حين احتلت ألمانيا النازية فرنسا وتونس
المدينة الجديدة ذات الطابع الاستعماري بكنيسها اليهودي الكبير من عام 1937 وفندق ماجستيك الجميل من عام 1911؛ وضاحية حلق الوادي الساحلية ذات الطابع الإيطالي بكنيستها الكاثوليكية وتمثال عذراء مدينة تراباني؛ والمدينة العربية القديمة بأزقتها المُتعرِّجة ومسجد الزيتونة، الذي يعود بناؤه إلى القرن الثامن الميلادي - هذه الأماكن الثلاثة في مدينة تونس ومن حولها هي مسارح الأحداث الرئيسية في رواية "صقلية الصغيرة" (Piccola Sicilia) للكاتب الألماني دانيال شبيك.
لا تدور الأحداث الخلفية في تونس، بل في جنوب إيطاليا:وتحديدًا على بعد ثلاثمائة كيلومتر جَوًّا إلى الشمال، في صقلية المعاصرة. تأتي عالمة الآثار الشابة نينا من برلين لتشارك في تنقيب تحت الماء. وبعد وصولها مباشرة إلى جزيرة صقلية، تلتقي جويل ذات السبعين عامًا والقادمة من إسرائيل.
لم يكن لقاء هاتين السيِّدتين مصادفة. نينا تبحث عن جدِّها موريتس، الذي اختفى في الحرب العالمية الثانية؛ وجويل تدَّعي أنَّها ابنة موريتس. فمَنْ كان هذا الجندي والمصوِّر الشاب القادم من برلين، والذي كان يعيش على ما يبدو حياةً مزدوجة؟
نظرة إلى الماضي
تعود بنا القصة إلى مدينة تونس في أربعينيات القرن العشرين. كانت تونس محتلة من قِبَل فرنسا كمحمية منذ عام 1881. أهالي تونس العاصمة كانوا يتَّسمون في تلك الحقبة بالتنوُّع والتعدُّد بشكل غير عادي. وبالإضافة إلى الأغلبية المسلمة بجذورها البربرية والعربية، كان يعيش أكثر من مائة ألف يهودي في البلاد، جاء بعض أسلافهم في العصور القديمة إلى شمال إفريقيا.
يُضاف إليهم مئاتُ الآلاف من المسيحيين، الذين هاجر معظمهم في القرن التاسع عشر من إيطاليا وفرنسا ودول أخرى إلى تونس. يبدو التعايش السلمي أشبه بالطوباوي تقريبًا. ولكن باتت الكارثة التي تشكِّلها القومية والعنصرية على وشك الحدوث.
فعندما بدأت ألمانيا النازية احتلالها العسكري لأجزاء كبيرة من فرنسا في عام 1940، وبعدما تولى السلطةَ في باريس نظامُ فيشي الخاضع للسيطرة الألمانية، باتت العواقب محسوسة أيضًا في المحمية الفرنسية تونس. إذ لم يعد يُسمَح ليهود تونس بالعمل في الدوائر العامة، ولم يعد الأطباء اليهود يستطيعون إلَّا معالجة المرضى اليهود. زِدْ على ذلك أنَّ آلافًا من اليهود الفرنسيين في تونس فقدوا جنسيَّتهم الفرنسية، التي كانوا قد حصلوا عليها في ظلِّ ظروف معينة منذ ما يعرف باسم مرسوم كريميو [نهاية القرن التاسع عشر].
يتصاعد الوضع بعدما أقدمت في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1942 قوى المحور، أي إيطاليا وألمانيا، على غزو تونس. يُقِيْمُ الجيش الألماني النازي مقره الرئيسي في وسط تونس - في فندق ماجستيك المذكور في البداية.
"تونس-غراد"
مبنى الفندق الأنيق المبني على طراز معماري حديث، يبرز اليوم بعد تجديده في بريق جديد. التقى مدير الفندق كريم بك بمؤلف الروية دانيال شبيك عندما كان هنا لإجراء بحثه من أجل هذه الرواية. حول ذلك يقول كريم بك: "دانيال شبيك كان يريد معرفة أكثر ما يمكن معرفته عن تاريخ الفندق. وأنا شخصيًا لم أكن قد وُلِدْتُ بعد. ولكن والدي كان يدير هذا الفندق، وكنت أعيش هنا كطفل في سكن العاملين. لقد روى لي والدي قصصًا كثيرة".
من خلال احتلالها تونس في نهاية عام 1942، كانت ألمانيا النازية تريد تغيير مسار الحرب لصالحها. ولكن هذا كان مشروعًا ميؤوسًا منه أودى بحياة عدد لا يحصى من الجنود ("تونس-غراد") ودفع مقابله السكَّان المدنيون التونسيون ثمنًا باهظًا. مات وأصيب الآلاف في المعارك بين الحلفاء والجيش الألماني النازي. كذلك فقدت أعداد لا تحصى من العائلات غير المشاركة في الحرب منازلها وسُبُل عيشها في الغارات والقصف.
وعلى هذه الخلفية التاريخية الدرامية، يروي دانيال شبيك قصة الحبّ غير العادية بين جندي الجيش الألماني النازي موريتس راينكه وخادمة الغرف ياسمينا. هذه القصة معقَّدة، لأنَّ ياسمينا يهودية وتحبّ رجلًا آخر، هو: عازف البيانو فيكتور الذي يعمل في الفندق، وهو يهودي أيضًا. تتعرَّض ياسمينا وفيكتور لخطر كبير، لأنَّ المحتلين الألمان يعملون في تونس أيضًا على مصادرة أملاك السكَّان اليهود وإبادتهم الجسدية.
