لا أسرة فلسطينية إلا وذاقت ويلات السجون
يذكُر الفيلم فقط في نهايته الأرقام المذهلة للغاية: حيث يوجد حاليًا نحو سبعة آلاف معتقل فلسطيني في السجون والمعتقلات الإسرائيلية. وحتى الآن (فبراير/ شباط 2017) كان هناك سبعمائة وخمسون ألف فلسطيني تم اعتقالهم في السجون الإسرائيلية منذ عام 1967، أي منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية. وتمت محاكمة معظمهم من قبل المحاكم العسكرية الإسرائيلية، بينما يتم احتجاز الآخرين من دون محاكمة باعتبارهم "معتقلين أمنيين". وعمليًا لا توجد أية أسرة فلسطينية لم تذق ويلات السجن.
لا تكمن مهمة رائد أنضوني في جمع الحقائق أو إثباتها. فهذا عمل المنظمات الدولية والإسرائيلية والفلسطينية لحقوق الإنسان. أمَّا المخرج رائد أنضوني فهو يتناول هذا الموضوع بطريقته الفنِّية السينمائية الخاصة به. ويهتم بالكشف عن الصدمات والمشاعر و"الأشباح"، التي تطارد المعتقلين السابقين حتى يومنا هذا. ويهتم كذلك بتجربة الاعتقال الفلسطينية الجماعية، ولكن وفي المقام الأوَّل بتجربة الاعتقال الفردية الإنسانية، وتجربة العنف والإذلال المعايش هناك وعواقبها.
ما هو تأثير هذه التجارب القاسية على الإنسان؟ رائد أندوني عانى شخصيًا من هذه التجربة القاسية خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى في أواخر الثمانينيات، عندما كان يتم اعتقال الآلاف من الفلسطينيين المُنتفضين ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي.
معتقلون سابقون كممثِّلين
"تبدأ القصة مع أشباحي"، مثلما يقول رائد أنضوني: "هذا الفيلم يهدف إلى إخراج الأحاسيس والمشاعر المكبوتة، المكتومة في داخلي وفي داخل جميع الأشخاص، الذين عانوا من مثل هذه التجارب". ومن أجل ذلك بحث المخرج رائد أنضوني من خلال إعلان في الصحف عن مجموعة من المعتقلين السابقين، الذين يمكنهم كفنَّانين وكحرفيين إعادة بناء يحاكي السجن في الاستوديو. وقد بحث كذلك عن ممثِّلين، ليؤدوا دور الحرَّاس والمعتقلين. وهكذا بدأ الأشخاص الذين كانوا معتقلين شخصيًا، بمحاكاة سجنهم وبتقليده بشكل دقيق. وبالنسبة لمعظم المعتقلين المشاركين في الفيلم كان هذا السجن هو مركز المسكوبية الإسرائيلي للتحقيق والاحتجاز السيِّئ السمعة (الكائن ضمن ما يعرف باسم "ساعة الروسي") في شمال القدس.
وهذه العملية أثارت مختلف الأحاسيس والمشاعر. فالمعتقلون السابقون يشعرون بأنَّهم انتقلوا إلى وقتهم في السجن. وخلال سبعة أسابيع من التعاون المكثَّف في موقع التصوير نشأت كواليس سجن واقعية ومخيفة بمرافقة الكاميرا في عمل يراعي بأمانة أدقَّ التفاصيل وشبه مفعم بالمحبة.
وفي هذا العمل يعيدون تمثيليًا محاكاة مشاهد من الحياة اليومية في السجن ويواجهون معاناتهم في أشكال فنِّية مختلفة. والصوتيات في مكان التصوير، التي يستخدمها الفيلم بشكل مؤثِّر للغاية، تحاكي أصوات السجن المؤرقة: الصمت وصوت صفع أبواب الزنازين وكذلك زمجرة الحرَّاس وزعيقهم.
