ثورة شعبية لبنانية تحت شجرة عيد الميلاد
تضفي كلَّ عام سلاسلُ أضواء عيد الميلاد ودُمى غزالة الرنة وأشجارُ عيد الميلاد طابعًا خاصًا على مدينة بيروت خلال فترة عيد الميلاد، سواء في الأحياء والمناطق المسيحية أو الشيعية أو الدرزية. فيسوع [عيسى بن مريم] المسيح ليس للمسيحيين وحدهم، مثلما يقول الكثيرون هنا. ولكن عيد الميلاد هذا العام فَقَدَ بريقه في بيروت. الناس تشغلهم أشياء أخرى. فقد أدَّى الوضع الاقتصادي المتدهور باستمرار إلى قلب الأجواء الاحتفالية التي سادت الاحتجاجات في شهري أكتوبر/تشرين الأوَّل ونوفمبر/تشرين الثاني 2019.
صحيح أنَّ متاجر بيروت ومحلاتها تزخر في عروضها مثل كلِّ عام بمئات من كرات عيد الميلاد والزينة المبهرجة وأشجار عيد الميلاد البلاستيكية وبابا نويل بجميع الأشكال والأحجام. ولكن المبيعات بطيئة. يقول شخص عابر سبيل كبير في السنّ: "يجب علينا في هذا العام أن نجبر أنفسنا على الدخول في أجواء عيد الميلاد".
حتى الزخارف القليلة في الشوارع تبدو خالية من المشاعر. يقول زوجان يُقلبان سِلَع عيد الميلاد في متجر بوسط المدينة: "هذه أوَّل مرة تكون فيها الأجواء في لبنان بعيدة عن عيد الميلاد. حتى وإن كنا نشعر بالفرح، فنحن نشعر بالذنب لأنَّ هناك آخرين فقدوا كلَّ شيء بسبب الأزمة الاقتصادية".
شجرة عيد الميلاد كـ "نموذج توفير"
وعلى الرغم من كلّ ذلك فقد أُقيمت قبل بضعة أيَّام أوَّل شجرة عيد ميلاد صغيرة في ساحة الشهداء في بيروت. وهي شجرة صنعت بطريقة يدوية من قارورات بلاستيكية مفتوحة. "بسبب الوضع الاقتصادي، لا يمكن فعل شيء آخر"، مثلما تقول امرأة وهي تعلّق للتوّ على الشجرة قطعةً بلاستيكية أخرى لولبية الشكل.
وفي المقابل تتألَّقُ في ساحة النور - الساحة الرئيسية في طرابلس شمال لبنان - شجرةُ عيد الميلاد بكامل زينتها، ليس في وسط الساحة، ولكنها زُيِّنت بألوان العلم اللبناني: الأحمر والأبيض تتوسَّطهما شجرةُ أرز خضراء. وإذا سألنا حول ذلك أهالي طرابلس الحاضرين هنا فسيقولون إنَّ الشجرة ترمز قبل كلِّ شيء للاحترام المتبادل بعيدًا عن جميع الطوائف والمذاهب. ومن أجل جمع المال لشراء الشجرة فقد تبرَّع معظم المتظاهرين ببعض المال. وتم تزيينها من قبل نساء مسلمات - في عمل عفوي.
هذه أوَّل مرة تنتصب فيها شجرة عيد الميلاد في الساحة الرئيسية في هذه المدينة ذات الأغلبية السُّنِّية. ولكن الناس الذين يستمِدُّون إلهامهم من الثورة اللبنانية - المعروفة أيضًا باسم "ثورة" - "كسروا حواجز الخوف بينهم وبين النخبة الحاكمة"، مثلما يقول عبد الرحمن، وهو متظاهر في بداية العشرين من عمره.
شجرة عيد الميلاد في ساحة النور، بجانب كلمة "الله" المكتوبة بحروف كبيرة مضاءة بألوان زاهية في وسط الدوَّار المروري - هذا عمل لم يكن من الممكن تصوُّره في العام الماضي (2018). فقد كان الخوف كبيرًا جدًا من أن تُفهم شجرة عيد الميلاد على أنَّها بِدْعَةٌ تخالف المُعتقدات السُّنِّية. ولكن مع ذلك، يقول عبد الرحمن: "الله ليس للمسلمين وحدهم، بل هو للمسيحيين وللجميع".
