كثرة الحديث ومحدودية الفعل
قرأت وثيقة الإسكندرية الصادرة في الرابع عشر من مارس/آذار الماضي مرات عدة وحاولت عند بداية كل مطالعة أن أمرر إلى عقلي متأثراً بسياق النقاش العام حولها, خاصة المصري, قناعة أنها مبهرة ولم أنجح. قررت في النهاية الانتقال إلى المعالجة النقدية والبحث عن مواضع الاضطراب في صياغات المثقفين ونشطاء المجتمع المدني العربي حول قضايا الإصلاح ليس بهدف الانتقاص أو الإحباط بل لداعي التطوير في أمر يتعلق بمصيرنا جميعا.
ويأذن لي القارئ الكريم بتركيز الحديث في أربعة سياقات أراها رئيسية ويمكن التعبير عنها مبدئياً من خلال الصياغات التالية؛ التكرار ومعضلة الفاعل المجتمعي وحديث الخصوصية وحتمية النقلة النوعية.
فهناك من جهة مشروعية للتساؤل عن ماهية جديد الإسكندرية.
منذ سبعينيات القرن الماضي والفكر العربي المعاصر منشغل بإمكانات وشروط التنمية المستدامة في ظل تحول ديموقراطي. وتكاد العبارات والجمل المستخدمة في الوثيقة أن تتطابق حرفياً مع المتداول في العقدين الماضيين من رؤى حول التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في عالمنا, ذلك إذا ما استثنينا لفظة الإصلاح التي حلت في الآونة الأخيرة محل مفاهيم من شاكلة التقدم والتطور والديموقراطية والمجتمع المدني كبؤرة محورية لملامح المستقبل العربي الأفضل.
المشكل هنا هو أن حقيقة استعصاء واقع مجتمعاتنا على التغير واستمرارية أزماتها الشاملة قد أفقد القول بحتمية "بناء نظم ديموقراطية" و"إنجاز التقدم" و"تطوير ثقافة عقلانية معاصرة" الجزء الأكبر من مصداقيته بمعنى الفاعلية وجعل من الدفع "بالتاريخ الحضاري العريق لشعوب المنطقة" و"مستقبلها الواعد" درب من دروب التحايل على الواقع إما باتشاح عباءة التفكير الماضوي أو أسر العقل لخيالات غد متوهم.
وربما نقلت العبارة العامية المصرية "أسمع كلامك أصدقك أشوف أمرك أستعجب" هذا الانطباع الأولي الذي تولد لدي حين قراءة الوثيقة في باب التناقض بين جميل القول وغياب الفعل المتسق معه, بل ربما أمكن إعادة صياغة العبارة السابقة تماشياً مع الواقع العربي المعاصر على النحو التالي: أسمع كلامك لا أصدقك ولا أنتظر من أمر حكومتك الكثير.
أعلم تماماً أن المثقف لا يملك تنفيذ رؤاه للإصلاح ويبحث دوماً عن الفاعل القادر على إنجاز عملية تحويل الفكر إلى واقع, ولكن يستفزني تجاهل البون الشاسع بين المرغوب به وحدود الاستجابة له في السنوات الماضية والدروس التي ينبغي استخلاصها في هذا السياق. لا يحد رفع سقف الاستحقاقات المجتمعية من شاكلة النص على وجوب تعديل الدساتير العربية وإلغاء قوانين الطوارئ وتطوير نمط العلاقات الأسرية من اضطراب وثيقة الإسكندرية هنا بأي حال من الأحوال, بل يزداد الأمر سوءاً عندما يتواكب تغييب الخبرات الفعلية مع نظرة غير واضحة لطبيعة الفاعل المنوط به تحقيق التغيير في السنوات القادمة.
تشدد وثيقة المؤتمر في مواضع مختلفة على الشراكة بين الحكومات العربية وحركات المجتمع المدني كقوة الدفع الأساسية للإصلاح في بلادنا, وهو أمر في ذاته محمود يتماشى مع الإدراك العالمي لأهمية دور القوى غير الرسمية من جهة ويعبر عن الإيمان بمحدودية قدرة الفاعل الرسمي من جهة أخرى.
لكن حديث الشراكة هذا يصمت عن عدد من الإشكاليات المحيطة بدور الحكومات والمجتمع المدني على نحو مريب.
فجل الفاعلين غير الحكوميين يفتقد في ممارساته الديموقراطية الداخلية (يبقى رؤساء المنظمات غير الحكومية في الأغلب الأعم في مواقعهم حتى يحين ظرف الرحيل الطبيعي) ويعاني من محاولات استقطاب دولانية متعاقبة ومن غياب التجذر في الواقع المجتمعي, إذا ما استثنينا القوى الدينية بشقيها المعتدل والراديكالي, فضلاً عن فساد بين في بعض الحالات.
لا تعدو رؤى منظمات حقوق الإنسان وتمكين المرأة في العالم العربي من أن تكون بمثابة خطابات متخصصة لا تفهمها إلا الأقلية المثقفة - المنتجة لها بالأساس - ولا تصل إلى السواد الأعظم من المواطنين, فكيف لها أن تساهم بفاعلية في جهود الإصلاح. أما الحكومات ومع التسليم بمحورية دورها - فالرؤية الصراعية لعلاقة الدولة بالمجتمع والراغبة في التغيير رغماً عن أنف الأولى ليست واقعية ولم تأت في حالتنا العربية بأية نتائج ملموسة – فتعامل في وثيقة الإسكندرية معاملة الذئب البريء من دم يوسف.
