بيتهوفن...من التشبع بفكر الثورة إلى الإيمان بالمصير
كالمعتاد كانت أعمال بيتهوفن محور أنشطة المهرجان السنوي لهذا العام 2018، حيث قدمت مجموعة كبيرة من السيمفونيات التي لحنها خاصة السيمفونية الخامسة باعتبار أنها تحمل تسمية المصير كرمز فني وفكري لمهرجان 2018. كما قدمت أعماله الأخرى مثل كونشرتات البيانو برفقة الأوركسترا أو بعدم رفقتها.
شارك بمهرجان بيتهوفن لعام 2018 أيضا عازف البيانو المجري الشهير اندراش شيف. وهو يعتبر النجم اللامع لمهرجان بون والمحبوب كثيرا من الجمهور. وكان في العام السابق 2017 قد شارك لا بنفسه بل من خلال موسيقيين أوروبيين شباب تتلمذوا على يده. تناولت أعماله هذا العام قطعا لكل من بيتهوفين وبارتوك وشوبارت وشومان ولست.
الجدير بالذكر أن شومان عاش معظم سنين عمره في مدينة بون وإن انحدر من مدينة واقعة في أقصى شرق ألمانيا وكان متزوجا من عازفة البيانو الشهيرة كلارا شومان التي قيل إن موسيقيا آخر شهيرا من هامبورغ هو برامز ولع بها وأتى كثيرا لزيارتها في بون كما أنه شارك في بعض أعمالها الموسيقية. ويقال إن شومان كان يعاني من حالة اكتئاب نفسي حاد دفعه مرارا لمحاولة الانتحار ولكنه مات في مصحة للأمراض النفسية في بون.
"نعم للجسور لا للجدران"
نعود لعازف البيانو شيف لنلاحظ أنه أنشأ مجلسا يختص بشؤون الموسيقى وحقوق الإنسان تبنى فيه شعار "نعم للجسور لا للجدران" رافضا بذلك المواقف السياسية العنصرية التي يتبناها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان تجاه اللاجئين على وجه خاص وتجاه كل من عارض سياسته اليمينية المتشددة في الداخل وفي صفوف الاتحاد الأوروبي. وما زال شيف يرفض إقامة حفلات موسيقية في المجر طالما ظل اليمين القومي المتشدد يحكم البلاد.
وضعت نايكي فاغنر حفيدة عملاق الموسيقى ريشارد فاغنر ومديرة مهرجان بيتهوفن السنوي في مدينة بون الألمانية الواقعة على ضفاف نهر الراين الثورة شعارا لمهرجان عام سابق 2016. وكان بيتهوفن هذا الموسيقي الفريد من نوعه قد عاصر مجموعة من الثورات والانتفاضات التي وقعت في القارة الأوروبية وتشبع خاصة بأفكار الثورة الفرنسية مما انعكس خاصة على ملحمة "ارويكا" أي السيمفونية الثالثة. لكنه سرعان ما تبين له بأن أغلب تلك الثورات أصبحت فيما بعد رمزا ومحركا للقمع واضطهاد الغير وكراهيته.
لكن لماذا جعل مصطلح المصير عام 2018 شعارا لمهرجان يحمل اسم بيتهوفن؟ قبل الإجابة على هذا السؤال تعين علينا بداية أن نلاحظ أن هذا المصطلح متداول في الثقافات الشرق أوسطية والإسلامية أكثر منه في حالة المجتمعات الأوروبية بحكم كونها في الأغلب مسيحية في القالب الشكلي وعلمانية في الحياة العملية. "المصير" أو "القضاء والقدر" أو بالتعبير الشعبي المبسط "القسمة والنصيب" كلها مصطلحات تعكس الشعور والإيمان المتداوليين في كافة بلاد الشرق سواء المسلمة ابتداء من المغرب وانتهاء بإندونيسيا أو لدى شعوب أخرى من أفريقيا وآسيا تدين بأديان ومعتقدات أخرى.
أما في المجتمعات الغربية والأوروبية خاصة الواقعة منها في غرب القارة وشمالها فكثيرا ما تنظر نخبها الفكرية والاجتماعية إلى هذه المفاهيم على أنها "متخلفة" أو على الأقل غير متلازمة مع متطلبات العصر الحديث. أما في حالة اندلاع الأزمات أو الكوارث على المستوى الفردي أو الجماعي فإننا نلاحظ هنا أو هناك معاودة في النظر إلى هذه المفاهيم إلى درجة تقبلها ولو آنيا وجزئيا ليس فقط لدى عامة الشعب بل حتى لدى المثقفين المعرف عنهم بأنهم لا يدينون سوى بمبدأ العقلانية البعيد عن الروحانية بالمفهومين التقليدي والديني.
