قصص جيش القمامة و"تجارة الولدان" في طهران
تسعة آلاف طن من القمامة ينتجها سكان طهران (10 ملايين نسمة) بوتيرة يومية. جيش غالبيته من الأطفال يجمع ويفرز ويبيع زبالة العاصمة الإيرانية. قصص فتيان غريبة موجعة تكشف مافيات كبرى تدير هذا العمل الذي يدر أرباحا غير مرئية يحصدها مقاولون متعاقدون مع بلديات مدينة ذات أطراف مترامية. ملهم الملائكة تتبع مسار الصبيان في طهران وسألهم عن عملهم وعن الدعارة. ويحكي لموقع قنطرة ما حدث له مع الجهات الأمنية.
لو تجولت في شوارع طهران المكتظة فلا بد أن يصادفك صبية يحملون بالات ثقيلة، يضعونها على ظهورهم ويمضون بها سِراعا إلى مكبات القمامة.
إنهم جيش القمامة الذي لا يعرف أحد عدده بالضبط. هم يجمعون القمامة، ثم يقسمونها إلى قمامة ناشفة وتشمل: ورق وكارتون، بلاستيك، خشب، حديد، زجاج، وتأتي سيارات المقاولين لتأخذ المحصول المصنّف إلى مصانع تدوير القمامة.
أما القمامة الرطبة فهي الأصعب، وتشمل مخلفات الطعام عموما، مضافاً إليها المواد التي لا هوية لها، نشافات صحية، مناشف الأطفال الملوثة بفضلاتهم، مناشف النساء المدماة، مناشف وضمادات المشافي والمراكز الطبية، الحقن الطبية، وبضعة أشياء أخرى لا هوية لها.
هذه الزبالة لا يريدها أحد وتسبب أمراضاً لا حصر لها، كما أنّ التخلص منها يتطلب نقلها إلى مكبات القمامة على أطراف جنوب العاصمة غير المرئية، فتكدّس هناك وتحرق بشكل عشوائي. جمع وتصنيف وإتلاف وتدوير الزبالة يدر أكثر من مليار تومان يومياً .
بيروقراطية الفساد تحمي المقاولين
هؤلاء الأطفال تفتك بهم الأمراض، وهم في الغالب ضحايا الاغتصاب الجنسي، ويتداول بعضهم المخدرات، بل أنّ الدولة لا تستطيع أن تحميهم لأسباب بيروقراطية تسعى غالبا إلى التستر على الفساد.
أغلب من التقيناهم أكدوا أن القانون لا يبيح وجود شيء اسمه مقاول القمامة، فالبلديات هي التي تتكفل بذلك. لكنّ البلديات، بكادرها القليل جداً لا تستطيع قطعاً أن تصنف القمامة وأن تجمعها وتدورها، لذا تترك الأمر لاتفاق غامض غير معلن حول تدوير القمامة.
القانون يجيز للبلديات أن تصرف أموالا لتصنيف وتدوير القمامة، وهي تفعل ذلك ضمن صفقات مع مقاولين ووسطاء، لكنها تشترط عليهم أن يقوموا هم بجمع القمامة، وهكذا تتملص البلديات الرسمية من واجباتها، وتوكل كل شيء للوسطاء.
وفقا لدراسة صدرت عن "جمعية الإمام علي للإغاثة الطلابية - الشعبية"، فإنّ كل صبي يجمع خلال اليوم 60 كيلوغراما في المعدل، وهم يعيشون في ورش تفريق وتصنيف وفرز القمامة.
حاولتُ عبثاً الوصول إلى الورش المشار إليها، لكنّ العاملين صغارا وكبارا، رفضوا أن يقودوني إلى إحداها، وضحك أحدهم وهو في العشرين من عمره وهو يقول "هذا سر المهنة".
