شهود يهوه فرقة مسيحية لا تعترف بالأراضي المقدسة
وسط موسم أعياد الميلاد، غابت شجرة العيد وبابا نويل وأيُّ ملامح مسيحية معهودة، وغابت الكنائس والأديرة ولا أثر للرهبان والقساوسة. فرع وسط أوروبا لشهود يهوه واسمه "شهود يهوه زيلترز" يعمل خلافاً لكل العالم المسيحي. يطلق عليها مُنشِئُوها مملكة "بيت إيل" (وتعني بيت الرب باللغة العبرية) وتستقر في رقعة اسمها "زيلترز" تابعة لمنطقة تاونوس وسط ألمانيا.
هنا تنتشر مجموعة مبانٍ أنيقة حديثة ضخمة تضم مطبعة أوفسيت عملاقة وثلاثة مجمعات سكنية، ومحطة عملاقة لغسيل وكي الملابس، ومرآب كبير لتصليح السيارات، ومحطة لتعبئة الوقود، علاوة على قاعات للمحاضرات والاجتماعات تعمل كلها لخدمة شهود يهوه عبر العالم.
في هذ ا الفرع يعمل 800 رجل وامرأة، ولا وجود للأطفال هنا، فالجميع مطلوب منهم العمل ليعيشوا، وألمانيا تمنع تشغيل الأطفال. شهود يهوه، أسوة بباقي الديانات تُبيح الجنس بين الرجال والنساء في إطار رابطة الزواج الشرعي القانوني حصراً، وتعتبر كل ما خالفه خروجاً عن إرادة الله .
لا وجود لمبدأ الأجور هنا، فهم يعملون مجانا لخدمة عقيدتهم، ويحصلون مقابل ذلك على سكن وطعام مجاني، كما تخصص لهم مصروفات جيب نقدية شهرية، ولا يحتاجون إلى وسائل نقل لأنهم يعيشون في مكان واحد. التأمين الصحي يجري بشكل فردي، وإصلاح سياراتهم يتم مجاناً على أن يشتروا بأنفسهم الأجزاء التالفة. كل ذلك كشف عنه الشاب يوخن فيسينبيكر الذي قادني في رحلة عبر المكان الفريد من نوعه.
الفعاليات ونوع المكافآت وتوزيع الموارد والأجور والأعمال يذكّر الزائر بنظام الكولخوزات في دول المعسكر الشيوعي المنهار، وربما تتوارد إلى الذهن أيضا تجربة الكيبوتسات الإسرائيلية التي تعمل بنظام شبيه بهذا حتى يومنا هذا.
وفود تزور المكان يومياٍ من كل العالم، فيطوف بهم أدلاء، وتُجرى الجولات مرتين في اليوم، وكل جولة تستغرق ساعتين لتغطي كل المكان، والجولة التي قادني بها الشاب الأنيق فيسينبيكر جرت ضمن هذا السياق.
مجتمع مسيحي بلا كنائس ولا صلبان ولا رهبان!؟
مروج خضراء مترامية، في طرفها تنتصب 3 مبانٍ سكنية عملاقة، يغلب عليها اللون البني بدرجات مختلفة، يقول فيسينبيكر إنّ المباني السكنية كانت أول شيء أُنشِئَ في هذا المكان، وقد جرى تعميرها، وإعادة تقطيعها بشكل يناسب احتياجات الشهود الساكنين هنا. لم يقدني الدليل إلى البيوت السكنية، لكنه أطلعني على نموذج غرفة كتب عليها: "مرحباً بكم في إحدى حجرات بيت إيل".
في زاوية منها مقعد من الخيزران عليه وسادتان، وبقربه منضدة صغيرة عليها مصباح بمظلة بيضاء، في إحدى الزوايا نموذج لمعرض (بوفية أو فترينة) خشبي بزجاج ملون وعلى الزجاج صور رمزية لساكني الغرفة وهم من أصول أفريقية، وإلى جواره تزيّن الجدار جدارية جصية يغلب عليها اللون البني تنتمي إلى الفن الأفريقي.
يشغل الجدار المقابل لها مطبخ حديث أنيق بسيط، تقابله مرآة علقت بالعرض على الجدار، وتحتها أريكة زرقاء شتوية، وإلى جانبها منضدة كتابة وطعام يحيط بها كرسيان خشبيان تطل على نافذة ألمنيوم بنية اللون تنسدل على جانبيها ستائر بيضاء بخطوط عرضية من قماش منسوج.
