الإمبريالية وكرة القدم في مصر: عن أسلاف أبو تريكة ومحمد صلاح
يحسب للمركز القومي للترجمة خلال العقدين الأخيرين، أنه أتاح للقارئ المحلي وحتى العربي فرصة الاطلاع على ترجمات تتناول تاريخ مصر في القرن العشرين، من زوايا أنثروبولوجية متعددة، كما أن المركز تمكن خلال سنوات قليلة من تحقيق تراكم لا بأس به في هذا الشأن، ما قدم خدمة جلية للباحثين، مقارنة بدول أخرى. فعلى صعيد سوريا مثلاً، ما نزال نفتقد لمؤسسة تعنى بترجمة ما ينشر حولها من تواريخ اجتماعية ومدينية جديدة، على الرغم من صدور عشرات الكتب حول البلاد وتاريخها في العقد الأخير فقط.
ومن بين الكتب المهمة الصادرة مؤخراً عن المركز، كتاب «الإمبريالية والهوية الثقافية وكرة القدم: كيف أنشأت الإمبراطورية البريطانية الرياضة الوطنية المصرية» تأليف المؤرخ الأمريكي كريستوفر فيرارو، ترجمة وليد رشاد زكي/ الذي يبدو من عنوانه أنه يحاول تعريفنا بتاريخ غير معروف في مصر والعالم العربي عموما، وهو تاريخ لعبة كرة القدم في هذا البلد، وكيف دخلت.
وكيف كانت عليه سير وحياة من ساهموا في نشرها في الإسكندرية والقاهرة. كما حاول دراسة العلاقة بين الإمبريالية البريطانية ومصر من خلال كرة القدم، التي ستبدو هنا ليست مجرد لعبة، بل تمثل تاريخا ثقافيا موازياً للتواريخ السياسية التقليدية.
وربما ما يجعل من هذا الكتاب شيئاً جديداً في عالمنا العربي أيضاً، أنه يتناول التاريخ الاجتماعي للرياضة، وهو تاريخ غير معروف في جامعاتنا العربية، بينما نكتشف مع المؤلف وجود عدة مدارس تعنى بهذا التاريخ، ووجود عشرات السير لرياضيين لعبوا كرة القدم، في حين نادراً ما ظهرت سيرة في عالمنا العربي تؤرخ لحياة لاعب كرة قدم أو مدير أحد النوادي الرياضية.
والمصادر التي بنى عليها المؤلف كتابه، هي أول ما يلفت الانتباه بالكتاب، إذ سيعتمد في فصوله على سير الجنود البريطانيين والمصريين، الذين لعبوا كرة القدم في المدارس البريطانية في فترة طفولتهم ولاحقاً خلال وجودهم في الحرب العالمية الأولى، بالإضافة إلى سجلات وزارة الدفاع البريطانية، وأيضا سجلات بعض المدارس، وقد قسّم كتابه لقسمين أساسيين، الأول حول تاريخ كرة القدم في بريطانيا ومستعمراتها، والآخر حول الاحتلال البريطاني لمصر ودوره في نشر لعبة كرة القدم.
كرة القدم في بريطانيا… تاريخ ديني
في الفصول الأولى، نتعرف على إرث ديني لهذه اللعبة، إذ يرى المؤلف أن مفهوم المسيحية القوية، لعب دوراً أساسياً في تطوير هذه اللعبة، وقد حاولت الكنائس آنذاك نشر فكرة أن الرياضة تسهم في تدعيم روح الفريق والعمل الجماعي، وأن الرياضة تولّد الشجاعة، والولاء، والانضباط.
وقد أنشأت جمعية الشباب المسيحية نادي كرة قدم في ساندرلاند عام 1890، وقامت الجمعية بعمل ملصقات لتشجيع الأطفال على اللعب منها «العب لعبة! أي لعبة؟».