ساحة النور - مركز الثورة
لقد كانت سمعة طرابلس حتى وقت قريب سيِّئة. غير أنَّ مدينة طرابلس كانت معروفة في الصحافة الدولية وكذلك في الصحافة اللبنانية بالصراعات الطائفية والتطرُّف. ونتيجة لذلك فإنَّ الكثيرين من أهالي بيروت لم يطؤوا طرابلس التي تعدُّ ثاني أكبر مدينة في لبنان. ولكن منذ السابع عشر من تشرين الأوَّل/أكتوبر (2019)، منذ بداية الاحتجاجات، باتت طرابلس تتصدَّر العناوين الإيجابية.
لقد أظهر للعالم في المقام الأوَّل شريطُ فيديو مدَّته ثلاثون ثانية أنَّ وجه طرابلس الحقيقي يختلف عن سمعتها. ففي الليلة الثالثة من الاحتجاجات الجماهيرية المعارضة للحكومة في شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر (2019)، تحوَّلت ساحة النور في وسط طرابلس إلى احتفال راقص، أشعله دي جي من شرفة مبنى مهجور. انتشر هذا الفيديو بسرعة البرق. أصبحت طرابلس قلبَ الثورة، ورمزًا يرمز للغضب من سياسة حكومة سعد الحريري، لذي يُمثِّل أهلُ طرابلس في العادة ناخبيه التقليديين.
وساحة النور المزدحمة في أغلب الأحيان، مغلقةٌ الآن أمام حركة المرور حتى إشعار آخر. تم تزيين واجهات المباني المحيطة بساحة النور بألوان العلم اللبناني. وفي الوقت نفسه فقد أثبتت طرابلس في الأسابيع الأخيرة أنَّها المدينة الأكثر سلمية في لبنان خلال الاحتجاجات، على الرغم من أنَّ الناس في أي مكان آخر داخل لبنان لا يعانون كثيرًا مثلما يعاني الأهالي هنا في طرابلس من الحكومة والأوضاع الاقتصادية. يقول عبد الرحمن: "ليس لدينا ما نخسره. لا توجد لدينا مستشفيات ولا نقود ولا عمل ولا دولة".
جميعنا لبنانيون
"عيسى المسيح هو نبي مهم جدًا بالنسبة لنا نحن المسلمين. إنْ كنتَ مسلمًا ولا تؤمن بيسوع المسيح، فأنت لست مسلمًا. نحن نحبُّ شجرة عيد الميلاد"، مثلما تقول المتظاهرة الشابة نجاح قبل أن تبدأ بغناء أغنية احتجاج وذراعاها متشابكين مع ذراعي متظاهرين آخرين، تقول فيها: "من أين أنت؟" - فيردُّ عليها رفاقها: "أنا من هنا". وهذا ما تسعى إليه معظم الاحتجاجات؛ إذ لم يعد الناس يريدون أن يكونوا منسيِّين ومُهْمَلين.
"عندما أقول إنَّني من طرابلس، يعتقد الجميع على الفور أنَّني سُنِّية من أنصار الحريري. كذلك يتم على الفور تصنيف أي شخص من جنوب لبنان على أنَّه شيعي من أنصار حزب الله. يجب أن يتوقَّف ذلك. قبل الثورة كُنّا مقسَّمين إلى سُنَّة وشيعة ومسيحيين وأحزاب، أمَّا الآن فنحن واحد. نحن جميعنا من هنا".
بعدما سألتُ مجموعة الشباب المحيطين بعبد الرحمن ونجاح عن آمالهم، أجابوني: "نهاية الفساد ودولة علمانية". وقالوا إنَّهم يعتقدون أنَّ الشيوخ والزعماء الدينيين يزرعون "الفتنة".