وهكذا كان علي أن اكتفي بالمشاهد التي عرضت علي في الشوارع والأزقة. وبدأت رحلتي معهم بناء على نصيحة من الساعة السادسة مساء، حيث رافقتهم في شوارع وأزقة مناطق ولي عصر، ميدان ونك، شارع ونك، شارع برزيل، شارع ملا صدرا، وصولا إلى بعض مساحات تكديس القمامة، وعددها 30 مساحة زرت منها مساحة "نوآوران سبز شایسته".
رئيسة مجلس شورى طهران، إلهام فخاري وكما نقل عنها موقع مخبر، وصفت وضع جيش القمامة بالقول" أغلبهم مصابون بأمراض عدة، لكنّ هذا لا يتصدر قائمة مشكلاتهم التي تضم فيما تضم الاستغلال الجنسي" .
وطيلة ساعات جولتي، حاولت مرارا أن انفرد ببعض جنود جيش القمامة لأحاورهم، لكن وجود مراقبي العمل المستمر منعني من الحصول على أي حديث منهم، وهكذا تحتم عليّ الانتظار إلى أن ينتهوا من عملهم.
الناشط في الدفاع عن حقوق الأطفال مظفر الوندي، تحدث إلى موقع "بهداشت نيوز" بخصوص أطفال القمامة ومعاناتهم، هناك متابعة حثيثة ومستمرة في محاولة لإخراجهم من محنتهم" .
ومضى إلى القول: "جمع القمامة مشكلة متعددة الجوانب، البلديات لا تؤيد بشكل رسمي وجود هذه المشكلة، أما الواقع فهو أن هؤلاء الأطفال واقعون تحت رحمة المقاولين المتعاقدين مع البلديات، والذين يقومون بجمع وتصنيف وفرز القمامة ثم تدويرها في المقالع على أطراف طهران الجنوبية، لاسيما أن هؤلاء الأطفال يسكنون في تلك المقالع".
الفقر يدفعهم لسلوك طريق القمامة!
لكنّ كل هذا لم يحل مشكلة الفقر المدقع الذي يهرب منه سكان الريف، ليجدوا في أزقة العاصمة وأحزمتها الفقيرة ومدن الصفيح جنوبها مكانا لجمع رزقهم ومسكنا لهم.
بقيت اتنقل في شوارع العاصمة، وحيثما شاهدت أطفال القمامة، حاولت أن أحاورهم، لكن حتى بغياب مراقبي العمل، وجدتهم يرفضون الحديث ويخافون وسائل الاعلام.
وهكذا مضى شوط كبير من الليل، ليفاجئني منظر رجل قد تجاوز الخمسين، وهو يحاول بمقشته أن يجمع كل ما خلفه المارة على رصيف ميدان ونك. رياح الخريف الباردة تطير بمعطفه العسكري البالي، فتظهر ملابسه الرثة. هو ليس البالغ الوحيد بين جيوش صبيان القمامة في طهران، لكنه بدا لي وقورا بشكل ملفت للنظر.
انصرفت عنه مؤقتا لأتجول في المنطقة وأزقتها، والتقطت صوراً لجيش الصبيان وهم يجمعون القمامة من أرصفة العاصمة العملاقة، وفي نفسي ألف سؤال منها، أحقا أن هؤلاء هم صبيان العاصمة العملاقة، وأين يذهبون بعد انتهاء العمل مع انتصاف الليل؟
بعد انتصاف الليل بنحو أربعين دقيقة، تجمع الصبيان والبالغين، في نقطة متفق عليها، وجاءت سيارات صغيرة وكبيرة وشاحنات مكشوفة وحتى عربات تسحبها جرارات زراعية فأقلتهم - وأنا معهم- إلى بارك قريب، حيث تجمعوا في ظهر باحة مسجد كبير يطل على البارك.
وصل شخص متوسط العمر بسيارة أنيقة، ترجل منها وبيده حقيبة، وبدأ يقرأ أسماءهم، ويعطي كلا أجره. متوسط الأجر هو 10 آلاف تومان (نحو 3 دولارات وقت كتابة هذا التحقيق).
