جاز عربي أوروبي : موسيقى جاز "مُقَرمَشة" بآلة عود
مضت أربعة عقود تقريبًا على اضطرار عازف العود الشاب ربيع أبو خليل إلى الفرار من الحرب الأهلية في لبنان واستقراره في مدينة ميونخ الألمانية، ليصبح واحدًا من أكثر الفنَّانين إبداعًا وأهمية في هذا النوع الموسيقي: "موسيقى الجاز الشرقية"، بحيث لا يمكن اليوم تصوُّر مشهد موسيقى الجاز الأوروبي من دون ربيع أبو خليل.
لقد أثار هذا الفنَّان اللبناني إعجاب جمهور عالمي بألحانه المجنونة، المترعة بالإيقاعات غير المتساوية، وبجوانبه الفكاهية وكذلك الحزينة. وفي ذلك كثيرًا ما يفضِّل الاعتماد منذ عام 2003 على نفس الموسيقيين، وقد تمكَّن بالتالي من تكوين صورة صوتية متماسكة وواضحة.
في الأعوام الأخيرة، اختار ربيع أبو خليل، الذي يعتبر من أبناء مدينة ميونخ، أن يعيش حياة أكثر هدوءًا، حيث انتقل إلى جنوب فرنسا. وفي عام 2012 صدر ألبومه "ناس جياع"، ومنذ ذلك الحين منح نفسه فترة طويلة لتأليف عمل موسيقي جديد. وها هو يصدر عملًا موسيقيًا بعنوان "الطوفان ومصير السمك". يحتار المرء حول هذا العنوان، الذي يجعلنا نفكِّر بعبوس.
ماذا حدث للسمك أثناء الطوفان؟
"هل سبق لك أن فكَّرت ذات مرة ماذا حدث للسمك أثناء الطوفان؟" يضحك ربيع أبو خليل بشكل استفزازي، ويقول: "لقد غضب الكثيرون حقًا عندما طرحت هذا السؤال، الذي يرمز بالنسبة لي إلى كيفية قيامنا كبشر بإغلاق أعيننا عن الحقائق والمشكلات الواضحة عندما نسعى إلى هدف مختلف".
ويضيف: نحن ببساطة لا نريد رؤية المشكلات الموجودة من حولنا - وهذا ينطبق سواء على مستوى حياتنا الخاصة أو كذلك على مستوى السياسة المناخية، حتى وإن كان ذلك يتعلق ببقائنا كبشر. ومع ذلك فإنَّ ربيع أبو خليل ليس واعظًا صارمًا، فهو يترك الموسيقى تتحدَّث عن نفسها. غالبًا ما يجد عناوين مقطوعاته وألبوماته لاحقًا، ومن الممكن أن يكون وقعها عندئذ ساخرًا. يترك صوت البحر على ساحل الريفيِرا الفرنسي "كوت دازور" كخلفية لحديثنا شعورًا وكأننا نقضي إجازة.
هل كان لهذا الجو المُريح في مقر إقامته الجديد بالقرب من مدينة "كان" الفرنسية تأثير على موسيقاه؟ في هذا الصدد يقول ربيع أبو خل، الذي انتقل إلى الجنوب لأنَّ هذه المنطقة تُذكِّره بوطنه: "أنا لم أنتقل إلى هنا في عمر العشرين، حيث يمكن لتغيير المكان أن يُغَيِّرنا. ثمانون في المائة من الناس الذين يعيشون هنا ليسوا من هنا أصلًا. جنوب فرنسا - باستثناء المدن الكبرى - هو فراغ ثقافي، وهذا يعجبني لأنَّ لديَّ هنا الحرّية الكاملة لأفعل ما أريد".
هذه مفارقة: لقد شارك سبعة موسيقيين في ألبوم ربيع أبو خليل: "الطوفان ومصير السمك"، وهذا لم يحدث منذ فترة طويلة. بالإضافة إلى الأعضاء الثلاثي الدائمين: جارود كاغوين (على الإيقاع) ولوتشيانو بيونديني (على الأكورديون)، فقد ضمَّت مجموعةُ العازفين عازفَ الساكسفون غافينو مورغيا وعازف الناي المبدع قدسي إرغونر.
وكذلك لعب البرتغالي فاديستا ريكاردو ريبيرو دورًا رئيسيًا في هذه التشكيلة. العازفة الجديدة تمامًا في تشكيلة ربيع أبو خليل هي اليابانية إري تيكيا، التي قدَّمت من خلال عزفها على الكمان الكلاسيكي نغمات طويلة مستمرة كنسيج للآلات الموسيقية العديد ذات النغم القصير. وعلى الرغم من ذلك يبدو كلُّ شيء أسهل وأكثر حميمية من ذي قبل.
