لماذا تنجح موجات احتجاجية وتفشل أخرى؟

تظاهرة ضد اليمين المتطرف.
الاحتجاج يوحد الناس في جميع أنحاء العالم. هؤلاء المحتجون لا يريدون الإطاحة بنظام، ولكنهم يتظاهرون ضد اليمين المتطرف بمدينة أولم الألمانية في 5 أكتوبر/تشرين الأول. صورة: Picture Alliance | C. Schmidt

يخرج الناس للاحتجاج في الشوارع ليس فقط ضد الديكتاتوريات، بل في الأنظمة الديمقراطية أيضا. يحلّل الباحث السياسي طارق صديق في كتابه الجديد كيفية تطوَّر الاحتجاجات في القرن الحادي والعشرين.

الكاتبة ، الكاتب: أوميد رضائي

نادرًا ما نسمع عن الاحتجاجات التي تحقق أهدافها وتحدث تغييرات جذرية. وبدلا من ذلك، تنتشر التقارير والأخبار حول فشل حركات الاحتجاج، التي غالبًا ما تُقمع بعنف لدى الأنظمة السلطوية مثل سوريا أو السودان، وكثيرًا ما تذهب شيئًا فشيئًا أدراج الرياح لدى الأنظمة الديمقراطية مثل ألمانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية. صدر كتاب صديق باللغة الألمانية في الثالث والعشرين من سبتمبر/أيلول 2024، تحت عنوان "ثقافة الاحتجاج الجديدة - استيلاء، لصق، إضراب: النضال من أجل المستقبل".

غالبا ما تُنقل أخبار الاحتجاجات بنوع من الإثارة، مثلما حدث مع الاحتجاجات النسوية في إيران عام 2022، وغالبا يتم ذلك دون مراعاة السياق السياسي والاجتماعي. يجادل طارق صديق في كتابه بعكس ذلك؛ فوفقا لنظريته، تتأثر الاحتجاجات الجديدة بشدة في بنيتها وتنظيمها وتأثيرها بظروف عصرها الاجتماعية والسياسية والتقنية، بحيث لا يعتمد نجاحها على قدرة المحتجين على التصرف بقدر ما يعتمد على العوامل الخارجية. 

طارق صديق، فتى وسيم صغير السن.
الباحث في مجال الاحتجاجات طارق صدّيق يجري بحثًا في مركز أبحاث النزاعات في جامعة فيليبس ماربورغ. صورة: Promo/Ali Kanaan

وبالقدر نفسه، يشكل رد فعل المستهدفين بالاحتجاج عاملا حاسما. يقول صديق، إن إحداث التغيير الحقيقي يتطلب تحرك العديد من الأدوات في وقت واحد. وغالبًا ما يكون إدراك طبيعة الأحداث أكثر أهمية من الحدث نفسه، ويتضح ذلك عند النظر إلى دور وسائل التواصل الاجتماعي في الموجات الاحتجاجية، كما يرى صديق. 

فقد فشلت العديد من الحركات الاحتجاجية بسبب عقبات سياسية رغم إبداعها، مما أدَّى إلى خيبة أمل عالمية، بحسب تعبيره. ومع ذلك، فهو يشير إلى أن أنَّه لا ينبغي التسرُّع في وقف الاحتجاجات، لما تتركه من تأثير أيضا؛ فهي تخلق شعورًا بالتكاتف وتعلم المحتجين دروسا قيمة.

في عدة فصول، يسلط صديق، الضوء على الحركات الاحتجاجية، بدءًا من العصيان المدني الذي نفذته النساء الإيرانيات الرافضات للحجاب الإلزامي، إلى الاحتجاجات من أجل الديمقراطية في هونغ كونغ، ويربطها بأمثلة تاريخية مثل حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية.

ما هو الاحتجاج؟

يبني صديق فهم الاحتجاج تدريجيا، بدءًا من مفهوم الاحتجاج السياسي والعصيان المدني. ويسلط الضوء على أصول الحركات الاجتماعية في حركة الحقوق المدنية الأمريكية وتطورها على مر العقود. وبذلك، يُبيِّن أنَّ الاحتجاجات بالرغم من أنَّها ليست ظاهرة جديدة، لكن يجب عليها دائمًا أن تتكيف مع الظروف الاجتماعية المتغيرة.

وينظر صديق إلى الاحتجاج كوسيلة تعبير سياسي متعدِّدة الجوانب عززتها تكنولوجيات مثل الإنترنت. ففي عام 2011، اعتبر الكثيرون أن الإنترنت لعب دورا محوريا في الربيع العربي. وعلى الرغم من أنَّ صديق يؤكِّد أنَّ الإنترنت قد فتح مساحة رقمية كبيرة للاحتجاجات، إلا أن التكنولوجيا برأيه "نادرًا ما تغيِّر قواعد اللعبة بشكل دائم". 