"المصير" يرتبط في كل الثقافات بالألم ووالسعادة
مفهوم المصير يتمشى إذَنْ كثيرا مع التجارب التي مر بها ببيتهوفن طيلة حياته. والمعروف أن "المصير" يرتبط في كل الثقافات بالألم والمآسي مثل ما يرتبط بالمفاجآت السارة والسعادة غير المتوقعة. في حالة بيتهوفن كان المصير مزدوجا أيضا أي حافلا بالعبقرية الموسيقية غير الاعتيادية من جهة وبالقهر والمعاناة من جهة أخرى. فقد بدأ منذ سن مبكرة يعاني من أعراض الصم مما جعله يكتب وصيته في مسكنه المتواضع الواقع في حي هايلغنشتات في مدينة فيينا في سن مبكر أي بعد أن بلغ من العمر 30 عاما وعاش طويلا في دوامة متواصلة بين عزمه على الانتحار وحرصه الشديد على مقاومة هذا المرض الذي لم يحل دون إبداعه الموسيقي الخارق وقدرته على إنتاج أعظم الأعمال الموسيقية لا في عصره فحسب بل للأجيال والقرون المقبلة. أي أنه حاول على حد تعبيره لا التغلب فقط على مصيره الداكن بل و"القضاء تماما" عليه.
من هنا تتضح الأهمية المتميزة للسيمفونية الخامسة المسماة "سيمفونية القدر" التي لحنها 1807 في قمة معاناته من المرضين العضوي والنفساني والتي مازال علماء الموسيقى يعتبرونها من أعظم سيمفونياته بل إحدى أشهر الأعمال الموسيقية الكلاسيكية على مر التاريخ. .."تا..تا..تا..طا.." من منا لم يسمع هذا اللحن الشهير؟ إنه اللحن الافتتاحي للسيمفونية الخامسة.
السيمفونية الخامسة...وتيرة عاطفية درامية تعكس مصائب هزات القدر والمصير
قدم بيتهوفن هذه الملحمة الموسيقية للمرة الأولى في مسرح "أن دير فين" كما ألف في ذات الوقت أعمالا أخرى شهيرة مثل أوبرا فيديليو والكونشرتو رقم 4 للبيانو. فسر البعض مقدمة السيمفونية الخامسة ذات الوتيرة العاطفية الدرامية بأنها تعكس مصائب هزات القدر والمصير التي عانى منها طويلا ورأى البعض الآخر بأنها تعبر عن خيبة أمله وحزنه حيال انتكاس الحب بينه وبين نبيلة نمساوية لم تبادله في بادىء نفس الأحاسيس. وكان هذا اللحن أثناء الحرب العالمية الثانية رمزا موسيقيا لأحلام الحرية التي ساورت مشاعر الشعوب التي احتلها وقهرها النظام النازي. وكان بيتهوفن قد كتب هذه السينفونية بين عام 1805 وعام 1808.
وقد احتلت "الخامسة" مركزا بارزا في مهرجان هذا العام 2018 في مدينة بون بحيث يمكن اعتبارها المحور الأساسي للمهرجان. حيث عزفت مرتين إحداهما في كنيسة "كروتسبيرغ" الإنجيلية الواقعة في منتصف المدينة وتم ذلك على النمط الكلاسيكي التقليدي الذي أثار كالمعتاد إعجابا فائقا من الجمهور.
عزف السيمفونية الخامسة بـ "أربعين إصبع"
كما عزفت "الخامسة" مرة أخرى على نمط غير تقليدي بهر إعجاب الجمهور كذلك حيث عزفها على آلتي بيانو اثنتين فنانتان وفنانان أي أربعة أشخاص وذلك على وتيرة مستحدثة نادرة تسمى "العزف بثمانية أَيْدٍ". فنانو "الأصابع الأربعين" (ثمانية أيْدٍ، أربعة عازفي بيانو، آلتا بيانو اثنتان!) هم المكسيكي ايفرين كونساليس والألمانية كريستيني غيرفيغ والفرنسية ايزول جوست والبرتغالي دومنغوس كوستا.
وقد قدم المهرجان عرضا شبيها لأعمال البيانو هذه المرة باستخدام أربعة أيدٍ لا ثمانية، حيث عزف الثنائي المجري إيزابيلا سيمون / دينيش فاريون في قصر الضيافة "بيترزبيرغ" المطل على حوض الراين وضواحي مدينة بون على آلتي بيانو وأحيانا على آلة واحدة مشتركة قطعا لكل من روبيرت شومان وكلود ديبوسي وبيلا بارتوك وغيورغي كورتاغ وأخيرا لبيتهوفن نفسه (يسمى هذا النمط في عزف البيانو بأربعة أيد: فوغا). "فوغا" مصطلح باللاتيني يعني الهروب وهو صنف من التلحين يجعل المستمع يتخيل وجود أجواء من المطاردة والهروب، الهجوم والاختباء وذلك بسبب تتالي وتعاقب اللحن وتكرار المقطع.
