القاهرة - مدينة الليل بامتياز
حقا القاهرة مدينة لا تنام على النقيض من كثير من المدن العربية وهي في هذا تشبه باريس كثيرا، وتختلف عن كثير من المدن العربية التي يسلمها النهار -وهو يلفظ آخر أنفاسه- إلى كسل وشخير، بينما يخفُّ الليل خفيفا من مهده يركض ويدب شابا يافعا في مدن أخرى صاخبا نشيطا.
ومن تلك المدن القاهرة، مدينة الليل بامتياز، حتى النيل وهو يعبر المدينة بوقار إلى مصبه بالبحر الأبيض بعد أن قطع آلاف الكيلومترات في الفيافي وما ضاق أو تململ تتراقص الأضواء على صفحته وينتشي نسيم الليل سكرا وعربدة، فينفح بأريحية ركاب مراكب النزهة بنسمات وساعات هناءة ويزيد إيقاع الموسيقى في جمال اللوحة نعمة اللحن ونعمة المكان وشهامة النيل وكرمه الحاتمي.
ومن تقاليد المدينة تلك النوادي الأدبية الليلية وأشهرها "الأتيله" و"ساقية الصاوي"، يجتمع المثقفون من أساتذة الجامعة والكتاب والفنانون وأحباب الأدب هناك يسمرون، يشربون الشاي يدخنون رجالا ونساء، وربما قدم شاعر أمسية شعرية وربما قدم أستاذ محاضرة مشفوعة بمناقشة وتدخلات من الحاضرين.
ليالٍ أدبية
طاولات منتشرة هنا وهناك يجتمع حولها النساء والرجال في جلسات ثقافية وربما سياسية، وغير بعيد عن "الأتيليه" -نادي كبير يدخله الرجال والنساء أساتذة وكتاب ومثقفون وأطباء وباحثون- هو أشبه بالمقهى الأدبي لكنه كبير ولا يقدم القهوة فقط بل يقدم القهوة بمعناها الجاهلي القديم أيضا.
حين دخلت مع أستاذ وصديق غزاوي الأصل أردني الجنسية -وهو الذي قدمني لقناة النيل الثقافية، فاستضافتني في حصة ثقافية حول السنة الثقافية العربية من القاهرة مع الدكتور غازي عوضين السعودي صاحب صالون أدبي بالقاهرة شهير، ومنشط الحصة الصحفي النابه عبد الله يسري وكان برفقتنا الأستاذ شريف الجيار أستاذ النقد بجامعة القاهرة والسيدة سوزان تميمي ناشرة كتابي ديوان الحكايا في نسخته الورقية بدار إيزيس للنشر بالزمالك- ما إن جلسنا ورائحة التبغ تملأ الأجواء حتى طلب أحدهم جعة، فسألت الأستاذ محمود كيف يشرب الناس هنا الجعة بالكحول ويخوضون في أحاديث دينية والكل يعلم أن الجعة حرام؟ فابتسم الأستاذ وقال لي هم يأخذون بفتوى للإمام أبي حنيفة عن حلية هذا الشراب مادام ليس عصير العنب وقد قال الشاعر:
رأيه في السماع حجازي ** وفي الشراب رأي أهل العراق
على كل انتشينا باللمونادة وبالتدخين وتحدثنا عن رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ مع الأستاذ شريف الجيار، ولم ننته من تلك الجلسة إلا والفجر على الأبواب.
ميدان التحرير ، خان الخليلي، ميدان طلعت حرب، شارع الأزهر أمكنةٌ لاكتظاظ وزحمة شديدة تضاف إليها قوافل السياح ورقة النسيم واعتدال الجو في يناير، أشياء تشدك إلى السمر ، ولخبطة مواعيدك فستنام عند الفجر لتنهض عند الزوال.
صالات السينما تعرض أفلامها والرجال والنساء يستمتعون بالعروض يدخلون أفواجا ويخرجون أفواجا بعضهم راض عن الفيلم وبعضهم ساخط يستخسر الجنيهات التي دفعها ثمنا للتذكرة، على أنني لا أجد في السينما الحالية ما يشدني إليها، إنها تجارية بحتة، عواطف ونهايات سعيدة.
