رومانسيات غربية وأساطير شرقية موسيقية في ألمانيا
اقتصر مهرجان بيتهوفن لعام 2017 في العاصمة الألمانية القديمة بون على ثلاثة أسابيع، لأسباب التقشف السائد في شتى قطاعات الثقافة والفن في ألمانيا. لكنه جاء رغم ذلك مكثفا منوعا وحافلا بالأعمال الموسيقية المرتبطة مباشرةً أو بشكل غير مباشر بالموسيقي العظيم بيتهوفن (1770-1827)، الذي ولد وترعرع في بون لينتقل من بعد إلى عاصمة الموسيقى الأوروبية فيينا بعد أن بلغ اثنين وعشرين عاما من العمر.
ذكرى مرور 250 عاما على ميلاد بيتهوفن
عقدت معظم فعاليات المهرجان في هذا العام بمركز المؤتمرات الأممي في بون WCCB، نظرا لكون مكان الانعقاد الأصلي أي صالة بيتهوفن الواقعة على ضفاف الراين رهن الترميم استعداد للاحتفاء بيوبيل مرور 250 عاما على ميلاد بيتهوفن في عام 2020. الجدير بالذكر أن بناء هذا المركز جعل المدينة والولاية التابعة لها والسلطة الاتحادية تتكبد تكاليف باهظة بسبب أعمال الاحتيال والاختلاس التي قام بها مستثمر من كوريا الجنوبية زعم بأنه يملك في سيول مؤسسة ضخمة لصناعة السيارات.
وقد عرضت في أحد مسارح المدينة مسرحية ساخرة ودرامية في آن واحد بعنوان "بونوبولي" على منوال لعبة مونوبولي تضمنت نقدا لاذعا للمسؤولين في إدارة المدينة بسبب افتقارهم للقدرة المهنية.
الرومانسية في مفهومي الشرق والغرب
لم يكن للشرق الذي عشقه الشاعر غوته (ديوان الشرق والغرب) مركز محوري في هذا العام بالمهرجان، لكنه جاء ولو بصورة عابرة ضمن أجندة برامج المهرجان. لم يتعرض المهرجان هذا العام للثورات والتحولات التي رافقت وما زالت ترافق العولمة بل تناول الرومانسية في مفهومي الشرق والغرب وفقا للتقاليد الفنية لكليهما.
ففي افتتاح المهرجان في خريف 2017 عزفت اوركسترا مارينسكي من بطرسبرغ ملحمة ريمسكي كورسكوف المسماة شهرزاد وهي تتألف من الأجزاء التالية:
- البحر وسفينة سندباد
- رواية أجندة الحاكم
- الأمير والأميرة الشابان
- احتفالات بغداد
- حطام السفينة وغرقها في البحر البرونزي.
شهرزاد اسم جارية الملك شهريار وفقا لحكايات ألف ليلة وليلة الشهيرة وكانت الجارية الأخيرة في حياة شهريار والتي تفادت تعرضها للقتل بفضل براعتها في سرد القصص الشيقة ذات البداية ودون النهاية مما جعل الملك يترقب لسماع قصصها ليلة بعد ليلة ويقع من بعد في حبها.كانت شهرزاد تحكي له القصص والأساطير طيلة الليل إلى أن "أدركت شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح".
رافقت المهرجان تظاهرات احتجاج طفيفة ضد المايسترو الروسي اللامع فاليري غيرغيف، الذي قاد الأوركسترا التي عزفت ملحمة شهرزاد، وذلك لأنه بايع ضم جزيرة القرم لروسيا وأيد مرارا سياسة الرئيس فلادمير بوتين.
الجدير بالذكر أنه سينتقل من ميونيخ إلى برلين ليتولى منصب مايسترو الأوركسترا الفلهارمونية الشهيرة فيها. رأى المشرفون على شؤون الفن سواء في بون أو في غيرها من المدن الألمانية بأن ميول المايسترو السياسية شيء وقدراته الموسيقية شيء آخر تماما.
أشرنا سابقا وبصورة عابرة إلى الشاعر غوته وينبغي أن نضيف بأنه تذمر بداية من المنهج الموسيقي الابتكاري لبيتهوفن ولم يستسغ النمط الرومانسي الذي أكسبه على الموسيقى الكلاسيكية. لكنه أصبح بعد ذلك من عشاق أعماله الموسيقية وربطته به أواصر صداقة حميمة.
