الفن الثوري في ستينيات بيروت الذهبية
في السنوات التي امتدَّت ما بين أزمة لبنان 1958 وبين الحرب الأهليّة التي اندلعَت عام 1975 ودامت لمدة خمسة عشر عامًا، مرَّت بيروت بفترة من الهدوء النسبيّ في الستينيات. أثناء تلك السنوات التي يُنظَر إليها الآن كفترة خلّاقة من الإثارة والهيدونيّة [النّزويّة]، كانت هذه الحاضِرة الشرق-أوسطيّة في ذروة إنتاجها الإبداعيّ.
يَجمَع معرض "بيروت والستينيات الذهبيّة: هشاشةُ التوتُّر" – المُقام في متحف "غروپيوس باو" في برلين – المِئات من المواد الأرشيفيّة والأعمال الفنيّة للعشَرات من الفنّانين اللبنانيّين، بغَرَض التأمُّل والبحث في العصر الذهبيّ للمشهد الفنّي في بيروت خلال تلك المرحلة.
أثناء كل الانقلابات، والثورات، والحروب التي عصَفَت بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كان لبنان بمثابة الملاذ الآمِن للمُنشَقّين السياسيّين، والمفكرين، والفنّانين، وأصحاب رأس المال الأجنبيّ الذين هُجِّروا من أوطانهم.
كما اكتسَب لبنان حينها لقب "سويسرا الشرق الأوسط" نظرًا لقانون السريَّة المصرفيَّة الذي يمنَع البُنوك من كشف السِّر المصرفيّ لأصحاب الإيداع. ممّا ساهم في تدفُّق الأموال إلى القطاع الثقافيّ، داعمة بهذا المشهد الفنّي والسينمائيّ والمسرحيّ الذي كان في أوجِه.
لم يقتصِر ازدهار بيروت على كازينو لبنان والملاهي الليليّة وأضواء الـ "نِيُون" وبهرَجَة المجتمَعات الراقية، التي لطالما كانت حصريّة لأصحاب المال وإقصائيّة لغيرهم. عوضًا عن ذلك، حوَّل رسَّامون مثل پُول غِيراغُوسيان [فلسطيني أرمني] ورفيق شرَف [لبناني] أنظارَهما إلى سكان بيروت المُهمَّشين في الأحياء الشعبيّة ومخيمات اللاجئين الأرمن، وكذلك إلى وادي البقاع المُفقَر القريب من بيروت.
غير أنّ لبنان لم يكن مستقرًا كما بدَا الأمر. فقد كشف التدخُّل الأمريكي عام 1958 لدعم الفترة الرئاسيّة لحكومة كميل شمعون عن مدى ضعف لبنان في ظلّ توتراته السياسيّة. كما أنّ انتصار إسرائيل السَّاحِق في حرب 1967 ["حرب الأيام الستَّة"] دفع بأجيال جديدة من اللاجئين الفلسطينيّين إلى لبنان – ومعهم منظمة التحرير الفلسطينيّة التي استعملت -فيما بعد- أرض لبنان كقاعدة لعملياتها العسكريّة.
وإن كانت تلك هي السنوات الذهبيّة، كيف يمكننا إذًا تعليل سنوات الحرب التي تَلَتها؟ كيف نَمَت التوتُّرات الطائفيّة، وكيف وصلَت إلى درجة من العنف يصعب كبح جِماحها؟ "لا بُد أنّه كان هناك ثمّة أمر قريب من درجة الغليان تحت السَّطح،" يُخبرنا أمين أحد المتاحف، من مواليد لبنان، سام بَردَويل.
إبداعٌ رسميّ
كان الإنتاج الفنّي في بيروت أثناء الستينيات استثنائيّ الطابع، نظرًا للتنوُّع في الدَّعم الرَّسميّ للفنون. فقد تبنَّى الفنّانون، بالإضافة إلى تجديدهم، التقنيات والأساليب الفنيّة المُستمَدَّة من مصادر محليّة وعالميّة. وفي أغلب الأحيان، كانت تلك الأعمال تتعمَّد الخَطَّ السياسيّ في مقولتها.
كانت هناك بيئة نابِضة من رُعاة الفنون، والمَعارض، والمؤسَّسات الداعمة للفنون الطليعيَّة في بيروت. نذكُر منهم، على سبيل المثال لا الحصر، "متحف سُرسُق" [أو "قصر سُرسُق"] الذي افتُتِح عام 1961، والذي سانَد بشكل ملحوظ أعمال رسَّامين تجريديّين أمثال هاغِيت كالاند وعارف الرَّيس؛ وكذلك "مركز الفنّ"، الذي كان يعرض أعمال سِرياليّين عالميّين مرموقين أمثال ماكس إيرنسْت وأندريه ماسُّون.
كما استَلهَم الفنّانون أعمالهم من التاريخ الخِصب للثقافات السُّومريّة، والميزوبوتاميّة [بلاد ما بين النهرين]، والفينيقيّة؛ وكذلك الخَطّ والمِعمار والشعر الإسلاميّ. هنا، تدفَّقَت هذه الضُّروب، وفي أحيان اصطدمَت، مع الأفكار التجريديّة والفنُون الحَرَكيّة والسِّرياليّة الغربيّة.
فيما تنقَّل فنّانون أمثال الكاتبة والفنّانة المَرئيّة إيتيل عدنان بحُريّة بين الأُفنُون [القالِب] والوسائط الفنيّة، لتتراوَح أعمالها ما بين المَنسُوجات التجريديّة وكتُب الأَكورديُون ["ليپوريللُو"] التي احتَوَت في ثناياها حَواشٍ مَطلِيّة وأخرى مكتوبة.