كما نجد أن أكثر من ربع نوادي كرة القدم التي تأسست عام 1880 ترجع جذورها إلى الكنيسة، ولذلك تعد لاعباً رئيسيا في نمو كرة القدم خلال هذه الفترة، يضاف إلى ذلك الجهود التي بذلتها جامعتا كامبريدج وأوكسفورد، على صعيد فرض اللعبة على طلابها وجعلها ضمن المنهاج، وهذا ما يسجله الطالب جيسبون في مذكراته حول قسوة الممارسة الإجبارية لكرة القدم، ما جعل، وفقاً للمؤلف، من لعبة كرة القدم رياضة الرجل المتعلم، وهذا سيتغير لاحقاً مع انتشار هذه اللعبة في بلدان مثل افريقيا وأمريكا الجنوبية.
أما الطرف الثالث، الذي كان له دور مؤثر في نشر هذه اللعبة، فتمثل في المصانع الإنكليزية التي أخذت منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر تتيح لعمالها، وبالأخص الأطفال فرصة التعلم ولعب كرة القدم، كما فعل مصنع أرسنال للأسلحة، الذي أسهم لاحقاً في إنشاء نادي دايل سكوير لكرة القدم، وعرف لاحقاً بنادي أرسنال، كما ساهم بعض عمال السكك الحديد في تأسيس نادي يوركشاير للسكك الجديدة عام 1878، قبل أن يصبح اسمه نادي مانشستر يونايتد لكرة القدم.
ومع نهاية القرن التاسع عشر، كان التصنيع الضخم والتحضر في مدن إنكلترا قد تزامن مع نمو هائل في البنية التحتية للسكك الحديد، ما سمح بسهولة تنقل الفرق لخوض المباريات، كما ترافق ذلك مع ظهور الملاعب الرسمية، بدلاً من الحقول المفتوحة، ما سمح ببيع التذاكر، وظهور عالم الاحتراف في هذه اللعبة، عبر تقديم جزء من عائدات الجمهور للاعبين مقابل خدماتهم، ما سيؤدي في وقت لاحق إلى تراجع أفكار المسيحية القوية، لصالح نظرة أخرى ترى في الملعب مكانا للاستثمار والمتعة.
رغم هذا التطور، فإن البعد الثقافي لكرة القدم بوصفه يمثل هوية البريطانيين، سيبقى له تأثير كبير خلال هذه الفترة، وهذا ما سنراه مع توسع بريطانيا الإمبريالي، إذ ستقوم المؤسسة الحربية البريطانية بلعب الدور الأكثر تأثيراً في هذا الجانب، فقد لعبت الوحدات والتنظيمات المتعددة في الجيش الإنكليزي كرة القدم إلى جانب عدد من الألعاب الرياضية الأخرى، كسبيل للحفاظ على اللياقة البدنية، وتمضية الوقت بعد ساعات الواجب والتحرر من المتاعب، وفي ظل تنامي شعبية هذه الرياضة أنشأت القيادة العامة للجيش، اتحاد كرة القدم لفرق الجيش عام 1888 الذي تولى تنظيم جدول دوري للمباريات على مستوى جميع وحدات الجيش كل عام.
وفي مطلع القرن العشرين أصبحت كرة القدم خصبة للغاية في جميع أنحاء الجيش والإمبراطورية البريطانية، فمعظم المستعمرات تقريبا كانت لها بطولات سنوية، ومع قدوم الحرب العالمية الأولى أخذت مجلة «بونش» الساخرة في رسم رسوم كارتونية تشجع لاعبي كرة القدم على الانضمام للحرب، كما قام الجيش نفسه بعمل سلسلة من الملصقات تستهدف، على وجه التحديد، تشجيع الرياضيين على التجنيد، ومن هذه الملصقات «العب المباراة الكبيرة (الحرب) وانضم إلى كتيبة كرة القدم».
ومما يذكره المؤلف في هذه الفترة، أن الألمان والإنكليز وضعوا في مرات عديدة من يوميات الحرب أسلحتهم وتنافسوا في كرة القدم، ما كان يثير استياء العريف أودلف هتلر كما كتب بعيد الحرب.