ندلف بهدوء إلى صالة كبرى لإقامة القداسات ومراسم العبادة وقراءات الكتاب المقدس تتوسطها عبارة منه: "ثق بيهوه، وافعل الخير". المكان والكراسي يغلب عليها اللون البني وألوان الخشب التقليدية، والنوافذ تطل على مرج أخضر ومبان مجاورة أنيقة. أجواء المكان كنسية، لكنه ليس كنيسة تقليدية، حيث يغيب المذبح، والشُرفات الكهنوتية والشمعدانات وأماكن القرابين والشموع وصناديق التبرعات، والصور الجدارية العتيقة لقديسين وملوك وأولياء وكرادلة وقساوسة ورهبان.
نغادر المكان الى صالة طعام مترامية الأطراف، وسطها مطبخ حديث كبير تتوسطه قدور وأجهزة ومعدات طبخ حديثة تكفي لإطعام مئات الناس. تتوزع المناضد والكراسي في أرجاء الصالة، فيما تحتل منصة بها 8 ميكروفونات زاوية منها، وشرح فيسينبيكر أنها تستخدم لتوجيه المحاضرات والنصائح للحاضرين في الصالة، بل ولتوجيه نداءات إلى منتسبي الفرع حيثما كانوا.
مؤسسات إنتاجية عملاقة - من يموّل كل هذا؟
ورشة من عدة قاعات لغسيل وكي الملابس والأفرشة تعمل بنظام الأرقام، حيث يرسل الجميع ملابسهم وأفرشتهم الى الورشة بعد أن يلصقوا عليها أرقاماً تعريفية، فتُغسل وتُكوى وتُعلق في أقفاص مخصصة ليأتي أصحابها ويلتقطونها مجاناً. عشرات النساء والرجال يعملون هنا مجاناً لخدمة "الأخوة الشهود" كما يدعو بعضهم بعضا.
القسم الإنتاجي الأكبر في الفرع هو مطبعة الأوفسيت العملاقة بأجهزتها الحديثة التي تواصل العمل وإنتاج ملايين المطبوعات التي توزع مجانا عبر العالم. هنا يعمل نحو 500 "شاهد" جاءوا الى المكان بإرادتهم وطبقا لتأهيلهم العلمي. وقد تحدثت إلى بعضهم فأبدوا رضاهم عن حياتهم في المجمع وعن عملهم في المطبعة التي تحتل الجزء الأكبر مساحة من الفرع، وهي الأوضح ظهورا في الصورة الجوية التي تشكل غلاف هذا التحقيق.
الملفت للنظر دقة نظام العمل الذي يسود المكان، وهو مكتسب بالطبع من أنظمة العمل في المصانع والمؤسسات الألمانية الكبرى. صور توضيحية على الجدران، وخطوط ملونة على الأرض، وأسهم ولافتات دلالة على الجدران، وشاشات تلفزة تعرض أفلام فيديو بلغات عدة بينها العربية تبين للزائرين مراحل العمل.
الرمز الديني الوحيد الذي صادفني داخل المطبعة هو جدارية تمثل النبي داوود يتحدى بيده الملك غوليات الجبار وجنوده.
التجول في أرجاء المطبعة يستغرق نحو نصف وقت الجولة التفقدية، وقد صادفتنا مجاميع يقودها أدلاء يتحدثون بلغات مختلفة، بحسب لغة أفراد المجموعة، فبعضهم بالإنكليزية، وغيرهم بالألمانية، وآخرون بالإسبانية وهكذا. قبل الخروج من المطبعة، قرأت جدول إنتاج عُلق على أحد الجدران، ويكشف عن أرقام المطبوعات المنجزة، حيث سجل عام 2009 رقما اقترب من 20 مليون مطبوع بغلاف ورقي.
وليس بوسع من يزور المكان ويطلع عليه الا أن يسأل من يتولى تمويل كل هذا الإنفاق؟ لإجابة هذا السؤال أحالنا المسؤولون الى صفحة موقع شهود يهوه بعدة لغات:
"يموَّل عملنا التبشيري بشكل رئيسي من خلال تبرعات شهود يهوه الطوعية. فلا تمرَّر في اجتماعاتنا صواني لمَّة، ولا يُطلب من الأعضاء تقديم عشر مدخولهم. عوض ذلك، توضع صناديق في أماكن اجتماعاتنا لمن يرغب في التبرع ولا يُعلن عن أسماء المتبرعين. توضع صناديق في أماكن اجتماعاتنا لمن يرغب في التبرع ولا يُعلن عن أسماء المتبرعين".من جهة أخرى، إن "أحد الأسباب التي تساهم في خفض نفقاتنا المالية هو أنه ليس لدينا رجال دين يتقاضون أجرا. كما أننا لا نكسب المال لقاء التبشير من بيت إلى بيت. أضف إلى ذلك فإنّ أماكن عبادتنا متواضعة. (...) وكل شخص يقرر هو بنفسه هل يريد أن يتبرع لسد النفقات المحلية، نفقات العمل العالمي، أو الاثنين معا. وتُطلِع كل جماعة أفرادها دورياً على تقاريرها المالية". انتهى ما جاء في تعريف مصادر تمويل هذا الدين، وهي إجابة تثير بحد ذاتها مزيداً من الأسئلة. الوضع القانوني في ألمانيا
المحطة الأخيرة في الجولة كانت مكاتب إدارة وإعلام الفرع، حيث استقبلنا فولفرام سلوبينا الممثل الإعلامي لشهود يهوه في ألمانيا بقميص أبيض وربطة عنق أنيقة ونظارة رشيقة استقرت على عينين زرقاوين في وجه حليق. كل ما فيه لا يشبه هيأة القساوسة والكهنة.
