شاعر ألمانيا غوته وسيط مثالي بين الثقافات
كتاب غوته "الديوان الشرقي للشاعر الغربي" أصبح كتابَ الساعة، حتى بعد نحو عشرين عامًا من هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 الإرهابية في نيويورك وواشنطن، فالسائل منذ ذلك الوقت عن القاسم المشترك -الممكن أن يكون ما يزال قائمًا بين "الإسلام" وَ "الغرب"- يقع حتمًا على مجموعة قصائد غوته المنشورة عام 1819 (بالألمانية تحت عنوان "الديوان").
ورغم نشر طبعات جديدة عديدة رفيعة المستوى -معلَّق عليها تعليقًا دقيقًا- في تسعينيات القرن العشرين (طبعة كاترينا مومسِّن وهندريك بيروس) لكن مجموعة قصائد غوته هذه هي الأكثر شمولًا (والوحيدة من نوعها مجموعةً في كتاب) وكانت تعتبر لفترة طويلة بمثابة نصيحة مقدَّمة من الداخل.
ظلت هذه النصوص -بإشاراتها إلى الإسلام- غريبة على جمهور واسع، رغم أنَّ غوته قد أنجز من أجل "فهم متبادل أفضل" قطعةً نثرية تقع في أكثر من مائة وخمسين صفحة عن تاريخ أدبي وثقافي حقيقي للإسلام مُدوَّن بريشة شخص عادي متحمِّس يعشق الشرق.
لقد نشأ هذا الاندفاع الإبداعي عند غوته نظرا لاكتشافه شعر الشاعر الفارسي شمس الدين محمد حافظ الشيرازي، الذي عاش في شيراز القرن الرابع عشر الميلادي، وقد ترجم "ديوانَه" كاملًا إلى الألمانية لأوَّل مرة في عام 1814 المستشرقُ النمساوي هامر-بورغشتال.
يصف غوته التأثير المذهل لقصائد حافظ على النحو التالي: "كان يجب عليَّ أن أتصرَّف إزاءه بشكل مثمر، لأنَّني عدا ذلك ما كنت أستطيع مواجهة هذه الظاهرة العظيمة". وكذلك يصف هذه اللحظة أستاذُ اللاهوت الألماني كارل-يوسف كوشِل في كتابه المعروض هنا للبحث بأنَّها "لحظة حاسمة في الأدب العالمي".
اهتمام مكثَّف بالإسلام...كل ما كتبه شاعر ألمانيا عن الإسلام
يعتبر عمل حافظ بمثابة ذروة شعر تقليدي ممتد لقرون من الزمن يُعرف باسم الـ"غزل"، تعود أصوله إلى شعر الحبّ العربي، المبالغ فيه عند الصوفيين ولا يزال موجودًا حتى يومنا هذا في العديد من اللغات الإسلامية.
ويكمن فنُّ حافظ الخاص في المزج بين المستويين الدنيوي والديني على نحو يُزيل كلَّ وضوح ويدمج كلا المستويين في بعضهما.
ويمكن أن يكون (في هذا الشعر) المحبوب أو المحبوبة هو الله، ونشوة النبيذ قد تعني النشوة الدينية، ولكن ليس بالضرورة أن تكون المعاني كذلك. لقد كان غوته أوَّل أديب أوروبي عظيم استوعب أنَّ حافظ يعتبر شاعرًا ذا مكانة عالمية يرقى إلى مستوى واحد مع شكسبير ودانتي وهوميروس.
المواد الموجودة في هذا الكتاب، الذي نشره عام 2021 أستاذ اللاهوت المتقاعد كارل-يوسف كوشِل، والمعلق عليها بشروحات مستفيضة والمزيَّنة برسومات رائعة حول "غوته والقرآن" - مستمدة إلى حدّ كبير من قصائد "الديوان". يضع الأستاذ كارل-يوسف كوشِل هذه المواد ضمن سياقها ويشرحها بطريقة هادفة مستعينًا بنصوص وشهادات تعود لمراحل إبداعية أخرى من عمل غوته. استمر اهتمام غوته بالإسلام طوال حياته وبلغ ذروته في أعماله المبكِّرة وفي سنواته الأخيرة.
يبدأ كارل-يوسف كوشِل بمقتطفات من ترجمة غوته للقرآن وبأجزاء من مسرحية كان مخططًا لها بعنوان "محمد"، وكانت تفهم مؤسِّس الإسلام ضمن سياق تقديس العبقرية وحركة "العاصفة والاندفاع". وفي هذا الصدد فقد أراد غوته أن ينتهج نهجًا مختلفًا تمامًا عن فولتير، الذي نقلت مسرحيَّتُه مأساة "محمد" (كان عرضُها الأوَّل في عام 1741) إلى خشبة المسرح الأوروبي افتراءً مُستهدفًا على النبي باعتباره محتالًا من دون ضمير.
لم يكن في نية غوته أيضًا جعل محمد شخصًا مثاليًا. ولكنه كان يرى فيه تجسيدًا خالدًا للصراع بين العديد من الشخصيات الدينية المستقلة عن ثقافاتها الخاصة: صراع بين المثالية الأخلاقية وبين القيود الدنيوية الداخلية السياسية، التي تفسد كلَّ التعاليم البحتة. وبحسب ما أبرزه كوشِل في كتابه هذا فقد كانت هذه صراعات تَمكَّن غوته من ملاحظتها لدى صديقيه اللاهوتيين يوهان كاسبَر لافاتر ويوهان برنارد بايدو.