في حين تغرق القاهرة في الزحمة، في هشاشة البنيان، في البيروقراطية، في الارتشاء، في النصب والاحتيال الذي صار ماركتها المسجلة، في العنوسة في مشكلة الإسكان في البطالة في الفقر والتسول يارب رحمتك! على أنني أحب القاهرة، والله.
ما تسمعه في مسجد الحسين
أدخل مسجد الحسين بخان الخليلي أقف أمام الضريح أنتشي بعبق البخور أقرأ تلك القصيدة الرائعة في مدح سيدنا الحسين ورثائه والمكتوبة بخط جميل في إطار بهي كتبها شاعر مقيم بلندن. أجلس قبالة الضريح، هناك من يقول أن رأس الحسين -رضي الله عنه- فقط هو المدفون هنا وهناك من يقول الرأس وسائر البدن معا ومن يقول لا أثر للحسين هنا ولكن للأماني والآمال والدعوات والأنات والآهات الحضور القوي:
– ياسيدنا الحسين عريس لابنتي والله عنست – يا سيدنا مريض ولا أجد دواء ولا علاجا جد علينا بالعافية أنا في عرضك – يا سيدنا اُمنن علي بالنجاح إنك لا تخيب ... – أهواها ومش واخذة بالها وأنا مكبود وميش عايز غيرها بركاتك ياسيدنا قلبها بين أصابعك ... .
وهو ما تسمعه في مسجد السيدة زينب -رضي الله عنها- آهات وأنات ودعوات وأماني عذاب وعرق وبخور ودموع وشهقات. جلسات الإنشاد الصوفي وحلقات قراءة القرآن من أروع ما تسمعه في القاهرة ليلا. شعر ابن الفارض، والسهروردي، وقصائد كعب والبوصيري ورابعة العدوية بلحن عذب شجي يتمايل بدنك رغما عنك دون أن يستأذنك، هنا تنسى كثافة المادة وتسمو على غريزة الطين وتعرج في لمح البصر إلى السماوات العلى فيوضات وإشراقات وانتشاءات، رأسك يتكهرب وجلدك يقشعر والزمن يتجمد، ثم يتلاشى هنا لا زمن لأن الروح حاضرة طمست البدن وليس للروح زمن يقاس بالساعة والدقيقة.
وهو نفس ما تحس به وأنت تسمع لتلك التراتيل القرآنية على اختلاف أصوات القراء، عذبة رقراقة شجية يتحلق الناس فيغمضون أعينهم ويتمايلون تعبيرا عن البهجة عن الاندهاش.الروح تأمر العينين أن تطبقا أجفانهما لأن الأشياء الرائعة لا تدرك بالبصر بل بالروح.
دماء كردية
بعض المثقفين حولوا بيوتهم إلى صالونات أدبية ثقافية، يجتمع المثقفون ليلا في بيت أحدهم ويسمرون سمرا حلوا أسوة بصالون العقاد في مصر الجديد يوم الجمعة وصالون مي يوم الثلاثاء الذي قال فيه الشاعر إسماعيل صبري:
إن لم أمتع ناظري بمي يوم الثلاثاء ** لا كان صبحك يا يوم الثلاثاء!
وقد كان يحضره حتى رجال الدين وصالون طه حسين بشارع الهرم، حيث حول منزله إلى متحف طه حسين ويقدم محاضرات وأنشطة أدبية كل إثنين، على أنني سعدت بحضور جلسة فنية مع المخرج الكبير الأستاذ علي بدر خان غير بعيد عن شارع الهرم وهو مخرج أحترمه كثيرا وأراه جادا جدا عرض علي التجول في مكتبته بل والحضور للقراءة إن رغبت وكان الأستاذ مهموما من واقع مصر من تردي حالها، من تردي الواقع العربي من نكبة فلسطين من نكبة العراق.
