إرث العقلانية في الفقه الإسلامي
كثيرًا ما نسمع أنَّ "الإسلام" غير موجود في صيغة واحدة. وفي هذا الصدد، يؤكِّد مفكرون مسلمون على أنَّ "الإسلام" كانت فيه دائمًا أصوات متعدَّدة. يمكن -من خلال النظر إلى بدايات تاريخ الفكر الإسلامي- استلهام كيف يمكن اليوم إعادة إحياء ثقافة النقاش المتنوِّعة التي ازدهرت في القرون الأولى من تاريخ الإسلام.
كان الخط الفاصل في تاريخ الفكر الإسلامي يمتد دائمًا بين العقل والوحي (العقل والنقل). غير أنَّ السؤال عما يمكن أن يعرفه البشر وما يجب عليهم أن يؤمنوا به هو سؤال أقدم من الإسلام نفسه. يُقدِّم هذا الكتاب، الذي يحمل العنوان المناسب "العقلانية في الفقه الإسلامي"، نظرةً على مجالات النقاش الرئيسية بين دعاة العقل (أهل الرأي) ودعاة النقل (أهل الحديث) من الفترة الكلاسيكية في التاريخ الإسلامي.
دار الجدال خاصةً وبشكل رئيسي بين تيَّار المُعْتَزِلة العقلاني وتيَّار الأشعرية التقليدي، الذي كان يعتمد إلى حدّ كبير على سلطة الفقهاء. علمًا بأنَّ هناك اتِّجاهات ومذاهب أخرى شاركت في النقاش - مثل الماتُريدية والشيعة والمُتَصوِّفة. تمحور موضوع هذه الجدالات بشكل أساسي حول السؤال عما إن كان يمكن استنباط السلوك الصحيح أخلاقيًا من العقل أو من النقل (الوحي) وأي من هذه النماذج الفكرية يجب أن يسيطر على نظام المسلمين السياسي.
نقاشات ساخنة حول الإرادة الحرة
عندما نُمْعِن النظر في العواقب السياسية لهذا السؤال، الذي يبدو من النظرة الأولى غير خطير، نستوعب عندئذٍ لماذا لا يزال نقاشه محتدمًا حتى يومنا هذا. وعندما نقرأ القرآن والأحاديث النبوية من منظور عقلاني حُرّ نصل إلى نتيجة مختلفة تمامًا عن نتيجة قراءته العقائدية التقليدية المرتكزة على النصّ.
فقد دارت نقاشات ساخنة جدًا حول إرادة الإنسان الحرة: إن كان البشر أحرارًا فهم أنفسهم مسؤولون أيضًا عن سعادتهم في الحياة. ولكن إن كانت مصائرهم محدَّدة سلفًا فسيكون المُتوقَّع منهم هو الطاعة من دون تأخر، بمعنى القيام بتنفيذ التعليمات فقط.
وهذا يفسِّر أيضًا لماذا كان العلماء يجازفون بحياتهم لفحص الحُجَج الموجودة فحصًا دقيقًا وكانوا يطوِّرون منها نظريَّات، أو بعبارة أخرى كانوا يراجعون رواياتهم أو يرفضونها عند وجود أدلة جديدة. لقد تميَّز عصر تاريخ الفكر الإسلامي الكلاسيكي بقدر كبير من التسامح مع الغموض، على الرغم من جميع المخاطر الشخصية الكبيرة، التي كان يتعرَّض لها العلماء. تُظهر المقالات المنفردة المجموعة في هذا الكتاب كم كانت المواقف المتبناة في ذلك الوقت مثيرة للاختلاف.
كانت تتم قراءة القرآن قراءات مختلفة تمامًا قبل تقنينه: إذ إنَّ مَنْ كانوا يميلون أكثر إلى الحرية كانوا يفسِّرون النصّ بطريقة مختلفة تمام الاختلاف عن الأشخاص ذوي التوجُّهات العقائدية. وكان لذلك في الفترة اللاحقة أيضًا تأثيرات على نطق النصّ وإدخال النقاط وعلامات التشكيل على الحروف، التي من شأنها أن تُغَيِّر قواعد اللغة العربية ومعنى النصّ، علمًا بأنَّ مكانة الله المركزية وصحة نصّ القرآن وحدهما لا يتأثَّران بكلّ ذلك.
اختلاف تفسيرات القرآن
تميَّزت المدارس الفقهية باختلاف طريقة تفكيرها حينما يتعلق الأمر بفهم القرآن وتفسيره. وخير مثال على ذلك هو السؤال حول تحديد آيات القرآن الواضحة (المُحْكَمات) والغامضة (المُتَشابِهات). لا يزال هذا السؤال من دون جواب قاطع حتى يومنا هذا.
يَرِد في القرآن -على سبيل المثال- في الآية التاسعة والعشرين من سورة الكهف (18:29): "فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ". بحسب الأشعرية التقليدية فإنَّ هذه الآية تحتاج إلى تأويل، وإلَّا كان لا بدّ من افتراض أنَّ البشر أحرار في اختيارهم.
وفي المقابل يستخدم تيار المعتزلة العقلاني هذه الآية كدليل على وجهة نظرهم الحُرَّة. وضمن هذا السياق لا بد أيضًا من ذكر مسألة أسباب النزول. ولكن بما أنَّ أسباب وأماكن النزول المذكورة لهذه الآية نفسها مختلفة، بل وحتى متناقضة، فإنَّ هذه الطريقة أيضًا تبقى موضع خلاف، لا سيما وأنَّ المتنافسين كانوا يختارون -بحسب قناعاتهم- أسباب النزول المناسبة لكلّ منهم. وفي ظلّ هذه الظروف من المستحيل تحديد أسباب النزول بكلّ تأكيد. ولذلك يتَّضح ضعف هذه القاعدة، التي تؤكِّد أيضًا الحاجة إلى طرق أكثر موثوقية مثل المنهج التاريخي النقدي.