تناقض مع مسرحية فولتير الجدلية "محمد"
عندما طلب الدوق كارل-أَوْغُست من غوته في عام 1799 أن يخرج مسرحية فولتير "محمد" في مدينة فايمار الألمانية، وقع غوته في مأزق تمكَّن من حله من خلال ترجمته هذه المسرحية بنفسه واختصار مقاطع الافتراء والتشهير بشكل خاص.
ولم يكن هذا الاختصار كافيًا لذوق الشاعر يوهان غوتفريد هيردر وزوجته كارولين في مدينة فايمار. فقد كتبت كارولين هيردر في مذكِّراتها يوم الحادي والثلاثين من كانون الثاني/يناير: "لم أكن أتخيَّل قطّ أنَّ غوته يرتكب مثل هذه الخطيئة ضدّ التاريخ وضدَّ الإنسانية - فقد حوَّل محمدًا إلى شخص محتال وقاتل وشهواني فظّ وفظيع".
وعلى العكس من فولتير بأسلوبه القاسي المستهتر، الذي كان يتعامل بخشونة مع خصومه، فقد كان هيردر قادرًا على مدح محمد وانتقاده - لأنَّ تصوُّر هيردر للتاريخ كان يقوم على تطوُّر الطبيعة وزوالها.
وفي هذا الصدد يقول هيردر: "قرآنه - هذا المزيج الغريب من فنّ الشعر والبلاغة والجهل والحكمة والعجرفة هو مرآةُ روحه، التي تبيِّن عطاياه ونواقصه وميوله وأخطائه (...) بوضوحٍ أكثر من قرآن أي نبي آخر".
وعندما التقى غوته بعد بضعة أعوام بنابليون بونابرت في مدينة إرفورت الألمانية، فُرضت عليه من جديد المقارنة مع نبي الإسلام. ونابليون -بالمناسبة- لم يكن يستحسن مسرحية فولتير "محمد" كثيرًا وكان يترك في معاصريه تأثيرًا رائعًا وخطيرًا - تمامًا مثل تأثير محمد على معاصريه.
ولذلك ليس محمد والإسلام -كدين- بل حافظ وشعره سمحا في نهاية المطاف لغوته بالتماهي مع "الشرق". كما أنَّ ما جذب غوته ليس الفهم العقائدي بل الفهم الروحي للدين، حيث كتب: "من الجنون أنَّ كلَّ مَنْ في حالته / يمدح رأيه الخاص / إن كان الإسلام يعني التسليم لله / فنحن جميعًا نحيا ونموت في الإسلام".
تجارب الاغتراب والغربة عن الوطن
قام كارل-يوسف كوشِل -الذي شارك مشاركة مكثَّفة في "مؤسَّسة الأخلاق العالمية" الخاصة بهانز كونغ- بإبراز جوانب الإسلام العالمية التي جذبت غوته إبرازا مفهوما. ويعتبر حافظ أهم ممثِّل لهذا الاتِّجاه في منطقته الثقافية، أمَّا غوته - الذي وجد وَحْدَة الوجود في (الفيلسوف الهولندي باروخ) سبينوزا - فقد تابع بسلاسة عمل حافظ.
وعلى الرغم من الميل إلى تجاهل هذه الحقيقة اليوم، إلَّا أنَّ الإسلام كان منتشرًا جغرافيًا أكثر من المسيحية قبل عصر الاستعمار. وحتى أثناء حياة غوته، كانت قصائد حافظ تتم قراءتها ومحاكاتها من سراييفو إلى إسطنبول وحتى في دلهي؛ وكانت جزءًا من التقاليد "الإنسانية الأدبية في اللغة الفارسية" الممتدة لألف عام، مثلما سمى باحث الدراسات الإسلامية الإيراني-الأمريكي حميد دباشي هذه الثقافة في كتابه الصادر بهذا العنوان في عام 2012.
وبهذا فإنَّ "ديوان" غوته أيضًا ليس مجرَّد جزء من التاريخ الثقافي الغربي والشرقي، بل هو نموذج للحاضر والمستقبل في مجتمع عالمي تُقرِّر مصيرَه العولمةُ، التي تعود بداياتُها إلى زمن غوته وقد تجلّت في الاستعمار الناشئ في تلك الحقبة وكذلك في حملة نابليون على مصر. لقد عاشت الحضارة الإسلامية في فترة سابقة الاغتراب الدنيوي الداخلي والغربة عن الوطن المرافقين لهذه العولمة، وخير دليل على ذلك شعر حافظ الذي عرف هذه المأساة وصار مرآةً لها.
قام الخطَّاط والفنَّان الباكستاني شهيد علام بتزيين قصائد غوته في الترجمة العربية بكلمات مخطَّطة بخط كبير الحجم ومفعم بالألون، وقد طُبعت في هذا الكتاب. وتتشابه أجواء هذا الخط مع لوحات الفنَّان مارك شاغال، غير أنَّ هذا النوع الإسلامي لا يكتسب حيويَّته من الشخصيات المتحرِّكة، بل من تخطيط الحروف المفعمة بالحياة. ينظر لها المرء بكلّ سرور ويتذكَّر رؤية غوته القائلة إنَّه: "لا توجد لغة تتجسَّد فيها الكلمة والروح والكتابة بهذا الشكل الأزلي" مثلما هي الحال في اللغة العربية.
شتيفان فايدنَر
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2021
كتاب كارل-يوسف كوشِل وَ شهيد علام: "غوته والقرآن"، صدر عن دار نشر باتموس، سنة 2021، في 432 صفحة.