وهنا تم تصميم الكواليس وبناؤها مثلما يُصمِّم ويبني الآخرون شققهم أو بيوتهم. وتجربة السجن باعتبارها موقعًا جسديًا ترسَّخت بعمق. وعلى الرغم من أنَّهم قد غادروا السجن ذات يوم، غير أنَّهم لا يزالون يحملونه معهم طوال حياتهم في كلِّ مكان. ومن خلال إعادة بنائهم لهذا المكان، ظهر أنَّهم "يهدمون" أيضًا جزءًا من صدمتهم. وفي هذا العمل كانوا يكدحون بالمعنى الحقيقي للكلمة. وجميعهم خاضوا تجارب مختلفة، كانوا يكبتونها جزئيًا.
لا مكان للمراجعات الذاتية
في المجتمع الفلسطيني لا بدَّ لهم -مثلما يقول رائد أنضوني- من أن يتطابقوا مع كليشيه الرجل القوي وتمجيد المعتقلين الفلسطينيين باعتبارهم أبطالًا، وهنا لا يوجد لديهم أي مجال للمراجعات الذاتية. وفي مكان تصوير الفيلم تعود إليهم ذكرياتهم المكبوتة بطريقة أكثر شدَّة. ويلاحظ أنَّ أحد الممثِّلين المعتقلين السابقين بات يشعر بالارتياح، بعد أن تحدَّث حول تجربته المخيفة. وهذا المعتقل السابق لم يتمكَّن من منع أخيه من الانتحار داخل المعتقل، ولذلك فهو يعاني من شعور كبير بالذنب. ولدى معتقلين سابقين آخرين تثير الذكريات كوابيس ونوبات من الذعر والهلع.
"لا بدَّ للمعتقل من أن يقضي على الأشياء التي ترهقه وتثقل على عاتقه، وإلاَّ فإنَّها سوف تقضي عليه"، مثلما يقول المخرج رائد أنضوني. ومع ذلك فهو يشعر بما يشبه تأنيب الضمير، لأنَّه يُدخل هؤلاء الأشخاص إلى هذه العملية. وفي هذا الصدد يقول رائد أنضوني: "أنا لم أحتجزهم، حيث كان بإمكانهم الذهاب في أي وقت أو إكمال المشروع". ومن أجل الرعاية والإشراف كان يوجد لديهم طبيبٌ نفساني فلسطيني. لقد استغرق عمل رائد أنضوني على السيناريو سنتين، ولكن المشاهد في مكان التصوير نشأت في نهاية المطاف بشكل ارتجالي. وفي هذا العمل تتلاشى جميع الحدود: بين الفيلم الوثائقي أو الفيلم الروائي، وبين التجربة الاجتماعية أو العلاج الجماعي، وبين الواقع أو الخيال.
وكذلك تتلاشى الحدود بين أدوار السجناء والسجَّانين. جميع هؤلاء الرجال مكثوا فترة في السجن، وكلُّ فرد منهم مصابٌ بصدمة، لكنه يتعامل بشكل مختلف مع صدمته. وجميعهم تحوَّلوا من دون إرادتهم إلى خبراء: خبراء بالسجن، وخبراء بالتعذيب، وخبراء في تقنيات التحقيق. وخبراء في الإذلال.
وبفضل خبرتهم الخاصة ومراقبتهم لحرَّاس السجون والمعتقلات الإسرائيلية والمحقِّقين فقد استوعبوا إيماءاتهم وأفعالهم، وبات بإمكانهم أن يستحضروها بسهولة. وعندما يقومون بإعادة تمثيل مشاهد في المعتقل بحسب الأدوار المسندة إليهم، فعندئذ يبدو تمثيل دور الحرَّاس مُقْنِعًا للغاية، وحتى اللهجة العامية العبرية، التي تعلـَّموها جميعًا في المعتقل.
