انقلاب العسكر...تحالف البرهان وحميدتي ودعم من محور الثورات المضادة
اعتقد الكثيرون أن الحكم العسكري للسودان قد خرج من الباب، بإسقاط حكم عمر البشير. وتكرّرت المخاوف أكثر من مرة من أن الحكم العسكري سيعود لمحاولة الدخول إلى البلد، ولو من نوافذ "تصحيح المسار" و"الظروف الاستثنائية" و"السياق الإقليمي"، لكنّ المتتبعين لما يجري في السودان يدركون أن رجال الجيش لم يغادروا معترك السياسة منذ عقود وكانوا يبحثون عن الفرصة للعودة إلى الواجهة بشكل منفرد، وهو ما تحقق هذا الأسبوع.
لا يريد الفريق أول عبد الفتاح البرهان، الاعتراف أن ما قام به يسمى في الأدبيات السياسية "انقلاباً عسكريا"، ويبرّر تعديله لمجموعة من المواد الدستورية والإطاحة بالحكومة واعتقال وزراء بأنها "خطوة لتصحيح المسار الانتقالي" و"تجنب الحرب الأهلية"، لكن جلّ مهندسي الانقلابات في المنطقة كانوا يتذرعون بمثل هذه الحجج، ومنهم من كان يعتبرون تحركهم امتدادا للثورة. والفارق الوحيد هذه المرة أن البرهان كان بحكم الأمر الواقع رئيساً للبلاد، بحكم ترؤسه لمجلس السيادة، وما قام به لحدّ الآن هو تكريس مكانته، وإزاحة أبرز خصومه، أي الطرف المدني.
"هناك انقسام كبير في البلد، خصوصا بين الجيش والحكومة المدنية، فالطرفان منذ البداية لم يرغبا بالعمل سوية، لكنهما أجبرا على هذا العمل لأنهما اقتنعا أنه الحل لإنقاذ البلد وإحلال السلم الاجتماعي واستمرار السلام مع المتمردين"، يقول فولكر بيرتس ممثل الأمين العام للأمم المتحدة إلى السودان في حوار مع الإذاعة المحلية الألمانية "دويتشلاند فونك".
ويتابع بيرتس، وهو خبير ألماني مرموق في شؤون الشرق الأوسط، أن هذا العمل استمر لحوالي سنتين، لكن التوتر بينهما ارتفع خلال الأسبوعين الأخيرين، وزاد من ذلك أن قوى جديدة اختارت هذا الجانب أو ذاك، لأسباب جغرافية أو عرقية أو سياسية".
تحالف العسكر و"ميليشيات الدعم السريع"؟
لكن ليس عبد الفتاح البرهان وحده من يظهر في قائمة المستفيدين من إزاحة المدنيين من الحكم، هناك كذلك محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي"، نائب رئيس مجلس السيادة، ، وقائد قوات الدعم السريع، الذي صعد نجمه خلال السنوات الأخيرة، وبات نفوذه السياسي والعسكري ينافس قيادة الجيش.
لم يخرج دقلو بتصريحات جديدة بعد الإطاحة بالحكومة. وقد يكون من المثير أن "حميدتي" صرّح قبل ساعات قليلة من الانقلاب، عند لقائه المبعوث الأمريكي للقرن الإفريقي، جيفري فيلتمان بضرورة دعم الانتقال الديمقراطي والحرص على الدستور وأهمية التوافق الوطني، غير أن بيان مجلس السيادة الذي نقل هذه التصريحات، تضمن كذلك كلاماً مشابها للبرهان قبل أن يستيقظ السودان على الإطاحة بالحكومة واعتقال رئيس الحكومة وعدة وزراء.
ولا تعود العلاقة بين الاثنين إلى فترة ما بعد عمر البشير. ويرى المنتصر أحمد، وهو ناشط سوداني، أنها ترجع إلى فترة تأسيس "الجنجويد" عام 2003، ونمت بعدها علاقة "تحكمها المصالح المشتركة والتاريخ الدموي".
ويتابع الناشط السوداني في حديثة مع دويتشه فيله أن حميدتي يعلم أنه "لن يستطيع أن يقود السودان بدون واجهة عسكرية تضمن له انقياد القوات المسلحة، بينما يعلم البرهان أنه لن يستطيع ضمان ولاء القوات المسلحة كلها دون مليشيات دموية تخدمه"، كأن هذا الأخير يتبع استراتيجية عمر البشير الذي منح الضوء الأخضر لتحويل الميليشيات القبلية إلى "قوات دعم سريع" تعمل تحت إمرته.
ورغم محاولات لنفي وجود توتر خفي، هنالك تقارير صحفية كثيرة أكدت وجوده بين شخصيتين لكل منهما طموحات سياسية، فالبرهان استفاد من منصبه كرئيس لمجلس السيادة في خلق علاقات مع دول عديدة أبرزها إسرائيل إثر اتفاقية التطبيع معها، و"حميدتي" لن يتوانى عن الاستمرار في الصعود إلى المشهد، في حلقة من مسلسل نفوذه الذي بدأ من تجارة الإبل ثم تشكيل ميليشيات مسلحة إلى فرض وجوده على الجيش مستفيدا من ثروته وقواته وشبكة علاقاته، لدرجة أن عدة تقارير تراه الرجل رقم 2 في البلد، وقد يكون قريبا رقم 1.