الدين كغطاء لألعاب السلطة السياسية
يأتي الشيخ محمد شعبان، وهو إمام في مسجد مجاور، إلى الساحة كلَّ يوم "ليكون مع الناس ويُجيبهم على أسئلتهم عندما يحتاجون إلى مساعدة". يجلس في خيمة صغيرة مرتديًا جبَّته الرمادية على كرسي بلاستيكي وينتظر قدوم المحاورين. يتَّفق الشيخ محمد شعبان في موضوع الفساد المُتفشي مع المتظاهرين الشباب، ويقول: "لا يوجد أمن ولا عدالة، بل سياسيون فاسدون فقط". ويضيف أنَّه يتمنى في المستقبل وحدة الشعب اللبناني والعدالة - بصرف النظر عن الدين.
وحول شجرة عيد الميلاد يقول: "أهلًا وسهلًا! الناس يقتربون من بعضهم بفضل الثورة، حتى خارج الحدود الدينية. يوجد لدينا ’شعور النحن‘ الجديد". ولكنه لا يوافق على أنَّ الدين مسؤول جزئيًا عن الوضع الحالي.
"لم يكن للفساد والحروب في العقود الأخيرة علاقة بالدين. بل كان الأمر يتعلق دائمًا بسياسيين جشعين. الشباب المعارضون للشيوخ ورجال الدين لا يفهمون حتى الآن أنَّ الدين ليس المشكلة. السياسيون يستخدمون الدين كغطاء لإثارة الكراهية. ولكن الدين يعلمنا أَلَّا نقتل، يعلمنا السلام".
الاحتفال سويةً بالمولد النبوي
ولهذا السبب بالذات فقد شارك قسيس الأرثوذكس اليونان الأب إبراهيم سروج من طرابلس في الاحتفال بمولد النبي محمد خلال الأيَّام الأولى من الاحتجاجات في طرابلس. حيث وقف في العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر (2019) هو وبعض الشيوخ على شرفة المبنى المهجور، التي كان يُحَمِّس منها "الدي جي" حشود المتظاهرين قبل شهر.
لم يفهم الجميع لماذا كان إبراهيم سروج يقول كلمات جميلة عن رسول المسلمين. سأله الكثيرون لماذا يشيد ويمدح بالنبي محمد مع أنَّه ليس مسلمًا. وحول ذلك يقول: "لقد قلت لهم كيف يمكنكم أن تطرحوا مثل هذا السؤال؟ هل يُفترض بي أن أُهينه؟ أنا أحترم دينكم ورسولكم".
يشعر القسيس الأب إبراهيم سروج بالشكر والامتنان للمسلمين لأنَّهم أقاموا شجرة عيد الميلاد. وهو يعرف وَجْهَي طرابلس جيدًا. وبحكم عمله مديرًا لـ "مكتبة السائح" الشهيرة في طرابلس -الكائنة في مبنى متداعٍ فيه كتبٌ مُكدَّسة حتى السقف- فإن له زبائن من جميع الأديان. يتميَّز لبنان بتعايش مختلف الطوائف الدينية في مساحة صغيرة.
ولذلك عندما يحتفل المسلمون بعيد الميلاد، فإنَّ هذا - من حيث المبدأ - أمرٌ طبيعي. ولكن من حيث المبدأ فقط: وذلك لأنَّ المتطرِّفين ينجحون مرارًا وتكرارًا في تقويض الأصوات المسالمة، حتى وإن كانوا لا يمثِّلون سوى أقلية.
قام في طرابلس أيضًا ليلة السابع عشر من كانون الأوَّل/ديسمبر 2019 أشخاصٌ مجهولون بحرق شجرة عيد ميلاد أخرى كانت منصوبة على الدوَّار المروري بالقرب من مستشفى النيني. وعلاوة على ذلك فقد تعرَّضت غرفة أمن منزل الشيخ مالك الشعَّار، مفتي طرابلس، للاقتحام والتحطيم. وحتى الآن لا يزال من غير المعروف إن كان هذان العملان مرتبطين ببعضهما.
ولكن بعد ذلك تم استبدال شجرة عيد الميلاد المحروقة بشجرة أخرى. وبحسب ما ذكره البعض في مدينة طرابلس فإنَّ هذه الشجرة الجديدة أجمل بكثير من الشجرة السابقة.
حنا ريش
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019