في هذه المشاهد المروِّعة يغطـِّي السجَّانون رؤوس المعتقلين بأكياس، ويُقيِّدونهم بقسوة، وكذلك يجبرونهم على الوقوف بوضعيَّات غير مريحة. وعندما يستخدمون -الآن في حالة التمثيل- العنف الذي عانوا منه في السابق، وعندما يُهينون المعتقلين ويصرخون في وجوههم، عندما يفقدون صوابهم تمامًا وسيطرتهم كلّها على أنفسهم، فعندئذ يتَّضح جزئيًا مدى "الأشباح" التي لا تزال كامنة في داخلهم. ولذلك كان لا بدَّ كثيرًا من إيقاف تصوير المشاهد، قبل أن يخرج العنف عن السيطرة.
قصة عالمية حول قوة الإنسان وسوء استخدامها
هذه قصة فلسطينية، غير أنَّها كذلك قصة عالمية حول قوة الإنسان وسوء استخدامها. لقد أظهرت بالفعل في السابق الدراسة النفسية "اختبار سجن ستانفورد" مدى سرعة تمكُّن الناس من تحديد هويَّتهم بدور حرَّاس السجن العنيفين. ولكن رائد أنضوني يذهب إلى أبعد من هذه المستويات من التحليل الاجتماعي. فهو مخرج سينمائي وقد أخرج فيلمًا رائعًا. وهذا اقتراب في غاية الإنسانية والسيرة الذاتية من الموضوع.
رائد أنضوني بالذات يصف تجربة اعتقاله في فترة شبابه -رغم بشاعتها وفظاعتها- بأنَّها شكَّلت أيضًا درسه الأوَّل حول إخراج الأفلام. والتجربة القاسية تجبر الشخص المعتقل على استخدام خياله من أجل الخروج من السجن ومن أجل البقاء.
وكذلك يروي في مكان تصوير الفيلم العديدُ من المعتقلين السابقين، كم ساعدهم الخيال أثناء فترات اعتقالهم في البقاء على قيد الحياة، عندما كان يبدو لهم أنَّ أفراد أسرهم المقرَّبين أو الأطفال المولودين حديثًا حاضرون لديهم جسديًا. وفي مشهد متحرِّك يحلم سجين بأنَّه في عالم خيالي رائع، مثلما كان يحلم رائد أنضوني وهو في سنِّ الثامنة عشر. وحول ذلك يقول: "في تلك الأيَّام صحيح أنَّني لم أكن مخرج أفلام، ولكن ذلك كانت له علاقة جوهرية للغاية مع ما يحدِّد السينما".
فيلم رائد أنضوني يؤدِّي أيضًا مهمته، لأنَّه وجد شخصيات رائعة. يقول رائد أنضوني: "بالنسبة لي هذه قاعدة ذهبية، فأنا أعمل فقط مع أشخاص يمكن أن أشعر نحوهم بالمودة. وخلاف ذلك تنعدم العاطفة والطاقة، اللتان تحدِّدان الفيلم الجيِّد". والمشروع يوحِّد الأبطال. وهذا بالنسبة للجميع صعب، ولكنه يثريهم أيضًا، ويمثِّل لهم مصدر إلهام، بالإضافة إلى أنَّه مضحك. وحتى في المعتقلات والسجون كانوا يضحكون، وذلك لأنَّ النكتة هناك تمثِّل واحدة من استراتيجيات البقاء على قيد الحياة. وجميعهم يشتركون في تجربة، غير أنَّ شخصياتهم مختلفة تمام الاختلاف.
وفي حين أنَّ فيلم رائد أنضوني يمنحهم مساحة للتعبير عن أنفسهم، فإنَّ هذا الفيلم يتجنَّب أي شكل من أشكال الكليشيهات والصور النمطية. وهذا الفيلم لا يقف عند النظر إلى المعاناة أو عند تمثيل أدوار الضحايا. إذ إنَّ عمل رائد أنضوني هذا يمكن أن يعمل كعلاج للصدمة ويتيح الفرصة لمناقشة مشكلة المعتقلين السياسية. بيد أنَّه يعمل قبل كلِّ شيء كفيلم سينمائي مثير للإعجاب يدور حول أساسيات الحالة الإنسانية.
رينيه فيلدأنغل
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2017