الكهل الذي لفت نظري و اسمه (أ. ع) منحه الشخص المسؤول 8 آلاف تومان، وهو يقول: "نحن نراعيك أيها الحاج لكبر سنك، ونرجو أن تتفهم موقفنا، فأجرك لا يمكن أن يكون مثل أجور الباقين، لأنك تعمل ببطء" .
بعد انتهاء مراسم توزيع الأجور، استقل الجيش الجرار نفس وسائط النقل التي أوصلته إلى المكان، لتبدأ رحلة العودة إلى حيث ينام جند القمامة المجهولون، رحلت معهم الى بيوتهم ممتطياً عربة يسحبها جرار.
بيوت الكرتون والصفيح والمُشمَّع!
بعد رحلة استغرقت ساعة كاملة في شوارع طهران الخالية ليلاً، ترجلنا أمام مبنى مهجور، يعيش كل الجمع في أرجائها. في الليل يبدو المكان ثكنة تضجّ بالحركة.
مشيت مع الحاج أ.ع ، لأصل معه إلى حيث يعيش. فوجدتها بقايا ثكنة مهجورة، تهدمت جدرانها، وقد بنى الحاج من علب الصفيح جدارا وسقفا لها، غلفه من الخارج ببقايا قطع النايلون الضخمة المستخدمة في تغليف أطوال القماش وأطوال الورق وأطوال المشمع الكبيرة المنتشرة على أرضيات أسواق الجملة، فيما رُقِمَ الداخل بالكارتون للتقليل من تساقط أتربة السقف والجدران الرطبة.
جلس الحاج أ. على صندوق عتيق، ودعاني إلى التمتع بالجلوس على أريكة خشبية ينام عليها ليلا مفترشاً لحافا رثاً، وملتحفا ببضع بطانيات سوداء وكاكية بالية. ما إن جلسنا حتى أوقد لفافة تبغ، وبدأ يتحدث بلوعة مبررا وجوده في هذا المكان: "أعرف أنّ هذا العمل لا يليق بي، فأنا أحمل شهادتين، في الزراعة وفي تلقيح المزروعات، من جامعتي بهشتي في طهران، وآزادي آراك، لكن بعد خروجي من السجن، لم يقبل أحد أن يشغلني، فكان علي أن أرضى بأي عمل حتى تستقر الأوضاع".
فاجأتني صراحته، فسألته "متى غادرت السجن، ولماذا دخلته أصلا"؟ قال وهو يبتسم بمرارة: "غادرت السجن قبل شهرين، لفقوا لي تهمة لأني لا أشاركهم في مناسباتهم الدينية ولا أحضر صلواتهم في المشتل الذي كنت أعمل فيه، ولا أطلق لحيتي، وهكذا اتفقوا ولفقوا لي تهمة سرقة سموم مكافحة الحشرات العائدة للدولة وبيعها لحسابي. حقيقة الأمر غير ذلك، لكنّ الحال هو هكذا في الجمهورية الإسلامية، الموظف الحكومي مطالب بالحفاظ على مظاهر الإسلام بدقة، لكنهم سرقوا الوظيفة، وألغوا عقد العمل الذي أعيش عليه منذ 15 سنة، وتركوني عاطلا على الرصيف".
وعدت أسأله: " كم قضيت في السجن؟" قال حُكمت بخمس سنوات سجن، قضيت منها سنتين ونصف وشملني عفو المرشد لمن قرأوا وحفظوا القرآن في السجن فخرجت بنصف مدة الحبس". فاجأني ما قاله، فسألته مرة أخرى: "هل يُعفى من يحفظ القرآن من السجن؟"
ضحك وهو يجيب: "نعم يعفى عما تبقى من مدة الحبس، وذلك يتعلق بنوع حفظه، إذ تُجرى مسابقة يتلوا فيها السجناء ما حفظوه فتقر لجنة المسابقة حجم استحقاقهم بمستوى وكمية ما حفظوا".
وقبل أن أفارقه سألته: "لماذا لم تعد إلى أسرتك؟" تأملني بعين خلت من التعبير وهو يقول: "زوجتي طلقتني وأنا في السجن، ثم هاجرت إلى أمريكا، وليس لدينا أبناء، فبقيت وحدي".