كورتاغ موسيقي مجري معاصر ولد عام 1926 والمعروف أن مهرجان بون يقدم بالإضافة إلى أعمال عمالقة الموسيقى الكلاسيكية بيتهوفن وموتزارت وهايدن وفاغنر وبرامز وشوبارت وتشايكوزفسكي ومندلسون بارتولدي أعمال بعض الفنانين المعاصرين بل حتى المغمورين منهم. لكن الجمهور وأغلبهم من المسنين لا يتقبل الموسيقى المعاصرة أو ما يسمى بالموسيقى الإلكترونية بصدر رحب في الأغلب. لعل ذلك قد دفع كورتاغ إلى تلحين مقطوعات بعضها مستحدث تماما وبعضها الآخر يستند على أعمال عبقري موسيقى الباروك يوهان سبستيان باخ، وجاءت نتيجة هذا الإنتاج بمثابة حل الوسط أي مزيجا من القديم التقليدي والحديث الابتكاري الأمر الذي نال بالفعل إعجاب غالبية الجمهور.
مهرجان روائع الأعمال الموسيقية لبيتهوفن
كالمعتاد شهد المهرجان روائع الأعمال الموسيقية لبيتهوفن مثل عدد كبير من السيمفونيات والسونات (سونات العاصفة كمصدر إلهام لغيره من الموسيقيين على سبيل المثال) وعدد من كونشيرتو البيانو كما شهد أعمالا له عندما كان في بداية عمله الموسيقي. فمقطوعته المسماة كونشيرتو للبيانو والأوركسترا رقم 2 ب- دور أوب 19 التي ألفها عام 1795 وهو في الخامس والعشرين من العمر أخذت سمات موتزارت أكثر من النمط التقليدي المعتاد له.
عزف هذه المقطوعة وقطعة أخرى لموتزارت (روندو للبيانو والأوركسترا د-دور رقم 382 في سجلات أعمال موتزارت) عازف بيانو أمريكي من أصل آسيوي يبلغ 26 عاما من العمر يسمى كيت يعتبر من أكبر أصحاب المواهب في عزف آلة البيانو في العالم. الجدير بالذكر أنه بدأ يلحن منذ سن الخامسة.
شاركَتْ في مهرجان هذا العام 2018 مرة أخرى فرقة موسيقية تشتهر باستخدامها للآلات الموسيقية القديمة التي تعود إلى مئات السنين. تحمل الفرقة تسمية "كريستوفيري" ورغم هذه التسمية ذات الوقع الإيطالي فإن مديرها هو الهولندي ارتور شوندورفورد الذي يعمل بها كمايسترو وعازف بيانو في ذات الوقت. عزفت هذه الفرقة في مسائين اثنين في قاعة تسمى "صالة بيتهوفين الصغيرة" تيمنا بصالة الأصل الأكبر الواقعة في مدينة بون على ضفاف الراين وتناولت القطع أعمالا موسيقية لمعاصري بيتهوفين مثل هايدن وكارا فيليب إيماويل باخ ابن أكبر موسيقيي عصر الباروك يوهان سباستيان باخ.
كما عُزِفَت أيضا قطعتان موسيقيتان لفنان يُسمى كارل ماريا فون فيبر يقال إن بيتهوفين لم يمِل إليه لا شخصيا ولا فنيا واعتبره رغم شهرته حينذاك موسيقيا مغمورا فاشلا. لعل أهم أسباب ذلك أن فيبر لم يطور نمطا موسيقيا أصيلا بل لجأ إلى أنماط متعددة بعضها متجانس وبعضها الآخر خال من الانسجام والتجانس. على أية حال فقد رأى الجمهور بأن هذه الفرقة باستخدامها للآلات القديمة حافظت على الأصول وأكسبتها في نفس الوقت طابعا "ابتكاريا" محببا للنفس. لهذا فإن بامكاننا أن نقول إن هذه الفرقة كانت من الفرق التي عشقها الجمهور على نحو خاص.
عزف سيمفونية بيتهوفن وفق النمط الابتكاري لا الكلاسيكي أثار إعجاب الجمهور
المصير والقدر يكون لهما في أغلب الأحيان كما ذكرنا سابقا طابع يحفل بالمفاجآت المحزنة أو المرتبطة بالحنين المتسم أحيانا بالحزن أيضا. لكن المهرجان افتتح بالسيمفونية التاسعة لبيتهوفين وذلك في الساحة الرئيسية للمدينة. تعبر التاسعة عن السعادة والفرحة وقد عزفت وفقا للنمط الابتكاري لا الكلاسيكي الذي أعده ليونارد بيرنستين مما أثار إعجاب الجمهور كثيرا.
الجدير بالذكر أن صالة بيتهوفن التي يجري ترميمها منذ سنتين كان يفترض أن تصبح جاهزة في يوبيل مرور 250 عام على ميلاد بيتهوفن أي عام 2020. لكن إجراءات البناء والترميم ستستغرق فترة أطول من ذلك، الأمر الذي أثار استياء سكان المدينة من مسؤوليها فقد كان يتعين عليهم تحسب تأخير تلك الإجراءات والبدء مبكرا بأعمال الإنشاء والتصميم.
عارف حجاج
حقوق النشر: موقع قنطرة 2018