ولدى سؤاله عن الوضع القانوني للجماعة، رفض الممثل الإعلامي لشهود يهوه في ألمانيا في حديث حصري لموقع قنطرة منذ البداية توصيف جماعة الشهود باعتبارها "طائفة"، مؤكداً إنه: "دين وليس طائفة، وكلمة طائفة وصف له جانبة سلبية وقد فرضه النازيون وأرادوا منه الإساءة إلى الأقليات الدينية، فشهود يهود دين يتمتع أتباعه بنفس حقوق الأديان الأخرى في هذا البلد ومنها الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة البروتستانتية".
لكن، ورغم مساواتهم ببقية المذاهب المسيحية في ألمانيا، فإنّ شهود يهوه يرفضون أخذ حصة من ضريبة الكنائس التي تجبى من كل المسيحيين طوعاً في هذا البلد. لكنهم يدفعون ضريبة القيمة المضافة نظرا لأنشطتهم الإنتاجية، وهو ما كشف عنه الممثل الإعلامي في إيميل أرسله لكاتب التحقيق لاحقا.
يشار الى أنه بعد 26 عاماً من المتابعة القانونية، وفي (العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2017) منحت ألمانيا لشهود يهوه نفس الوضع القانوني الذي يتمتع به أتباع سائر الأديان.
وإبان الحقبة النازية أُلزم شهود يهود بوضع مثلث بنفسجي لتمييزهم باعتبارهم رافضين لأداء الخدمة العسكرية. وفي المجمل وبحسب معلومات أرسلها فرعهم في وسط أوروبا "شهود يهوه زيلترز" بالإيميل إلى الكاتب، بلغ عدد شهود يهوه في ألمانيا والدول التي احتلها النازيون ابتداء من نيسان/ ابريل 1933 نحو 35 ألفاً، بحسب إحصاءاتهم.
وحوالي 13400 منهم فقدوا وظائفهم، أو تقاعدوا، أو تعرضوا للسجن، ولمداهمات بيوتهم، واعتقال بنيهم ولأشكال أخرى من ديكتاتورية الدولة، في تلك الفترة الزمنية. في ألمانيا والدول التي احتلها النازيون الألمان، اُعتقل 11300 من شهود يهوه، وأُرسل منهم 4200 إلى معسكرات الاعتقال. عُرفت أسماء 950 معتقلا منهم ممن قضوا في معسكرات الاعتقال والسجون، ووصل العدد إلى 1500 بإضافة أعداد المعتقلين في الدول التي احتلها ألمانيا النازية. وفي المجمل بلغ عدد الذين أُعدموا من شهود يهوه 370 بين رجال ونساء، أغلبهم تحت عنوان "رافضو الخدمة العسكرية".
شهود يهوه طائفة مسيحية مسالمة متهمة بالترويج للصهيونية؟!
وأفضى هذا الوضع إلى اعتبارهم فئة باغية خارجة عن الإرادة النازية حالهم حال اليهود و الغجر والمثليين والمومسات. ومن هنا سرى بين الناس اعتقاد مفاده أنّ شهود يهود حركة مرتبطة باليهودية، بل أنّ موقع الجزيرة ذهب إلى اتهامهم بالترويج للصهيونية.
فولفرام سلوبينا الممثل الإعلامي لشهود يهوه في ألمانيا ردّ هذا الاتهام مؤكداً أنّ شهود يهوه فرقة مسيحية تؤمن بكتاب مقدس واحد، معتبرا أنّ تاريخ الاعتقال النازي الذي تعرض له شهود يهوه، وإجبارهم على حمل الشارة البنفسجية كما أجبر اليهود على وضع النجمة السداسية الصفراء، ربما كان سبب إلصاق هذه التهم بهم.