وعدت إلى الهدف الذي جئت لأجله، جيش صبيان القمامة، فسألته كيف لي أن التقي بصبيان القمامة الذين جاءوا معنا، فضحك، وقال سأدعو بعضهم إلى هنا إذا شئت؟
لم أشأ أن أزعجه وأؤخر منامه بعد يوم شاق، فشكرته سائلا: ألا يوجد سبيل آخر للحديث معهم حيث ينامون، فأنا أريد أن أصور المكان وأن أرى مسكنهم؟ نهض خارجا ونادى أحدهم، ثم قال له أن يأخذني إلى أحسن غرفهم لأجري معهم حوارا صحفياً.
أحلام بالجواهر والذهب والدولارات وقطع السلاح!
رافقت الصبي الباسم، واسمه ع. ومشينا بضع مئات الأمتار، ثم تسلقنا سلما قذراً، ودلفنا إلى غرفة كاملة البنيان مغلفة بالكرتون والصور، وتشغل أرضيتها أربعة أسِرَّة صُفت إلى الجدران، وعلى الأسرة جلس ستة أو سبعة صبيان .
ع. بدا متلهفا للحوار، فبادرته للسؤال: "هل أنت من سكان العاصمة؟" فأجاب : "أنا من كركان، والدي فلاح، وقد أعياه المرض، فهاجرنا نحن نبحث عن عمل، أنا وأخي هنا في طهران، وأخي الثالث في خلخال، وأختي تزوجت من عربي وذهبت تعيش معه في أهواز، ولم يبقَ سوى شقيقي الأكبر وزوجته يعيشان مع أبي وأمي في الريف".
منذ متى أنت تعمل هنا؟
صار لي تقريبا سنتين...
كم عمرك اليوم؟
عمري 13 سنة.
يعني كنتَ في الحادية عشرة حين جئت هنا، هل تذهب لرؤية أهلك؟
أحيانا، في الأعياد خاصة..الرحلة إلى كركان مكلفة.
وكيف توصل النقود لأهلك؟
هناك شخص يسكن في المدينة، أضع نقودا في حسابه البنكي هنا، فيتصل بأهلي ويأتي إليه أحدهم ويعطيه المبلغ الذي حولته.
هل أنت راضٍ عن حياتك؟
ماذا أفعل، علي أن أعمل لاعيش. وأعرف أناساً باتوا بسبب الزبالة مليونيرات، الحاج قهاري الذي كان يعمل في طفولته هنا، يملك اليوم إحدى أكبر ورش فرز وتدوير الزبالة في جنوب طهران..سيارته بنز ويغيرها كل سنة.
وهل تعتقد أنك يمكن أن تكون مثله، فتصير مليونيراً من الزبالة؟
كل إنسان يأخذ المقسوم له، فإذا كان المقسوم لي أن أصير مليونيرا فسأصير.
ولكن الأطفال لا يعملون، بل يدرسون ويتعلمون؟
كنت دائما بطيء الفهم في المدرسة، ولا أطيق فنطزة المعلمين، لذا تركتها، وبدأت العمل في الحقل مع أبي منذ كنت في التاسعة.
يتدخل في الحوار الصبي ب. مؤيداً ما ذهب إليه ع. وهو يهمس بصوت لا يسمعه سواي: "لقد جمعت من العمل في الزبالة 3 مليون تومان، إنها مهر خطيبتي التي تنتظرني في زنجان".
أبادره بالسؤال: كم عمرك؟
عمري 15 سنة، وبعد ثلاثة أشهر أصبح 16 سنة، فأذهب لأشتري نيشان الخطوبة
هل أنت راضٍ عن العمل هنا؟
" الحمد لله، رزق على كل حال، ولكنّ هذا تقدير إلهي، الله يريدني أن أكد، وأنا أطيعه، فأعمل ليل نهار .