هذه الحريّة في المَزج، وفي إعادة التشكيل أو إعادة التأويل، هي ما ميَّزَت تلك اللحظة الثقافيّة، يُخبرنا بَردَويل.
"كان الفنّانون على وعي ودراية حقيقيَّين بالعديد من المَنابِع الفنيّة التي قرَّروا بكل جرأة وحريّة أن يلتحقوا بها أو يقتبسوا منها، أو حتى العمل ضدّها،" يُخبرنا أمين المتحف [سام بَردَويل].
النسويّة والجنسانيّة
كان أثر الثورة الجنسيّة في العالم في الستينيات والسبعينيات جَليًّا في بيروت.
إذ ساهَم النقاش حول النسويّة الراديكاليّة في مواجهة القيم المجتمعيّة التقليديّة. كما لعبت المرأة دورًا رياديًّا في تنمية المشهد الفنيّ، وذلك عبر تأسيس المَعارض وإنتاج الإصدارات الأدبيّة.
كما وجَد الفنّانون المِثليُّون وغير المطابِقين للجنس الواحد مجالًا أوسع للتعبير بحُريّة ضمن المجتمَعات التي لطالما رفضَت الحدود التي رسَمَتها الطبقات البورجوازيّة.
يمكننا أن نتلمَّس جرأةً جديدة في تصوير الجسم الأُنثويّ في أعمال الرسَّامة هاغيت كالاند. فلَوحاتها الذاتيّة العارية مُجزَّأة وتجريديّة بحيث يصل الأمر إلى أن تُصبِح أجزاء جسمِها بالكأد قابلة للتمييز – وبهذا، يمكننا أن نرى الفنّانة كما تُريدنا أن نراها هي.
نهايةُ مرحلة
أدَّى انطلاق الحرب الأهليّة اللبنانيّة عام 1975 – والتي استمرَّت حتى عام 1990 – إلى تمزُّق الأواصِر الهشَّة التي كانت تربُط المشهد الثقافيّ في بيروت.
كما انقطعَت المَعارض ودور السينما وإستوديوهات الفنّانين والمتاحف عن بعضها البعض، بطريقة فِعليّة في غالب الأحيان، وذلك حين بدأَت الأحياء السكنيّة بالانفصال عن غيرها وفقًا لمعايير عِرقيّة ودينيّة.
وانضَمّ بعضُ الفنّانين إلى تنظيماتٍ يساريّة مثل "الحركة الوطنيّة اللبنانيّة"، فيما هاجَر الآخرون ليستقرُّوا في منافيهم بين أوروبا والولايات المتحدة وبلاد الخليج.
"البِنية المجتمَعيّة والرَّوابط السكنيّة التي كانت متواجدة عبر الحدود الطائفيّة تصدَّعَت بأكملها، ودون سابق إنذار،" يُخبرنا بَردَويل. نتيجة لذلك، لجأ بعض الفنّانين إلى استعمال وسائط رُسوميّة أصغر حجمًا وأكثر إيجازًا، بالإضافة إلى تحويل اختيار الألوان إلى درجاتٍ أكثر حِدَّة من ثُنَائية الأبيض-والأسود.
وبهذا، وثَّقَت مجموعة رُسوم "دفتر الحرب الأهليّة 1975-1976" للفنّان جميل مُلاعِب تراكُم الجُثث... والأهوال.
في لوحته "نيسان 13" – تاريخ "مجزرة البُوسطَة" ["البُوسطَة" تعني "الحافِلة" باللهجة اللبنانيّة] عام 1975، والتي تُعَرَّف بالشرارة التي اندلعَت بسببها الحرب الأهليّة اللبنانيّة – نُشاهِد جثثًا مُتدَليَّة باسترخاء من نوافذ الحافِلة. وهكذا تصَوّر اللوحة اشتباكات قاتلة بين مسلحين من الكتائب اللبنانية وفلسطينيين [من فصائل فلسطينية] في ضاحية "عين الرُّمانة" في بيروت.
ومع أنّ الحرب الأهليّة قد ولَّى زمنها، إلا أنّ لبنان مازال في حالة انقسام شديد. كما أنّه واجه أحداثًا متتالية من الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة في السنوات الأخيرة، ازدادَت كلها سوءًا بعد انفجار كمياتٍ مَهُولة من المُركَّب الكيميائيّ "نِترات الأمونيوم" في مرفأ بيروت في آب 2020، ممّا أدّى إلى تدمير جزء كبير من العاصمة اللبنانيّة.
كما أنّ بعض الأعمال الفنيّة في المعرض قد طالها الضَّرر هي الأُخرى بسبب الانفجار. يلجأ العملُ الفنّي الاندماجي ذو الوسائط المتعدِدة للثنائيّ اللبناني جوانا حاجِّي تُوما وخليل جُريج إلى مُزامَنة مَشاهِد مصوَّرة بتقنية "الدائرة التلفزيونيّة المُغلقَة" لحظة الانفجار عبر كاميراتٍ متفرّقة في "متحف سُرسُق"، المركز الأمثَل للفنّ الحديث في بيروت.
بُرهَةٌ واحدة فقط، تتهشَّم أثناءها النوافذ، وتتساقط خلالها الأعمال الفنيّة عن الجُدران، وتعصِف في حطامها سحابةٌ مُخيفة من الرَّماد – ليُصبِح العصر الذهبي للفنّ في بيروت مُعلَّمًا بمأساةٍ جديدة، كالعادة.
روري كايسي
ترجمة: ريم الكيلاني
حقوق النشر: دويتشه فيله / موقع قنطرة 2022
معرض "بيروت والستينيات الذهبيَّة: هشاشةُ التوتُّر" – مُقام في متحف "غروپيوس باو"، برلين، حتى تاريخ 12 يونيو / حزيران 2022.