تسير بالتوازي مع المثال المذكور الخطوط الفاصلة بين المذاهب الفقهية الإسلامية. تفرَّقت آراء الفقهاء فيما يعرف باسم الأحاديث الآحاد. (الأحاديث هي كلُّ ما رُوِي عن النبي من قول أو فعل أو إقرار) والحديث الآحاد هو حديث نبوي تم تواتره فقط من خلال سلسلة رواة واحدة (إسناد).
يعطي المذهب الحنفي العقلاني الأولوية للعقل (القياس) مقابل الأحاديث الآحاد. وهكذا فإنَّ الأحاديث الآحاد لا تُستخدم في المذهب الحنفي إلَّا في المسائل القانونية فقط، وهذا فقط في حالات منفردة وبشروط صارمة، بينما تُفضِّل المذاهب الفقهية الأخرى هذه الأحاديث الآحاد.
وفي هذا الصدد، ركَّز المعتزلة على محتوى الحديث بدلًا من التركيز على مصداقية سلسلة الرواة. وهكذا فإنَّ الحديث الآحاد لا يجوز له أن يتعارض -بحسب رأي المعتزلة- لا مع العقل البشري ولا مع القرآن أو السنة النبوية أو مع ممارسة السلف الصالح وإجماع العلماء.
تأثير دعم الحاكم السياسي على النقاشات
تجدر أيضًا في النقاشات الفقهية ملاحظة النظرية المعرفية المزدوجة عند الماتُريدية، التي ترى أنَّ مصادر المعرفة من أجل حياة ناجحة تستند بالإضافة إلى الوحي والعقل أيضًا إلى الحواس البشرية. يتوافق هذا التمييز مع نظرية المعرفة الحديثة. والأهم من ذلك أنَّ الكثير من المسلمين المحسوبين على الماتُريدية قد تبنُّوا آراء الأشعرية المحافظة فيما يتعلق بمسائل المعرفة والحرِّية والمسؤولية.
من المثير للاهتمام أيضًا كيف تم إعلان المعتزلة العقلانية من المنظور الشيعي فقهًا سنيًا. أعتقد أنَّ مثل هذه التنسيبات تُعزى إلى طرف ما من أجل المطالبة بحقوق سياسية وضمان السيادة على التفسير.
الشيء الوحيد المفقود في هذا الكتاب المهم للغاية هو مقال حول تأثير دعم الحاكم السياسي على النقاشات الفقهية. ففي نهاية المطاف دخلت ابتداءً من القرنين الحادي عشر والثاني عشر وصاعدًا الأفكارُ -التي تم تطويرها في السابق ضمن نقاشات مثيرة للاختلاف منذ القرن الثامن- إلى مرحلة جمود وباتت تتم منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا أعادة إنتاجها من قِبَل بعض الوعَّاظ والدعاة على حساب الأفكار المُبتكرة.
نظرًا إلى النزاعات الحالية، التي غالبًا ما تُستخدم فيها النماذج الدينية من أجل إضفاء الشرعية، فمن الضروري إعادة صياغة المبادئ الإسلامية مثلما حدث في الماضي ومنحها نبرات مختلفة.
إنَّ كلَّ نصّ هو مرآة لمعايير وقيم العصر الذي كُتب فيه. ولذلك فإنَّ ما كان يُعتبر في ذلك العصر غير مهم يجب أن يتم توضيحه اليوم. كيف نريد التعامل مع الروايات المعادية للمرأة أو مع الأحاديث النبوية المتعلقة بالسلطة السياسية. من الواضح جدًا أنَّ مثل هذه الأسئلة في غاية الحساسية.
وفي النهاية يبقى العمل على المصادر الفقهية ومصادر علم الكلام مهمةً معقدة. تشكيك بعض الفاعلين المحافظين اليوم في روايات المفكِّرين المسلمين التقدمية ليس ظاهرة جديدة. لكن مع ذلك فإنَّ هذا الكتاب يُبيِّن أيضًا أنَّ الفقهاء والعلماء المعترف بهم اليوم كمرجعيَّات لم يجدوا هذا القبول إلَّا من خلال إعادة النظر في الماضي. وفي ضوء ذلك فإنَّ علم الفقه -وعلم الكلام- كان دائمًا مثل علم الآثار، الذي يستمر في التطوُّر مع كلِّ اكتشاف جديد وإعادة تقييم.
يكمن التحدِّي الذي يواجهه الفقه المعاصر في تقديم مناهج تفسير تتماشى مع متطلبات التعدُّدية والتقدُّم العلمي.
المقالات المجموعة في هذا الكتاب هي دعوة للتعامل بشكل مكثَّف مع حقبة الفقه الإسلامي الكلاسيكية من أجل التفكير من جديد بالاستناد إلى هذه الحقبة المركزية في العلاقة بين العقل والنقل (الوحي) في ضوء الحداثة.
موسى باغراتش
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2020
مها القيسي فريموت وَ رضا حاجتپور وَ محمد عبد الرحيم (محرِّرون)، "العقلانية في الفقه الإسلامي". الجزء الأوَّل: "الفترة الكلاسيكية"، صدر عن دار نشر دي غرويتَر، في برلين، سنة 2019.
[embed:render:embedded:node:21341]