إيقاعٌ تعرجيّ في مقطوعة "طبقة خارجية من الفُتات المُقَرْمَش" الموسيقية
يعود سبب ذلك إلى أنَّ كوكبة العازفين تتغيَّر من قطعة موسيقية إلى أخرى وإلى أنَّهم لا يعزفون جميعًا في وقت واحد. وحول ذلك يقول ربيع أبو خليل: "لقد جمعتُ عددًا من المقطوعات التي عملتُ عليها بالتوازي مع عازفين مختلفين. ولكنني لم أرغب في إصدار ثلاثة سيديهات، وهكذا نشأت فكرة التسجيل مع مجموعات "موسيقى الحجرة". وكان من المهم بالنسبة لي أَلَّا يتم التسجيل خلال يومين أو ثلاثة أيَّام، بل أن نأخذ ما يكفينا من الوقت وتحديدًا لديّ في بيتي، حيث يمكننا أن نأكل ونعيش ونُسجِّل سوية. أعتقد يمكن للمرء سماع ذلك أيضًا".
غير أنَّ مصطلح "موسيقى الحجرة" لا يعني أنَّ هذا العملَ له صوتٌ حميميٌ بشكل خاص، بل على العكس من ذلك. فقد تمكَّن غونتر كاسبر - الذي أكمل التسجيل بعد وفاة مهندس الصوت المخضرم فالتر كڤينتوس - من إخراج صوت له حضور قوي وأقرب إلى موسيٍقى الروك. يصفه ربيع أبو خليل بأنَّه "أكثر قرمشة"، ويشير بذلك إلى مقطوعة رائعة متعرِّجة الإيقاع اسمها "طبقة خارجية من الفُتات المُقَرْمَش" Crisp Crumb Coating - وقد استعار هذا العنوان من إعلان تجاري من (شركة) أورسون ويلز لأصابع السمك. وهنا يعيدنا إلى السمك مرة أخرى.
كذلك يؤثِّر التجديد في الآلات الموسيقية تأثيرًا كبيرًا في الصوت. ويكشف عن ذلك ربيع أبو خليل بقوله: "أستخدم منذ أعوام عديدة عود باص يتم ضبطه بأوكتاف أقل. لقد تم بالفعل وصف مثل هذه الآلة من قِبَل الفيلسوف والعلاَّمة العربي الفارسي أبو نصر محمد الفارابي [من إقليم تركستان (كازاخستان حاليًا)] في العصور الوسطى. وقد كلَّفتُ بصنع هذه الآلة صانعَ الآلات الموسيقية الخاص بي في ميونخ، ولكنها كانت كبيرة جدًا بحيث أنَّني لم أتمكَّن من العزف عليها. والآن ها قد حشرتُ نفسي خلفها، وانظُرْ كيف يتكيَّف جسدي معها. الآن يمكنني العزف من دون صعوبة".
وبما أنَّ الفرنسي ميشيل غودار لم يشارك هذه المرة بأسطوله من آلات الباص وبوق التوبا والسيربنت، فقد تولى العزف على آلات الباص العديد من الموسيقيين: ربيع أبو خليل نفسه وعازف الأكورديون لوتشيانو بيونديني وكذلك عازف الدرامز جارود كاغوين.
ولكن في المقطوعات الغنانية الأساسية: تألـَّق العازف فاديستا ريكاردو ريبيرو - المرافق لربيع أبو خليل منذ فترة طويلة - في تلحين قصيدة "كيري" المعروفة الناقدة للدين للشاعر (البرتغالي) آري دوس سانتوس. أمَّا في قصيدة "الحبّ الزائف" Falso Amor فهو يُعِيْد المستمعين إلى العصر الذي كانت فيه البرتغال عربية. يرجع أصل هذا النصّ إلى الكُميت الغربي، وهو شاعر كان يؤلف الشعر في نحو عام ألف ومائة ميلادي فيما يعرف اليوم باسم مدينة بطليوس البرتغالية، التي كانت في ذلك العصر جزءًا من منطقة نفوذ الأندلس في شبه الجزيرة الأيبيرية.
وفي قصيدة "منطقة الحبوب" Grãos De Area، التي كتبها أنطونيو روشا، يتكيَّف فاديستا ريكاردو ريبيرو وقدسي إرغونر مع حوار بين الصوت والناي - وهذا تحدٍ لوني بالنسبة لهما. يقول ربيع أبو خليل إنَّ فاديستا ريكاردو ريبيرو قد نجح هذه المرة أيضًا في تجاوز أفق [موسيقى] الفادو [البرتغالية].
ويضيف ضمن هذا السياق: "هذه القدرة على تجاوز ما هو خاص للغاية، ولكن في الوقت نفسه من دون أن يقفد المرء ما يميِّزه: هذا ما أبحث عنه وأُقدِّره لدى العديد من الموسيقيين الذين أعمل معهم. أعتقد أنَّ لديَّ موهبة خاصة للتعرُّف على هذه القدرات". من المقرر أن يقوم ربيع أبو خليل في شهر آذار/مارس 2020 بجولة مع مجموعته الثلاثية في ألمانيا - ليخبرنا عن مصير السمك أثناء الطوفان.
شتيفان فرانتسن
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019