بإمكان التكنولوجيا منح المتظاهرين ميزة قصيرة المدى إذا سيطروا عليها بشكل أفضل من الدولة. ولكنهم لا يستطيعون على المدى الطويل مواكبة ميزانيات الدول وبنيتها التحتية الكبيرة. ويترك تحليل صديق، السؤال مفتوحا حول مدى فاعلية أشكال الاحتجاج الجديدة، مثل النشاط الرقمي، على المدى الطويل.

تظاهرات ميدان التحرير بالقاهرة في مصر.
هذا الاحتجاج دخل التاريخ: الحشود في ميدان التحرير بالقاهرة في اليوم التالي لسقوط حسني مبارك في فبراير/شباط 2011. الصورة: Picture Alliance / AP | M. Deghati

يوضح صديق، مستندا إلى العديد من الدراسات والأمثلة التاريخية، أنَّ الاحتجاجات غير العنيفة لديها فرصة أكبر لإقناع الأغلبية وفرض إرادتها في نهاية المطاف. ومن المثير للاهتمام بشكل خاص تفكيره في التناقض بين الاحتجاجات العفوية والحركات المنظمة تنظميًا جيدًا. ولا تغيُّر الاحتجاجات موازين القوى السياسية، ولا تقدِّم أية فكرة واضحة عن كيفية تطوُّر الأغلبية والأمزجة في البلاد. 

ومع ذلك فإنَّ السياسة تتفاعل معها جزئيًا. وتتحرَّك الاحتجاجات بين جميع المؤسسات السياسية مثل البرلمانات والنخبة أو الاستفتاءات التمثيلية، كما يقول طارق صديق.

ثقافة العصيان المدني في إيران

من الأمثلة الخاصة التي تطرق إليها الكتاب هو الاحتجاج المستمر في إيران ضد فرض الحجاب. وينصب تركيز طارق صديق التحليلي هنا على ديناميكيات الحركات الاحتجاجية التي تعمل وسط قمع شديد، ورغم ذلك تطوِّر قدرة قوية على المقاومة.

تعد الاحتجاجات في إيران شكلا من أشكال العصيان المدني المتجذِّر بعمق في ثقافة البلاد، وفق صديق. إذ يؤدِّي خلع الحجاب في الأماكن العامة إلى هز صورة الدولة القوية وتشكيك في شرعيتها؛ لأنَّ قوات الأمن وإنفاذ القانون في إيران غير قادرة على فرض القانون في جميع المجالات.

تجمع الناس خلال تجمع احتجاجي في طهران عام 2022. بدأت الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد بعد وفاة مهسا أميني، وهي فتاة تبلغ من العمر 22 عامًا توفيت أثناء احتجازها لدى شرطة الآداب في الجمهورية الإسلامية الإيرانية في طهران، إيران، في 16 سبتمبر/أيلول 2022.
جانب من احتجاجات سبتمبر/أيلول 2022 في إيران: البلد الذي لديه باع طويل في العصيان المدني. الصورة: Picture Alliance / Middle East Images

يرى الكاتب أن الاحتجاجات الجماهيرية التي اندلعت عام 2022 في عموم إيران اعتمدت على العصيان المدني في السنوات التي سبقتها، وربما يعود الفضل في حجم تلك الاحتجاجات إلى هذا العصيان. وتعد أطباق الأقمار الصناعية المنتشرة في كل مكان، خير مثال على نجاح العصيان المدني في إيران؛ إذ أنها باتت تباع وتشتري وتستخدم على نطاق واسع رغم حظرها رسميًا، كما يكتب طارق صديق.

يتوقع صديق أنَّ استمرار العصيان يمكن أن يؤدي إلى حركة جماهيرية جديدة في غضون خمسة إلى عشرة أعوام، حتى وإن تم إخماد احتجاجات الشوارع في البداية وبقي الحجاب إلزاميا.

ألمانيا.. الفوز للأغلبية!

تثير ثقافة الاحتجاج في ألمانيا، أيضا اهتمام طارق صديق بشكل خاص في سياق تنامي التطرف اليميني. ويحلّل الاختلافات بين الحركات الاجتماعية في ألمانيا والديمقراطيات الغربية الأخرى، مستندا إلى المظاهرات التي عمت ألمانيا ضد اليمين في يناير/كانون الثاني، وفبراير/شباط 2024.

وعلى الرغم من المزايا الهيكلية للديمقراطية الراسخة فإنَّ طارق صديق يرى فيها أيضًا تحديات، وذلك بشكل خاص بسبب الطبيعة المجزأة في أغلب الأحيان لحركات الاحتجاج ضد التطرف اليميني في ألمانيا. ويتناول المؤلف أسئلة مثل، كيف يمكن أن تنبثق حركة اجتماعية من الاحتجاجات، وما التأثير الذي يمكن أن تحدثه هذه الحركات على السياسة في نهاية المطاف.