هل يشكل الضغط الخارجي والمعبر عنه بالمقولة المتواترة في الفترة الأخيرة "الإصلاح قادم لا محالة فلنبادر به" عاملاً كافياً لتحويل توجهات الفاعل الرسمي من الرغبة في تحول مقيد في أحسن الأحوال إلى ولوج في معترك الديموقراطية الفعلي بمضامينه المركزية المتمثلة في تداول السلطة والفصل الوظيفي بين الديني والعام واعتماد الإنجاز كمصدر لرضاء المواطن عن الدولة أي شرعيتها. وإن جاءت إجابتنا على هذا السؤال بالنفي فمن أين لنا أن نأت بمصادر بديلة لدفع الحكومات العربية في طريق الإصلاح أخذاً في الاعتبار أنها تمرست على التعاطي مع ضغوط الداخل - وهي محدودة في جميع الأحوال - وتقود مجتمعات مازالت ثقافتها السياسية تبحث عن الدولة الأب وتمجد البطل المنقذ, إلا إذا افترضنا أن النخب الحاكمة قد وصلت على وقع محدودية نجاحاتها في الماضي ومن خلال عمليات متتالية من النقد الذاتي إلى درجة من التجرد تسوقها إلى التنازل طواعية عن هيمنتها لخدمة الصالح العام!
أدرك أن المثقف العربي لا يملك إلا رفض التدخل من الخارج كمفتاح أوحد للتغيير ولا يستطيع إزاء محدودية فعل القوى غير الرسمية إلا تمني إصلاح الدولة من خلال الدولة وبالتبعية تمكين المجتمع, ولكن لا ألتمس العذر لغياب المعالجة.
الأخطر من ذلك أنه حتى عند افتراض إمكانية تحقق شراكة الإصلاح بين الحكومات والمجتمع المدني فإن المجتمعين في الإسكندرية قد سكتوا عن شروط هذه الشراكة أو بعبارة أخرى ميثاقها الأخلاقي الذي يحدد حين التوافق حوله كعقد بين الطرفين معايير الضم والاستبعاد بمعنى ماهية أعضاء هذا التحالف الجديد وطبيعة التزاماتهم وشروط حماية الأضعف أو المجتمع المدني من بطش الأقوى أو الحكومة إن تبدلت المواقف والظروف.
يرتب "رفض الوصاية من الخارج" والرغبة في "صياغة رؤية عربية للإصلاح نابعة من الذات" على صعيد ثالث تواتر الإشارة في وريقات الوثيقة الثمانية عشر إلى مفهوم "خصوصية الإصلاح" في عالمنا بمعنى تفرد حالة المنطقة ككل وتمايز خبرات الدول العربية إذا ما قورنت ببعضها البعض على نحو يجعل من مبادرات الخارج في أحسن الأحوال مشاريع منقوصة وفي أسوأها مشبوهة.
وبغض النظر عن مدى دقة الدفع بتميز خبرتنا عن بقية أقاليم العالم وحدود الفروق العربية-العربية, فإن مأزق التشديد على الخصوصية هنا يتمثل في إمكانية استحالته خطاب اعتذاري يروم صيانة التخلف والحفاظ على الجمود بدعوة التفرد الثقافي (الديني بالأساس) أو التاريخي (الاستعمار والصراع العربي-الإسرائيلي) أو كلاهما معاً.
يرتبط السياق الرابع والأخير لمعالجتنا هذه بالحقل الدلالي لمفهوم الإصلاح ذاته وحظوظه من النجاح في واقع وظرف إقليمي يتسما بكل خصائص الأزمة وإزاء جماهير عربية مشتتة ومحبطة. هل يشبع الإصلاح كبديل للثورة يركز على تدرجية التغيير رغبات شعوبنا التي سئمت أوضاع مجتمعاتها؟
ربما كانت إجابة وثيقة الإسكندرية الرئيسية هي تحويل الإصلاح إلى مشروع راديكالي من خلال, كما ذكرنا أعلاه, رفع سقف المطالب المجتمعية, ولكن يظل التأكيد على حتمية القفزات النوعية إلى الأمام لإقناع غالبية المواطنين بإمكانية المستقبل الأفضل غائب عنها. فقد تصلح التدرجية لبرامج الأحزاب في الديموقراطيات المستقرة خاصة المتقدمة منها.
أما في حالتنا فلا مناص من مساحة من الثورية في الفكر والواقع. كثرة الحديث ومحدودية الفعل تفرض شعور بالرتابة السياسية لا يتناسب مع جو الإصلاح ويقتضي تعديل الموازين التخلي الجزئي عن خطوط السير التقليدية حتى وإن كانت صالحة. فالأغلبيات العربية الشابة لن تقبل بالانتظار عقود ثلاثة إضافية لإنجاز التحول الديموقراطي والتنمية.
كاتب هذا المقال مدرس بقسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة
صدر المقال في صحيفة الشرق الأوسط ونعيد نشره بالاتفاق مع الكاتب