أسلاف محمد صلاح
يرى المؤلف في الجزء الثاني من الكتاب أن بريطانيا في سياق محاولتها تقليل الالتزامات العسكرية في مصر، توجهت إلى تبني فكرة تدريب الجنود المصريين ليكونوا نواة الجيش، ما أدى إلى إخضاع الجنود المحليين لتدريبات مكثفة على التقنيات العسكرية، وأيضاً تشجيعهم على لعب كرة القدم لأول مرة، كعامل مناسب للتحرر من المتاعب.
وبموازاة هذه التوجه، كانت بريطانيا قد كلفت وحدات المهندسين الملكيين ببناء وصيانة السكك الحديد والبرق في مصر وبناء التحصينات، وفي أوقات فراغهم لعبوا كرة القدم. وكان من بين الجنود البريطانيين الذين جاؤوا في ذلك الوقت الكابتن بيلهام جورج فون دونوب، الذي لعب في فريق المهندسين الملكي لكرة القدم، وبصفته ضابطاً، فقد شجع اللعبة بين رجاله، بمن في ذلك الجنود المصريون.
حماسة الأفكار القومية
وخلال عام واحد، أخذ الجنود والأطفال المحليون يحاكون البريطانيين في لعبتهم، كما قام العمال البريطانيون في عام 1903 بإنشاء نادي السكة الحديد، الذي لا يزال قائما حتى الآن، وخلال الحرب العالمية الأولى نظّم البريطانيون كأس السلطان حسين، كما حاولوا في سياق محاولتهم نقل القيم الثقافية الغربية عن طريق التعليم، تعريف الطلاب المصريين في المدارس الأجنبية بهذه اللعبة، وسرعان ما أخذ أولياء الطلاب أيضاً يحضرون ليتعلموا اللغة الإنكليزية وكرة القدم، ولن تمر سوى سنوات قليلة، حتى تبنى المصريون اللعبة باعتبارها لعبتهم الخاصة، كما ستغدو اللعبة مجالاً للتنافس مع البريطانيين، في ظل حماسة الأفكار القومية، حتى غدا اللعب مع البريطانيين بمثابة فرصة استثنائية لإظهار الهوية المحلية، هذا التحول في النظر لكرة القدم من رياضة تعبر عن ثقافة الآخر إلى أداة للتسلية والمقاومة، يذكرنا بما كتبه نجيب محفوظ في أوراق الطفولة «الأعوام» التي كشف عنها مؤخرا الناقد المصري محمد شعير، فقد روى محفوظ أنه تعرف في حي العباسية المضاء بالكهرباء على كرة القدم، عبر شقيقه وأنه تفاجأ خلال العشرينيات عندما ذهب لمشاهدة مباراة بين فريق مصري وآخر إنكليزي، وكانت دهشته كبيرة عندما فاز الفريق المصري: «كنت أعتقد حتى ذلك الوقت أن الإنكليز لا ينهزمون حتى في الرياضة. كانت الكرة هي الميدان الوحيد الذي يمكن للمصريين آنذاك أن يضربوا فيه الإنكليز من دون أن يتمكن هؤلاء من ضربهم بالنار».
ويضيف: «وكان قلب الدفاع في الفريق المصري هو المرحوم علي الحسيني، وكان من فتوات بولاق، وكان يضرب الإنكليز كل كتف وكتف دون أن يضرب بالرصاص.. كنا نجابه الإنكليز في الكرة بلا خوف».