وفقا لشعار المهرجان هذا العام "العشيقة البعيدة" لم تتمركز الأجندة على بيتهوفن الذي نعرفه ثوريا خلاقا ابتكاريا في إنتاج السيمفونيات والسونات والرباعيات. هذه المرة شاءت مديرة المهرجان المنحدرة من سلالة الموسيقي الكبير ريشارد فاغنر إظهار الوجه "الداخلي" لبيتهوفن أي لعواطفه وانفعالاته فاختارت مجموعة الأغاني التي لحنها بيتهوفن تحت عنوان "إهداء إلى العشيقة البعيدة"، التي أظهرت انتقاله من المرحلة الكلاسيكية المحضة إلى الإبداع التحديثي الجريء الذي بدأ يقترب خطوة بخطوة من العهد الرومانسي.
عبرت سيمفونية بيتهوفن الرابعة عن هذا التحول غير المنتظم منهجيا فجاءت شعلة من الأحاسيس والعواطف المؤججة على عكس السيمفونية الثالثة التي سبقتها والتي اتسمت بالنزعة الثورية البطولية المبنية على التضامن الأممي. صلب الثالثة بني على يقين منه سرعان ما تبدد بكون نابليون ليس غازيا بالمفهوم القومي بل قائدا للإنسانية. ولعل الخيبة التي حلت ببيتهوفن نتيجة لغزوات الامبراطور الفرنسي في أوروبا والمشرق هي التي دفعته ولو مرحليا إلى اعتماد نهج الرومانسية العاطفية.
لم تقتصر المقطوعات الرومانسية على بيتهوفن وحده بل شملت موسيقيين آخرين معاصرين له وإن لم ينعموا بالشهرة رغم إبداعهم الفني مثل الإيطالي فرناندو مايير والفرنسي كسافير بواسيلو، اللذين أظهرت الأغاني الرومانسية التي لحناها مدى تأثير الموسيقى الإيطالية والألمانية على فرنسا وعلى وجود تأثير متبادل أيضا بين أعمالهما شبه المغمورة وأعمال بيتهوفن. وكانت فرنسا قد تأثرت في حقبة سابقة بموسيقى الباروك التي برع فيها الألمان والايطاليون كذلك مثل باخ وتيلمان وفيفالدي والبينوني.
عزفت في المهرجان عدة سيمفونيات لبيتهوفن فقد سبقت الإشارة إلى السيمفونية الرابعة كما عزفت فيه السابعة والثامنة. ذكرنا بأن الرابعة جاءت رومانسية الطابع وهربا من الأحلام الثورية البطولية التي جسدتها الثالثة. كذلك تلت الثامنة قمة أعماله أي التاسعة التي تركت آثارا غير مسبوقة على الأعمال الموسيقية واعتمدت على نصوص وملاحم للشاعر الألماني الشهير فريدريش شيلر وأصبحت اليوم الرمز الموسيقي لحركة الوحدة الأوروبية وتحديدا للاتحاد الأوروبي.
السيمفونية الثامنة جاءت كحال الرابعة بعيدة عن الأجواء البطولية واتسمت برومانسية الحنين. سبق أن ذكرنا بأن بيتهوفن قضى معظم حياته في العاصمة النمساوية فيينا. لكن الحنين لمسقط رأسه بون ظل قائما لديه ولم تسمح له ظروف حياته وعمله بزيارة بون إلا مرات نادرة. ويقال إنه ظل طيلة عمره حريصا على الاحتفاظ بلكنة سكان منطقة الراينلاند.
ويرى علماء الموسيقى في سياق مجالي الحنين والرومانسية بأن السيمفونية الثامنة جاءت كما لو فتح المرء شباك منزله الواقع في طبيعة خلابة ليرى مناظر الأنهار والغابات ويسمع الأصوات العذبة للطبيعة والطيور. أي أن هذه السيمفونية اتسمت بملامح رومانسية أكثر منها كلاسيكية بالمفهوم التقليدي.
موسيقى بلا غناء وغناء بلا موسيقى
عرض المهرجان هذا العام كذلك أغانيَ سبقت العصرين الكلاسيكي والرومانسي باعتبار أن هذا "الملف" شكل حجر أساس المهرجان. والجدير بالذكر أن موسيقى العصور الوسطى وعصر النهضة نادرا ما عرفت مقطوعات موسيقية لم يرافقها الغناء كعنصر أساسي للفن. هناك أيضا نمط أكابيلا أي الغناء غير المصحوب بالموسيقى وهو نمط ما زال قائما اليوم وتعود جذوره إلى عقود عديدة سابقة.