[embed:render:embedded:node:30134]
ويتردد في أدبيات شهود يهوه أنّ حائط المبكى وكنيسة القيامة في القدس / أورشليم ليست أماكن مقدسة بالنسبة لهم، وإلى ذلك أكد سلوبينا: "نحن نرى أنّ كل الناس لهم قيمة، ولا نتقاتل حول أمم وأماكن، ونحن لا نعتبر "الأراضي المقدسة" مقدسة بالفعل، لأنه طبقا للدين المسيحي فإنّ المكان الأصلي والحقيقي لم يعد يملك أي أهمية، نحن محايدون، وحتى بالنسبة للوضع في أورشليم نبقى محايدين ولن نتخذ أي موقف مع أو ضد أي طرف". ولدى سؤاله حول قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس قال سلوبينا: "هذه مشكلته وليست مشكلة شهود يهوه".
هل هي بدعة تفرض على أتباعها قوانين تسلطية؟
ويُتهم شهود يهوه بأنهم طائفة خارجة عن إجماع المسيحية وتمارس قيادة تسلطية على أتباعها، وهو ما نفاه الممثل الإعلامي فولفرام سلوبينا في إيميل أرسله لكاتب التحقيق لاحقاً محيلاً إجابته إلى المنشور على صفحتهم: "كلا، ليس شهود يهوه هرطقة ولا بدعة. فنحن مسيحيون يبذلون وسعهم لاتِّباع مثال يسوع المسيح والعيش بموجب تعاليمه (...) نحن نقتدي في عبادتنا بالمسيحيين في القرن الأول، وأوجه مثالهم وتعاليمهم مسجَّلة في الكتاب المقدس. كما نؤمن أن الأسفار المقدسة هي المرجعية التي تُفَرِّق بين الضلال والحق في مسائل العبادة. فنحن لا نتبع أي إنسان قائدا لنا، بل نلتزم بالمقياس الذي وضعه يسوع لأتباعه".
وجرتني هذه الإجابة الى إثارة السؤال الأصعب، وهي أنّ الكتاب المقدس بقسميه (العهد القديم والعهد الجديد) ليس نصاً واحداً متفق على مفرداته، بل هناك عدة كتب وأناجيل منها، إنجيل لوقا، ومتى، ويوحنا والملك جيمس وما إلى ذلك، هذا غير أن الترجمات إلى اللغات تفقد النصوص الأصلية كثيرا من معانيها، وهو ما يلاحظه كل من يقرأ الكتاب المقدس باللغة العربية.
"الكتاب المقدس هو مجموع 66 مخطوطة"
وبهذا السياق أجاب فولفرام سلوبينا واضعا بين يديه نسخة من الكتاب المقدس نشرت 1716 بالعبرية وترجمة إلى لغتين أوروبيتين:
"هناك نصٌ واحدٌ من الكتاب المقدس وهو مؤلف من 66 مخطوطة، وهناك اليوم مخطوطات أعيد كتابتها، لكن المخطوطات المجموعة في هذا الكتاب دقيقة جدا. هنا وضعت كل المخطوطات التي عثر عليها معا، ورغم تنوعها فإنّها ترتبط بمعان واحدة. على من يقرأ النصوص أن يفسرها وفقا للسياق الذي وردت فيه وليس بعيدا عن هذا السياق...".
ويضيف: "ولابد من الإشارة هنا إلى أنّ المترجمين المعاصرين للنصوص المقدسة يميلون إلى ترك بعض التفاصيل لأنها لم تعد تناسب المفاهيم المعاصرة، وهذا سبب التباين الذي تراه. ونحن نؤمن بأن المسيح ابن الله وهو يقول في هذا الصدد: "كن على حذر من الأنبياء الكذابين الذين يأتونك في هيئة حملان، لكن في دواخلهم ذئاب، ولكنك ستعرف حقيقتهم من ثمارهم، فالناس لا يجنون العنب من الشوك" ".
يشار الى أنّ شهود يهوه يرفضون كل أنواع القتل والقتال وكل أنواع السلاح وإنتاجه وتداوله، كما يرفضون إجراء عمليات نقل الدم وهو ما يعرضهم إلى تحديات خطيرة في حال تعرض أحدهم لحادث أو حاجة إحدى الأمهات إلى دم أثناء الولادة القيصرية، وهو ما عرّضهم لمشاكل كثيرة خلال القرن العشرين خاصة.
وفي هذا السياق يقول سلوبينا: "نحن في شهود يهوه لا نحمل السلاح، ولا نقتل أحدا، وهو ما أمرنا به المسيح، لذا لم نشارك في قتل الناس في الحربين العالميتين، واختار أخوتنا في ألمانيا آنذاك الذهاب إلى معسكرات الاعتقال النازية على أن يؤدوا الخدمة العسكرية ويحملوا السلاح ويقتلوا إخوتهم في الإنسانية. يمكنك أن تدّعي ما شئت لكن في النهاية ستدل أفعالك على نواياك وعقيدتك".
ملهم الملائكة / تاونوس - "شهود يهوه زيلترز" حقوق النشر: موقع قنطرة 2018ar.Qantara.de