تحت قيادة فالتر نِرينغ (ابتداءً من كانون الأوَّل/ديسمبر 1942 تولى هذا المنصب هانس يورغن فون أرنيم)، أنشأ قائد القوَّات الخاصة المعروف بوحشيَّته، فالتر راوف، معسكر اعتقال نازي وأمر بتأسيس "مجلس يهودي" مكوَّن من أعضاء مختارين من الجالية اليهودية. وكان من المقرَّر أن يساعد أعضاء هذا المجلس في جمع ذهب العائلات اليهودية وأموالها في تونس، وكذلك في تجنيد نحو خمسة آلاف رجل يهودي للعمل القسري في الجبهة.
"الصالحون بين الأمم"
لم يستطع النازيون في تونس تحقيق أهدافهم الرهيبة إلَّا بشكل جزئي - لأسباب من بينها أنَّهم أقاموا في تونس فترة قصيرة جدًا ولأنَّ بعض الفاعلين الإيطاليين والتونسيين قد أثبتوا شجاعتهم في مساعدة اليهود. هناك تونسي مسلم يدعى خالد عبد الوهاب أنقذ في الفترة بين عامي 1942 و1943 ما مجموعهم خمسة وعشرين تونسيًا يهوديًا من النازيين في المهدية. وقد تم ترشيحه بعد عقود من الزمن مرتين من أجل الحصول على لقب "الصالحين بين الأمم" في إسرائيل، ولكن من دون نجاح.
العدد الدقيق لضحايا الاحتلال الألماني النازي في تونس غير معروف. يُعتَقد أنَّ نحو ألفين وخمسمائة شاب يهودي كانوا يعملون في الفترة من كانون الأوَّل/نوفمبر 1942 حتى أيَّار/مايو 1943 في معسكرات العمل القسري النازية في تونس في ظلّ ظروف غير إنسانية. عدة مئات منهم لقوا حتفهم. وكذلك تم ترحيل عدد غير معروف إلى معسكرات الإبادة في أوروبا.
في رواية دانيال شبيك ينجو عازف البيانو اليهودي فيكتور بصعوبة من القتل على يدّ المحتلين النازيين. وقد أنقذه بالذات موريتس راينكه. كذلك تم إنقاذ ياسمينا ووالديها، ولكنهم فقدوا منزلهم في منطقة حلق الوادي. الحيُّ اليهودي التقليدي في مدينة تونس القديمة، "حارة اليهود"، ليس بديلًا وذلك لأنَّ اليهود باتوا معرَّضين للاضطهاد في كلّ مكان في تونس. تنجو ياسمينا ووالداها بعد أن أخفاهم معارفهم المسلمون في مدينة تونس عند جيران مسلمين.
واليوم، لا يزال يعيش نحو ألف وخمسمائة يهودي ويهودية في تونس، من بينهم ألف يهودي في جزيرة جربة وحدها. وتوجد في الجزء الأكبر من موقع الحيّ اليهودي السابق في المدينة القديمة بتونس العاصمة عماراتٌ سكنية حديثة من سبعينيات القرن الماضي.
التراث اليهودي المنسي؟
العديد من الكُنس اليهودية القديمة تم تدميرها أو تحويلها إلى مقاهي. هل أصبح التراث اليهودي في مدينة تونس القديمة طيّ النسيان؟ "لا"، مثلما تقول ليلى بن قاسم، التي تعمل كمهندسة وتملك دار ضيافة في المدينة القديمة. تُقدِّم ليلى بن قاسم جولات سياحية يستطيع خلالها الزوَّار أيضًا التعرُّف على التراث اليهودي في مدينة تونس القديمة.
تقول ليلى بن قاسم: "في الماضي كان تقريبًا خمس سكَّان المدينة من اليهود. أمَّا اليوم فلم يعد يعيش أي يهودي هنا. ولذلك من المهم أن نعرف ما كان يوجد هنا، ومن المهم أن نعرف التاريخ جيِّدًا". وتضيف أنَّها لديها اهتمامًا كبيرًا في رواية دانيال شبيك.
تقول ليلى بن قاسم: "عندما نتحدَّث عن الاحتلال في تونس، فعادة ما يتعلق الأمر بفرنسا. الاحتلال الألماني في تونس كان قصيرًا جدًا بالمقارنة مع الاحتلال الفرنسي. نحن نعرف القليل جدًا حول ذلك. ولكن منذ أن سمعتُ عن هذه الرواية، بدأتُ أتذكَّر الكثير مما أخبرني به والدي عن الحرب: أنَّه عندما كان صبيًا صغيرًا، كان يختبئ في قريته الواقعة بالقرب من تونس أثناء سقوط القنابل، وكان ببساطة يخاف كثيرًا".
تتمنى ليلى بن قاسم أن تتم قريبًا ترجمة رواية دانيال شبيك إلى العربية أو الفرنسية أو الإنكليزية، حتى تتمكَّن من قراءتها بنفسها. وتقول: "أنا مُتشوِّقة لقصة السيِّدتين نينا وجويل. ولكن ربَّما تكون الرواية أكثر من هذه القصة: مناسبة لكي يهتم التونسيون والألمان بشكل أكثر من ذي قبل بالاحتلال النازي 1942-1943 وعواقبه".
مارتينا صبرا
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019
رواية دانيال شبيك: "صقلية الصغيرة" Piccola Sicilia، صدرت عن دار النشر: فيشَر، في فرانكفورت، سنة 2018، في 624 صفحة، تحت رقم الإيداع:
ISBN-13: 9783596701629