وقد عزفت فرقة بروفيتي المؤلفة من خمسة مغنين وعازف مندولين مجموعة من أغاني عصر النهضة في إيطاليا وباللغة الإيطالية التي تحررت تدريجيا من اللاتينية ابتداء من عام 1600 لتصبح لغة قائمة بذاتها قبل بكثير من إنشاء الدولة الإيطالية عام 1870. أغلب هذه الأغاني لم ترافقها أنغام الآلة الموسيقية إلا مرتين فقط. من أشهر موسيقيي ذلك العصر (منتصف القرن السادس عشر أي قبل ميلاد بيتهوفن بمائتي عام) كلاوديو مونتيفيردي الذي كان أحد أكبر رواد الأوبرا. لكنه اشتهر بأغانيه المسماة مدريغا Madriga التي تميزت باستخدام اللغة الإيطالية "الحديثة" آنذاك بدلا من اللغة اللاتينية ولم تقترن بالكنيسة المسيحية التي عرفت نمط أغاني الموتيت المهيمنة على الطقوس الكنسية.
عكست مدريغا أجواء عصر النهضة بأشكالها المتنوعة فتألفت من العشق والوداع الحزين والشكوى بمعنى أنها لم تجسد تلك الصورة المثالية السائدة حتى اليوم فيما يتعلق بتمجيد عصر النهضة كما لو اكتملت فيه كل أسباب السعادة والرخاء والطمأنينة.
أما السيمفونية السابعة فلم تتسم برومانسية الرابعة أو بالنزعة البطولية للثالثة أو بالإحساس الغنائي المرهف كالرابعة أو بعظمة الكوريغرافيا الموسيقية الحافلة بالعظمة والمجد كالتاسعة وهي آخر أعماله الملحمية، بل أخذت نمطا آخر قريبا من موسيقى الرقص بالمفهوم التقليدي.
كتب الموسيقي الشهير ريتشارد فاغنر عام 1850 حول السيمفونية السابعة أنها "بمثابة باليه أو شبه باليه لفن الرقص. فهي من معالم الرقص في أنبل وأبرع أشكاله... لتصبح مزيجا من الإبداع المثالي والرياضة البدنية. هنا يكتمل التجانس بين النغم والانسجام".
ملحمة كنسية ونهج موسيقي رقصي مستحدث
لم يعرض المهرجان الموسيقى الراقصة لدى عملاق العصر الكلاسيكي فحسب، بل لدى بعض موسيقيي الابتكار التحديثي أيضا: مثل الفرنسيين موريس رافيل الذي ألف مقطوعة موسيقية على نمط الفالس وهنري دوتييه (1916-2013) الذي لحن مقطوعة باسم "عالم بعيد للغاية" أثقل كاهل المتفرجين بسبب النهج الموسيقي الرقصي المستحدث على نحو غير محبب أو مألوف بالنسبة لعشاق الموسيقى الكلاسيكية الكبار في السن في الأغلب.
عزفت في المهرجان الملحمة الكنسية الوحيدة لبيتهوفن المسماة "المسيح فوق جبل الزيتون" التي اختلفت من حيث النهج الموسيقي كثيرا عن ملحمة يوهان سبستيان باخ الكنسية (أوراتوريوم) حول عيد الميلاد باعتبار أن الثانية تشبعت بروح عصر الباروك فيما اتسمت ملحمة بيتهوفن بمزيج من المدرستين الكلاسيكية والرومانسية.
المعروف أن باخ كان الموسيقي المفضل لدى بيتهوفن. لا شك أن عبقرية بيتهوفن شملت الأعمال السيمفونية ومقطوعات البيانو والأوركسترا. أما أعمال الأوبرا والقطع الكنسية فلم ترقَ حتى على حد قوله وفي تقدير النقاد إلى مستوى أشهر أعماله الإبداعية. لكن هذا التقييم النقدي لا يشمل قطاع الكورال الذي أبدع فيه على نحو يكاد يكون مطلقا سواء في الملحمة الكنسية المذكورة أو في آخر سيمفونياته أي التاسعة.
عزفت في المهرجان كذلك السيمفونية الثانية التي نادرا ما عزفت في المهرجانات والحفلات الموسيقية رغم روعة بعض مكوناتها لا جميعها. والملاحظ أنه ألفها قبل أن تصقل شخصيته المستقلة العبقرية فجاءت الثانية قريبة من تأثيرات سلفه موتزارت (موزار) عليه ولكن أقل إبداعا منه.
حقوق النشر: عارف حجاج/ موقع قنطرة 2017