ووفقا لصديق، فإنَّ الاحتجاج الذي يفشل في إقناع الأغلبية تقل احتمالية نجاحه. ومع ذلك، فإنَّ الحركة التي لا تصبح راديكالية أكثر من اللازم ويستمر نشاط الفاعلين فيها على الرغم من كل المقاومة، لديها فرصة لتغيير المجتمع المدني والسياسة على المدى الطويل.

ثورة وثورة مضادة في السودان

يستشهد صديق بالاحتجاجات في السودان التي أدت إلى الإطاحة بالديكتاتور عمر البشير في عام 2019، كمثال على حركة ثورية ناجحة في البداية سرعان ما تم تهميشها. ويصف في الكتاب، الأحداث الدرامية التي أفضت إلى الحرب، ويبيِّن كيف احتفظ المجتمع المدني بدور مركزي على الرغم من عدم الاستقرار السياسي.

ويوضح الكاتب أنَّ المحتجين في السودان تمكنوا مرارًا وتكرارًا من تحقيق نجاحات، منها على سبيل المثال تحرير قانون الصحافة ومنع القوانين المعادية للنساء وأخيرًا وليس آخرًا إسقاط الديكتاتور. ولكن مع ذلك لم تتمكن المعارضة في السودان من تحقيق مشروعها السياسي الأساسي، أي التحوُّل الديمقراطي، وهذا في رأي طارق صديق لا يعود فقط إلى طموح الجنرالات الذين يتقاتلون منذ نيسان/أبريل 2023، بل يعود أيضًا إلى انقسام المعارضة. وبحسب نظرية صديق، كلما أصبحت المطالب ملموسة، زاد انقسام المعارضة.

Sudanese protesters march during a demonstration in Khartoum, Sudan.
استمرت الاحتجاجات لسنوات، لكن البلاد غرقت في النهاية في الحرب. جانب من الثورة السودانية في أغسطس/أب 2019. الصورة: Picture Alliance/AP

يضيف صديق أنَّ النشاط في أوقات الأزمات لا يعني كثير من الأحيان التظاهر، بل يعني، على سبيل المثال، إنقاذ الجيران. ويبيِّن كيف يتولى حاليًا المجتمع المدني في السودان مهامًا تعتبر في الواقع من واجب الدولة، مثل تأمين الرعاية الصحية. ويحافظ المجتمع المدني خلال ذلك على شبكاته وينتظر اللحظة المناسبة. أما إذا ما كانت الحركة ستناضل مرة أخرى من أجل التحول الديمقراطي بعد انتهاء الحرب في السودان، فهذا يتوقف برأي الكاتب على رد فعل الجنرالات في المستقبل.

رد الفعل العالمي العنيف

في نهاية الكتاب، يتناول طارق صديق القمع المتزايد ضد الحركات الاحتجاجية في جميع أنحاء العالم. ويبيِّن أنَّه في كثير من الحالات تُقمع الاحتجاجات بعنف أو يتم التشهير بها. على وجه الخصوص في أنظمة الحكم الفردية الاستبدادية، يتضح أنه على الرغم من أن الحركات الاحتجاجية يمكنها تحقيق تغييرات اجتماعية، لكنها غالبًا ما تكون غير قادرة على اختراق هيكل السلطة القائم.

وعند النظر إلى "رد الفعل العالمي العنيف"، يتمنى القارئ لو أُجري في الكتاب تحليلا أكثر عمقا للتضامن والتعاون بين مختلف الحركات الاحتجاجية، وأيضًا لإظهار الحركات الاحتجاجية التي يتم تعزيزها أو عرقلتها. كما أنه ليس واضحا ما إذا كانت الحركات الاحتجاجية ستلعب دورًا أكبر في عمليات صنع القرار السياسي في المستقبل أم أنَّها ستتعرض أكثر للتهميش مع تزايد أعمال القمع.

غلاف كتاب "ثقافة الاحتجاج الجديدة" لطارق صديق
الصورة: غلاف الكتاب الصادر عن دار هانسربلاو

ومع ذلك، يوضح صديق أنه على الرغم من التقدم التكنولوجي، لا تزال الحركات الاحتجاجية الحديثة تعتمد بشكل كبير على الظروف السياسية ومدى التفاعل معها. هذا الكتاب يأتي في الوقت المناسب تمامًا، وتكمن قوته في كيفية جمعه وتحليله لحركات الاحتجاج المتنوعة التي عادة ما تناقش بمعزل عن بعضها البعض في ألمانيا. 

ترجمة: رائد الباش

كتاب طارق صدّيق: "ثقافة الاحتجاج الجديدة - استيلاء، لصق، إضراب: النضال من أجل المستقبل"

 

 قنطرة 2024