاجئين القادمين من أفعانستان وباكستان واليمن فهؤلاء أقل حظا من غيرهم، وعليهم الانتظار في قائمة الصبر.
ولا يخفى على بال أن اختلاف الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي بين الدول العربية والدول الأوروبية المتقدمة يعد أهم أسباب صعوبة الاندماج بالمجتمع، إذ تعد الأخيرة أكثر تنظيما والتزاما بالقوانين ناهيك عن الاختلافات في العادات والتقاليد والاعراف. الجدير بالذكر هنا أن النخبة الألمانية المثقفة تدعو إلى تشكيل إسلام أوروبي يتلائم مع دستورها ولا يعلو عليه، لما يشكل عدم فعل ذلك من خلق مجتمع موازٍ وهذا أمر مرفوض وبشدة، فالمسلمون هم جزء من ألمانيا لكن الإسلام كديانة قائمة على الشريعة الإسلامية، أمر حديث عهد، يختلف كليا عن المسيحية التي يسهل التعامل معها لوجود مرجعيتها الموحدة فيما يفتقر الإسلام الى وجود تلك المرجعية الموحدة.
وفي هذا السياق يشهد القاصي قبل الداني أن موقف أوروبا وخصوصا ألمانيا التي فتحت ذراعيها لهؤلاء الهاربين من بلدانهم المحتربة، كان موقف نبيلا وشجاعا، خصوصا ذلك القرار الذي أصدرته المستشار الألمانية أنغيلا ميركل في 25 أغسطس/ آب 2015 بتعليق ألمانيا تنفيذ اتفاق دبلن، الذي يقضي بإرجاع طالبي اللجوء إلى الدولة الأوروبية الأولى التي دخلوها وبصموا فيها ابتداءً على طلبات لجوئهم.
"شهادتي على الواقع البائس للاجئين في ألمانيا"
سبق وأنا ذكرنا أن اللاجئين الأوفر حظا في ترتيب أوضاعهم هنا في ألمانيا هم اللاجئون القادمين من سوريا والعراق وإيران وإريتريا والصومال وأثيوبيا، أما اللاجئون القادمون من أفغانستان وباكستان اليمن فوضعهم معقد للغاية. وسأذكر في هذا المقال شهادتي من وحي أحد المساكن المخصصة لاستقبال اللاجئين الجدد.
#مسكن اللاجئين في مدينة هاينبورغ مقاطعة هسن:
*السكن الجماعي:
يعتبر السكن الجماعي في مدينة هاينبورغ أحد المساكن المؤقتة المعدة لاستقبال اللاجئين، لكنه لايصلح للسكن مدة طويلة لعدم توفر فيه مقومات العيش الكريم.
*الدراسة النظامية:
تتوفر في المساكن المؤقتة للاجئين كورسات لتعليم اللغة الالمانية ولكنها دورات تعليمية ليست نظامية، ولن يحصل الدارس فيها على شهادة تؤهله للعمل في أي مكان، فالكورسات النظامية لا تتوفر إلا لمن حصلوا على الأوراق الثبوتية فقط، الأمر الذي يزيد من المعاناة لانسداد الأفق، فالقوانين المطبقة في ألمانيا لا تفرق بين ذوي الشهادات الجامعية والأميين، فكلهم سواسية أمام القانون. بينما لو عمدت الحكومة الألمانية إلى تطبيق التمييز الإيجابي فهذا سيجعلها تستفيد من أصحاب الشهادات الجامعية العليا أفضل من بقائهم عالة عليها.
*العنف الأسري:
تتعرض نساء لاجئات وأولادهن للعنف الأسري من قبل الأزواج، فقدت شهدتُ العديد من الحالات التي يقوم فيها الزوج بضرب الزوجة والأطفال ضرباً مبرحاً، وبطبيعة الثقافة الانكسارية تجاه المرأة العربية و المسلمة في مجتمعاتهم، لا تقوم الزوجة بتبليغ المشرفة الاجتماعية بمثل هذا الفعل، إلا في حالات قليلة.
الإنجاب
تعمد الكثير من الفتيات إلى اتباع سياسة الإنجاب استجلابا للرعاية الكبيرة التي تقدمها الحكومة الألمانية للأم والطفل.
الآثار النفسية للحروب
وعن الآثار النفسية للحروب وهي عماد هذا المقال يمكن القول أن آثارها بعيدة المدى ويتجلى تأثيرها بالتطور إلى اضطراب نفسي معروف في مجال علم النفس باسم اضطراب مابعد الصدمة PTSD-Post Trauma Stress Disorder، فالموت الجماعي والجرح ودمار الممتلكات والمجاعات والأمراض والتشرد، جميعها، تحدث صدمة ليس من السهل التعافي منها، وتنتج حالة من القهر النفسي وعدم الثقة والخوف وصراعات نفسية وانهيارات عصبية وعجز عن تغيير معادلة الحرب إلى السلام واختفاء الإبداع والتطور الفكري. هذا فضلا عن ذلك المشقة التي يتجرعها اللاجئون للوصول إلى أوروبا. إنها حقا رحلة الهروب من الموت إلى الموت، فعبور الحدود سيرا على الأقدام لمدة أيام غير مقبولة عقلا لكنها الحقيقة.
المقترحات :
أولاً/ سرعة البث في قضايا اللاجئين وإيجاد الحلول اللازمة للحد من بيروقراطية المكاتب.
ثانياً/ رفع القيود التي وضعتها السلطات الألمانية مؤخرا على قرار لم الشمل لما في ذلك من عدم إسهام في تنفيذ سياسة الاندماج الاجتماعي.
ثالثاً/ إعادة التأهيل النفسي للاجئين القادمين من دول الاحتراب كسوريا والعراق واليمن وأفغانستان وغيرها، حتى لا يقع هذا الشباب تحت تأثير الجماعات الإرهابية المتطرفة ولا شك أن لألمانيا معرفة بأثر الحروب النفسية، فما زال هناك من الألمان من يعانون حتى اليوم من آثار نفسية جراء الحرب العالمية الثانية.
رابعاً / توفير الرعاية الكافية للمرأة اللاجئة ولأطفالها باعتبارهم الأكثر عرضة للعنف الأسري.
خامساً/ بذل المزيد من الجهد في البحوث المتقدمة بعلم الإجرام وعلم النفس الجنائي وبقية العلوم المتعلقة بالسيكلوجية الإجرامية.
أخيراً وليس آخرا
هل ستشهد ألمانيا مزيداً من الأمن على حساب الحرية!!! وهل سيقبل الشعب الألماني التنازل عن بعض حريته مقابل المزيد من الأمن!!! هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمات ...
وفاء عبد الفتاح إسماعيل
حقوق النشر: موقع قنطرة 2016
وفاء عبد الفتاح إسماعيل محامية ولدت في 22 ديسمبر/ كانون الأول عام 1970في مدينة عدن اليمنية، وتعيش أيضاً في ألمانيا. وهي مدرّسة في كلية الحقوق بجامعة عدن ومحامية مترافعة أمام المحكمة العليا وعضوة مؤتمر الحوار الوطني اليمني الشامل.