فنانة الأسئلة والبراءة وحب الحياة
لم تستطع الهجرات القسرية والمنافي تحرير الموت من رمزيته. فالموت هو حق الحياة علينا، لكنه يتخذ اليوم وسط هذا الأسى والشقاء شكل الجريمة.
وحقيقة لا يليق الرثاء بفنانة مثل إيتيل عدنان ، ففي لوحاتها اجتمعت أرواحنا وقد تحررت من الأجساد، كأن الأرواح عصافير من الألوان التي تعزف موسيقى الحب.
امرأة الأسئلة والبراءة، عرفتها طفلة في الخمسين، حين كانت بيروت تواجه العنف بالشعر، وتصنع من كوابيس الخراب حلماً.
وماتت إيتيل طفلة في السادسة والتسعين، نقرأ شعرها فنعثر على أول الشعر، ننظر إلى لوحاتها فنرى نوافذ الروح وبراءة الألوان، نقرأ روايتها فنعثر على الكلمات الأولى التي تواجه عالم الوحشية بسذاجة ذكية، وحب للحياة.
" إيتيل عدنان: سر هذه الفنانة المتعددة في اللغات والأشكال الفنية هو الدهشة"
أشعر كأنني لم أقرأ شعرها يوماً، فشعر إيتيل عدنان كان مكاناً نلتقي فيه بالقصيدة التي تقرؤنا ونحن نقرأ. فتلتبس علينا الأمور، خليط من اللغات والبلاد، أب سوري وأم يونانية، وطفلة بيروتية. ننتقل من الفرنسية إلى الإنكليزية إلى ترجمات فواز طرابلسي لأشعارها، وكأن اللغات كلها امتزجت في لغة واحدة لا اسم لها، لغة شفافة كالماء، تعكس الأعماق وتخاطب أرواحنا.
نتأمل لوحاتها فلا نرى سوى الألوان، فإيتيل لم ترسم لوحات بل رسمت اللون، كأن الألوان تطير فوق القماش كي تلتقط عيوننا، فهذه المرأة لونت عيوننا، فصار عالمنا الوحشي مصبوغاً بالطفولة والدهشة والحب.
من الصعب القبض على شعرية إيتيل أو تصنيفها، فشعرها ملوّن وألوانها شعر، ولغتها كل اللغات. تقرأ نصوصها فتشعر أنك ذهبت إلى ما بعد اللغة، وأن لحاقك بها من فيتنام إلى فلسطين ومن الهندي الأحمر إلى بيروت، أخذك في رحلة لا تنتهي كي تقول لك إن الشغف بالحرية والعدالة هو مدى إنساني واحد لا يتجزأ.
عاشت إيتيل برفقة شريكتها الفنانة سيمون فتال في كل الأمكنة، من كاليفورنيا إلى بيروت وباريس، لكنها كانت أشبه بمدينة متعددة الشوارع والحارات، مدينة تحاكي بيروت وتحكي معها.
إيتيل عدنان الفنانة والشاعرة غير اللبنانية، صارت أحد أسماء بيروت. الفن والشعر والكتابة كانت بالنسبة لها نمط حياة
كانت إيتيل بهوياتها المتعددة، فنانة بيروتية، فهي غريبة كبيروت وأليفة كبحرها، سورية- يونانية- تركية، فرانكوفونية-إنكلوفونية، جمعت كل الهويات في إيقاع بيروتي عربي، بحيث صارت تخاطب فينا أعماقنا الإنسانية التي تولد جديدة ومدهشة مع كل كلمة وكل ضربة ريشة وكل جناح يطير.
كان منزلها هي وسيمون في بيروت فسحة حرية، هناك في أسفل "الجبل الصغير"، ومن شرفة تطل على مرفأ بيروت، كنا كمن يكتشف العالم من جديد. وكانت هذه المرأة لا تشبه إلا فنها وقصائدها. كنت أتساءل دوماً كيف تستطيع إيتيل أن تكون فنانة 24 ساعة في اليوم، ألا تتعب؟
الفن والشعر والكتابة كانت بالنسبة لها نمط حياة وليست وسيلة للتعبير عن الحياة. تعيش الألوان وتصنع الضوء وتتعامل مع الكلمات، مهما كانت عادية، بصفتها قصيدة محتملة على وشك أن تُكتب.
لا أدري لماذا فاجأني الحزن بسبب موت امرأة لا تموت.
هل يحق لنا أن ندخل إلى أعماق الأسى، عندما يمضي من لا يمضي.
كيف يمضي من نرى لوحاته مرسومة في عيوننا، ونسمع صدى كلماته في أعماقنا؟
الموت هو كذبة الحقيقة الكبرى. إنه حقيقي بقدر ما هو وهم أو اصطلاح.
ربما هبط علينا الحزن لأن إيتيل ماتت وسط موت بيروت الفاجع والوحشي. ماتت وهي تشهد كيف تموت الكلمات في مدينة كان اسمها مرادفاً للكلمة.
إيتيل عدنان الفنانة والشاعرة غير اللبنانية، صارت أحد أسماء بيروت. بيروت صنعها أمثالها الذين اختاروا الميناء المفتوح على أفق المجهول، كي يرسموا مدينة تحتضن الأسى العربي كله، فتصير مدينة الشعراء والفنانين والفقراء واللاجئين.
بيروت كانت دائماً، منذ نشأتها كمدينة حديثة، مجبولة بالتناقضات، لكن نكهتها ومعناها تأسسا في المغامرة الإبداعية اللبنانية والعربية، التي رسمت أفقاً للحرية.
نحزن بسبب موت امرأة لا تموت، لأننا نخاف على مدينتنا التي وقعت تحت رحمة من لا يرحم، والتي تتألم وحيدة.
إيتيل عدنان لم تغادر بيروت حين غادرتها.
حملت معها كل الألم ومزجته بالبراءة في زمن يقتل فيها الأبرياء وتتحول الدهشة من دهشتنا بالبدايات التي تتفتح إلى دهشتنا بخيال المستبدين المريض، وبجوع المفترسين إلى السلطة، وبوحشية عصابات أمراء الطوائف والمال.
أمسح الحزن عن عينيّ فأرى غيمة تحمل رذاذ الألوان وإيقاع الكلمات الجديدة.
هل يصير الشعراء سحاباً حين يموتون؟
هل تصير الألوان عصافير تخرج من اللوحة لتملأ فضاء حياتنا؟
هل الموت مجرد استعارة للحياة؟
أسألك يا سيدتي، فلماذا لا تجيبين؟
حقوق النشر: إلياس خوري 2021