لكنّ الاثنين استطاعا تجاوز فترة ما بعد البشير بكثير من التعاون، ويرى المنتصر أحمد أنهما حرصا خلال الفترة الماضية على استمالة بعض القوى السياسية لـ"تدعم استحواذهم على السلطة" قبل أن يؤكدا نواياهما بالإطاحة بالحكومة.
قوى إقليمية داعمة للانقلاب في السودان
ليست العلاقة بين البرهان والتحالف السعودي-الإماراتي خفية، فقد كان مشرفا على إرسال قوات سودانية لدعم هذا التحالف في حرب اليمن، ورغم كل الضغوط المحلية بعد الإطاحة بالبشير، إلّا أن الجيش بقيادة البرهان أكد استمرار هذه القوات سواء النظامية أو التابعة لحميدتي في مهمتها الخارجية، بل أشارت تقارير إلى أن هذه القوات توجد كذلك في ليبيا لأجل دعم جيش خليفة حفتر الذي تسانده الإمارات ومصر بشكل كبير في مواجهة سلطات الغرب الليبي.
وعكس دول كثيرة نددت بشكل واضح بالانقلاب، ودعت البرهان إلى التراجع عن إجراءاته، كانت بيانات مصر والإمارات والسعودية تتحدث عن "أهمية تحقيق الاستقرار والأمن والازدهار" و"ضبط النفس" و"تغليب المصلحة العليا للوطن" و"حماية وحدة الصف"، و"الحفاظ على المكتسبات" دون اتخاذ أيّ موقف من انقلاب الطرف العسكري.
واتخذت الدول الثلاث مواقف مشابهة في عدة محطات بعد الربيع العربي، وجمع بينهما حلف في مواجهة الإخوان المسلمين وأحزاب الإسلام السياسي، في وقتٍ تتعالى فيه انتقادات بأن تحركاتهم ضد الآمال الديمقراطية في المنطقة، خصوصاً مع حملة التأييد من إعلام هذه البلدان لاستفراد الرئيس التونسي قيس سعيد بالسلطات، ولم يبق سوى مشعل المسار الديمقراطي في السودان الذي خلق لحد ما وضعا ديمقراطيا نسبياً أفضل من بقية بلدان الموجة الثانية من الربيع العربي، أي العراق ولبنان والجزائر.
ويشير المنتصر أحمد إلى أنه لا يوجد انقلاب في العالم دون دعم محلي وإقليمي، لكنه تساءل هل دعم القوى الإقليمية لتحرك البرهان نابع من مصالحها الخاصة أم من ضغوط تمارسها قوى عالمية لأجل تحقيق مكتسبات أمنية عبر دعم الأنظمة العسكرية، أو تحقيق مطامع اقتصادية، خصوصاً مع ما يتردد من صراع دولي على البحر الأحمر وبناء القواعد العسكرية في المنطقة.
وكان جليا حديث واشنطن خلال تعليقها على ما يجري من أحداث في السودان، عن وجود "اتصال وثيق" مع زعماء المنطقة، بما فيها منطقة الخليج، لضمان العودة إلى مسار ديمقراطي.
ويرى الصحفي السوداني، محمد الأسباط، أن التصريح الأمريكي يؤكد ما يروج عن دعم دول خليجية ومصر للجيش السوداني، ويتابع قائلا إن "السودان يوجد في محيط من الديكتاتورية والاستبداد، ولا تريد هذه القوى أن يشكّل هذا البلد الفقير في نظرها واحة للديمقراطية، بل هناك تسريبات وفق قوله حول وعود خليجية للبرهان بتدفق الأموال والمساعدات فور استيلائه على السلطة.
تحديات تواجه البرهان؟
تشكّل البلدان الغربية عائقاً أمام البرهان لتولي السلطة بشكل مريح، خصوصاً مع تعليق واشنطن وبرلين وعواصم أخرى للمساعدات المخصصة لدعم الانتقال الديمقراطي في البلد، غير أن انقلابات عديدة استطاعت مجابهة الرفض الغربي منها ما وقع في السودان مع عمر البشير، لذلك يبقى أكبر ما يواجهه البرهان هو الرفض الشعبي لقراراته، وتوّحد الكثير من القوى السياسية وراء مطلب إنهاء الحكم العسكري، خصوصا مع حيوية الشارع السوداني.
ويتحدث محمد الأسباط عن أن قائد الانقلاب "عاجز تماماً عن إدارة أزمة خلقها بنفسه"، ولا يدرك كيف يواجه الرفض الشعبي الذي انتقل من الاحتجاجات إلى العصيان المدني الشامل. ووفق المتحدث، فـ"الشارع السوداني حريص جدا على إنهاء الحكم العسكري للبلد"، رغم محاولة البرهان إقناع السودانيين بمخرج للأزمة عبر تشكيل حكومة كفاءات لا تشمل أيّ قوى سياسية.
من جهته يقول المنتصر أحمد إن البرهان سيواجه كذلك تيارات داخل الجيش بدورها لا ترغب باستفراده هو وحميدتي بالسلطة وقد تجدها كذلك فرصة للتحرك العسكري، ويتابع أن هناك كذلك تيارات سياسية لها تاريخ عسكري قد تخرج هي الأخرى عن نطاق السلمية إذا اقتنعت أن البرهان ومجموعته يتجهون نحو الاستفراد بالحكم.
حقوق النشر: دويتشه فيله 2021