أتعرف أنني كردي؟ قال الأستاذ، قلت لا ولكنني أعرف أن العقاد عراقي الأصل وكردي وأن صلاح الدين كردي وأحمد شوقي جرت في عروقه دماء كردية وأن رئيس مجمع اللغة السوري محمد كرد علي كردي وغيرهم كثير. لقد خدم الأكراد الإسلام واللغة العربية حين خذلها كثير من عرب نجد، أنسيت يا أستاذ ما قاله نزار مرة:
أتكلم الفصحى أمام عشيرتي
وأعيد .. لكن ما هناك جواب
لولا العباءات التي التفوا بها
ما كنت أحسب أنهم أعراب ..
يتقاتلون على بقايا تمرة
فخناجر مرفوعة وحراب
قبلاتهم عربية .. مَن ذا رأى
فيما رأى قــُـبَلاً لها أنياب؟!
شاخت الدقائق وتقوست ظهور الساعات
والدكتورة فادية مغيث جليستنا يسارية النزعة ووجدت في يساريتها معينا لي على إبداء نقمتي على تردي وضع مصر الثقافي والسياسي والاجتماعي وعن الهجمة الإعلامية التي شنتها قنوات وصحف وفنانون وكتاب على الجزائر وشهدائها عقب مباراة في كرة قدم لا تستحق كل هذا الاهتمام، وكل هذه البغضاء وكل هذا السباب والحق أن كثيرا من المثقفين خجلوا من ذلك ورأوا فيه مجرد لعبة سياسية لامتصاص الغضب الجماهيري وتلهية له عن واقعه المنكود.
ولم أكتفِ بالشجب بل نشرت مقالة أندد فيها بهذا التصرف الطائش من قبل بعض الفنانين والإعلاميين ومن المحسوبين على المثقفين، ونشرت المقالة بجريدة اليوم السابع المصرية تحت عنوان(في حب مصر عتاب بين يدي إيزيس) وقلت للدكتورة فادية وللأستاذ علي بدرخان ستنفجر الأوضاع قريبا فلم يكن بين نبوءتي وثورة يناير غير أسبوعين.
وأنا أتمشى على كوبري 6 أكتوبر، والنيل تتراقص الأضواء على صفحته معربدة والآتية من الفنادق والمحلات والمؤسسات الرسمية واللوحات الإشهارية تلقنك أن الزمن زمن العولمة حيث العالم العربي على حاشية التاريخ حين دخل غيره متنه: كوكاكولا، ماكدونالدز، موفمبيك ، موتورولا ... .
كانت الأحزان تضرب بموجها صخرة قلبي فتفتها كما يفت الموج صخرة البحر. لقد عجزت مصر وتذمر الناس وضاقوا بحياتهم وبانسداد أفقها وتردى كل شيء، لم يعد للساعة معناها شاخت الدقائق وتقوست ظهور الساعات وتوكأت على عصي اليأس والخذلان ولم يعد للفرح ألقه، ولا للوجه العربي هويته إنه مجرد كتلة هلامية موحشة كقبر منسي بلا ملامح تملأ الفراغ.
أزحت بيدي تلك الصخرة وأشحت بوجهي عن الأحزان وأتممت تدخين سيجارتي رغما عن حزني الفطري وشجوي المبرر أمسكت بخاصرة الأمل وطوقت شماريخه بذراعي واندغمت في نظرة حانية في صفحة النيل سائلا الله ساعة للفرح العربي.
نمت جيدا ولم أستيقظ إلا عند الظهيرة كان فطوري بيضا وزيتونا وعسلا ونسكافيه شربتها على مضض وانفتلت إلى مقهى بسيط شربت قهوة جزوة ودخنت شيشة وفي أذني عبد الوهاب يصدح:
ياجارة الوادي طربت وعادني ** ما يشبه الأحلام من ذكــــــــــــــراك
مثلت في الذكرى هواك وفي الكرى ** والذكريات صدى السنين الحاكي
إبراهيم مشارة
حقوق النشر: إبراهيم مشارة / موقع قنطرة 2020