وستتبلور هذه المعادلة الجديدة مع تشكيل أول فريق مصري بالكامل (الأهلي) الذي أسسه الأوروبي ميشيل أنس، مع العديد من المستثمرين المصريين من أمثال عمر سلطان باشا وأمين سامي، كما تأسس ناد آخر (الزمالك الرياضي) في عام 1911 من قبل المحامي البلجيكي مارزباخ، وقد سمي في البداية باسم «النادي المختلط» لأنه سمح بعضوية الأوربيين والمصريين، وفي وقت لاحق تغير اسم النادي إلى فاروق الأول، ليستقر في عام 1952 على اسم الزمالك، وفي ظل هذه الأجواء سيولد أبطال كرة القدم المحليين من أمثال حسين حجازي، الذي خصص له المؤلف صفحات من الكتاب لتدوين سيرته الذاتية؛ وفي هذه السيرة نكتشف أن هناك من سبق لاعب مصر العالمي محمد صلاح في اللعب بالدوري الإنكليزي ونيل الشهرة.
ولد حجازي عام 1891، وتعلم كرة القدم عندما كان في المدرسة السعيدية الثانوية التي أدارتها بريطانيا، ولأن مهاراته في كرة القدم كانت متميزة، وقع معه ناد من الدرجة الثالثة «دولويتش هاملت» عقدا للعب في لندن، وخلال فترة قصيرة جلب وجوده حشودا جماهيرية كبيرة، ووصفته الصحف اللندنية المحلية بـ«الضوء الساطع للعبة» وفي ظل هذا المهارات، وجد حجازي نفسه بعد فترة في فريق فولهام، وعاد بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى إلى مصر للعب مع الزمالك والأهلي. ونعثر في فترة الثلاثينيات على اللاعب مختار رفيق «التتش» الذي قاد مصر في كأس العالم في إيطاليا عام 1934.
«صنايعية مصر»
وخلال الأربعينيات والخمسينيات تمكن الفريق المصري من الفوز على الفرق الأوروبية، وهذا ما كان يعد دليلاً على قوة مصر المتزايدة كدولة، وفي عام 1956، أصبح جمال عبد الناصر، الذي كان سابقا لاعب كرة قدم في المدرسة، رئيسا شرفيا للأهلي، ليتولى لاحقاً المشير العسكري عبد الحكيم عامر رئاسة اتحاد كرة القدم، وفي هذه الفترة سيتراجع دور الفريق المصري عالمياً، وهذا ما يرده المؤلف للوضع السياسي والاضطرابات في البلاد أكثر من أي شيء آخر، وهنا لا يروم المؤلف من خلال إشارته الأخيرة، الانحياز لزمن الإمبريالية البريطانية مقابل زمن الدولة الوطنية، بل هي إشارة إلى أن ظروف جديدة أحاطت بصناعة لعبة كرة القدم في البلاد، وذهبت بمستقبل اللعبة إلى أماكن أخرى، كما تكشف عنه ربما سيرة مؤسس ملعب نادي الزمالك (أبو رجيلة) التي دونها الصحافي المصري عمر طاهر في كتاب طريف بعنوان «صنايعية مصر» إذ تروي الأخبار أنه وبعد تولي عبد اللطيف أبو رجيلة رئاسة الزمالك في منتصف الخمسينيات، حاول بناء مقر يليق بالمؤسسة، فقد كان مقر النادي مجرد ثلاث غرف ومدرج خشبي على نيل العجوزة، فاختار منطقة (ميت عقبة) وكانت خليطا من المزارع والمساكن العشوائية الفقيرة، وقبل أن يشرعَ في البناء قررَ أن يمدّ الكهرباء والمياه لسكان المنطقة على نفقته، وقد افتتح المكان الجديد بإجراء مباراة ودية مع فريق أوروبي، حضر على نفقة أبو رجيلة، فقد كان يمتلك شركة أوتوبيسات، وكان لدخلها دور في بناء المدرجات.
وفي أحد الأيام استيقظَ أبو رجيلة على قرار بتحويل شركة الأتوبيس إلى هيئة النقل العام في القاهرة، فغادر إلى إيطاليا، وبقي يتحسر على حال مشروع الأتوبيسات وكرة القدم في البلاد.
حقوق النشر: محمد تركي الربيعو 2021
محمد تركي الربيعو كاتب وباحث سوري مختص باحث سوري متخصص بالدراسات الأنثربولوجية.