هل ترسل نقودا لأهلك؟
أكيد، كل واحد هنا يرسل نقودا لأهله ثم قال هامساً، هناك أشياء نعثر عليها في الزبالة لا تقدر بثمن. مصوغات ذهبية، قطع ألماس، مبالغ نقدية، مرة عثرت على ورقة 100 دولار، ولم أكن أعرف ما هي، وحين سألت قالوا لي إنّ قيمتها ربع مليون تومان، فذهبت وبعتها، وحولت نصف المبلغ لأبي. صديقي ع.ز، عثر على مسدس حقيقي، محشو بالرصاص، وقد باعه بأكثر من مليوني تومان. قد أعثر في يوم ما على كنز كبير يعفيني من هذه الحياة الصعبة.
اغتصاب فمتعة، فيصبح مومسا مذكراً!
بين كل هذه الأحلام شعرت بأني أفقد قياد حواري، فهم يحلمون بأن يصنعوا مستقبلا من القمامة. نظرت إلى أكبرهم سناً وبدا لي في الثامنة أو السابعة عشرة، سالته عن اسمه وعمره، فأجاب أنّه ف. وفي العشرين.
هل تفكر أنت أيضاً في كنز ينقذك من هذه الحياة؟
ابتسم بطريقة متميعة، ثم قال أنا لا أعمل في القمامة، لكني أبيت هنا مع أصدقائي أحيانا.
وماذا تعمل في طهران إذاً؟
اشتغل في التجارة، تجارة المواد الصغيرة.
كيف، تجارة؟
نعم، اشتري قمصاناً مهربة من العراق مثلاً، ببضع ريالات، وأبيعها بربح وفير على أرصفة طهران، وهكذا.
وخطر لي أن أسأله السؤال الممنوع الذي يلح على خاطري فقلت له: سمعت أن كثيراً من الصبيان هنا يتعرضون لاستغلال جنسي، فيتحولون إلى مهنة الدعارة، ويبيعون أجسادهم مقابل مبالغ معينة، هل تعرف شيئا عن هذا؟
اقترب مني وهو يهمس: يمكن القول إنّ هذا شائع جدا هنا، لكنه لا يشمل الجميع بالطبع، قالها وهو ينظر للصبية الجالسين حولنا كأنه يعتذر منهم. ثم مضى يشرح معنى ما قاله: يبدأ الأمر باغتصاب ولكنه غالباً اغتصاب برضا الطرفين، يعني الصغير يكون موافقا ولكنه خائف، ثم يتطور الأمر إلى علاقة بينهما، قد تستمر سنوات، ثم يتعلم الصبي أن يوظف مفاتنه ليعمل بائع هوى. أعرف كثيرين، ممن تغلب عليهم الوسامة، وتعلو وجوههم ملاحة تقترب بهم من ملاحة المؤنث، غادروا هذا المكان، ويعيشون في طهران الكبرى، ويشتغلون في مطاعم وفنادق بعنوان شاب مومس، وعليهم طلب كبير لدرجة أنّ مداخيلهم تكفيهم للعيش. أعرف آخرين يرافقون بعض الأثرياء ويعيشون معهم بشكل دائم بعنوان سكرتير أو مرافق شخصي. نظر إليّ نظرة ذات معنى، ثم أضاف: بالنسبة لهم هي مهنة وتسلية في نفس الوقت، وهذا نادر في حالات العمل.
وانتبهت إلى أنّ حديثنا الهامس لم يثر استغراب الصبيان الجالسين معنا، فاستنتجت أنّهم شهدوا مراراً حالات من هذا النوع لدرجة بات تداول الموضوع عندهم شبه يومي وعادي.
ليلة في مبيت المسجد
تجاوزت الساعة الثالثة ليلاً، فجمعت حاجاتي وقررت العودة إلى العاصمة، فقال ف. لن تجد وسيلة نقل إلى العاصمة الآن، عليك الانتظار حتى الساعة السادسة فتأخذ تاكسي إلى ترمينال جنوب للمترو، ومن هناك تأخذ قطار الأنفاق إلى حيث شئت. وبات الأمر مشكلة، فسألته أين يمكن أن أقضي الليلة في هذا المكان، فتشاور قليلا مع زملائه، وقال، توجد غرفة استراحة تابعة للمسجد المجاور، أعتقد يمكن أن يؤجرها الحارس لك لبضع ساعات، هل أكلمه؟
ورجوته أن يفعل ذلك، فكانت الغرفة المفروشة بالسجاد والتي مُدت حشوات النوم والوسائد على طولها، والملحق بها حمام ومرافق صحية نظيفة نسبياً مكانا لنومي مقابل 10 آلاف تومان سلمتها لـ ف. وتولى هو ترتيب كل شيء.
نمت ليوقظني صوت غليظ يسألني ماذا أفعل في هذا المكان؟
نظرت إلى الساعة فكانت تشير إلى الثامنة والنصف صباحا، جلست لأفهم ماذا جرى، فبدأ المتحدث يسألني بغلظة تدل على أنه من رجال الأمن، وقد سألته عن صفته التي تجيز له سؤالي بهذه الطريقة، قال لي إنه من أمن العاصمة "اطلاعات" ويريد أن يعرف ما غايتي من سؤال الصبية والمبيت في هذا المكان؟
ثمن المبيت سبعمائة دولار!
اشتد غضبي منه، فسألته بصوت عالٍ أن يُظهر لي بطاقته لأتأكد أنه من جهة رسمية، وكان فعلاً من جهاز الأمن "إداره اطلاعات تهران بزرك جنوب"، ثم طلب مني أن أريه الصور التي التقطتها، فعرضت عليه هاتفي المحمول، وبدأ يتصفحها، وهو يهز رأسه، وقال لي: "يجب أن تذهب معي إلى دائرة الأمن، أنت لا تملك إذنا بممارسة الصحافة في إيران، أنت صحفي أجنبي". وسال عرق بارد على ظهري وبت أتخيل أسوأ النتائج. ثم قال لي أرتدِ ملابسك وأنا أنتظرك في الخارج.
غسلت وجهي، وبدأت أرتدي ملابسي، فدخل ف. الذي جاء بي إلى هذا المكان، وسألني عما جرى مع مفوض الأمن، ورويت له الأمر، فقال يمكن أن نتدارك الأمر ببعض النقود، هات 50 ألف تومان، وسأكلمه ليصرف النظر عنك".
ولكني أريد هاتفي المحمول، فيه كل حياتي وأرقامي الخاصة.
سأرى ما يمكن وأعود إليك.
بعد 10 دقائق عاد ف. ليخبرني أنّ الأمر جرت تسويته، لكن المأمور "يرفض إعادة الهاتف المحمول، لأنه يحتوي على معلومات تجسسية خطيرة!"
أسقطُ بيدي، وفهمت الرسالة، إما أن أتخلى عن هاتفي المحمول الذكي وقيمته 700 دولار، أو سيلفق لي تهمة تجسس، وهذه أسوأ وأسهل تهمة تطلقها السلطات الإيرانية على كل من لا تحبه. فاتخذت قراري بألا أسلك طريق المجازفة، وقلت له" لا بأس، فهو مأمور فقير ويحتاج إلى هاتف مثل هذا، لا بأس، هل لي أن أغادر الآن؟"
وذهب ف. مرة أخرى ليسأله، وعاد باسماً وهو يقول: "يمكنك الذهاب على راحتك، سأوصلك بدراجتي النارية إلى المحطة القريبة".
وحين غادرنا المكان، أوصلني ف. إلى المحطة، وودعني معتذرا، وفي عينيه وميض غامض لم أفهمه للوهلة الأولى. ركبت أول سيارة أجرة وصلت المكان، لأغادر إيران برمتها بعد أسبوع وقد عقدت العزم على ألا أعود إليها.
ملهم الملائكة – طهران
حقوق النشر: موقع قنطرة 2018
ar.Qantara.de