عبقري الموسيقى بيتهوفن - هل نال اهتمام العالم العربي والإسلامي؟
تتمركز في نهاية عام 2019 وطيلة عام 2020 الفعاليات والأنشطة الموسيقية في ألمانيا عامة ومدينة بون خاصة على الإبداع الفني والموسيقي الذي خلفه لودفيغ فان بيتهوفن قبل قرنين ونصف قرن.
وقد ولد هذا الموسيقار العبقري في مدينة بون الواقعة على ضفاف نهر الراين الرومانسي قبل 250 عاما أي في عام 1770 وتوفي في فيينا عام 1827.
انتشرت "حمى بيتهوفن" بالمفهوم الإيجابي لا المرضي على وجه ملحوظ في المدينتين اللتين شهدتا عطاءه الموسيقي الخصب، وهما بون التي عاش وأنتج فيها أعمالا هامة ليتركها بعد بلوغه سن الثانية والعشرين من عمره إلى فيينا.
كانت هذه المدينة عاصمة للامبراطورية النمساوية أي قبل نشوء الامبراطورية المزدوجة بين النمسا وهنغاريا. والجدير بالذكر أن فيينا كانت وما زالت تشكل أحد أبرز المراكز الرئيسية لأعمال الموسيقى والأوبرا والمسرح وغير ذلك من المكونات الفنية البارزة لا في أوروبا فحسب بل في العالم كله.
وسبق أن احتلت مدينة مانهايم الألمانية الواقعة على ضفاف نهري الراين والنيكار في القرن الثامن عشر المركز الثاني في صدارة الأعمال الموسيقية مما جعل موتزارت يعقد النية على مغادرة فيينا والتوجه إليها. لكن عروضا مالية مغرية من قبل الحكام النبلاء في الإمبراطورية جعلته يعدل عن نيته هذه.
وحيث أن بيتهوفن رأى في شخص موتزارت وأعماله مثلا أعلى له فقد توجه إلى فيينا سعيا لتحقيق درجات أعلى من الشهرة والإبداع الفنيين. لكن القدر شاء أن يتوفى موتزارت قبل أن يبدأ بتهذيب المقدرة الموسيقية لبيتهوفن. بالتالي فقد تعين على الموسيقار الشاب أن يتتلمذ على يد موسيقار نمساوي شهير آخر هو يوزيف هايدن.
طابع متميز خلاق وديناميكي على نحو غير مألوف
نتيجة لذلك فقد اتسمت الأعمال الأولى لبيتهوفن بطابع شبيه من أعمال العبقريين الآخرين موتزارت وهايدن. لكن سرعان ما تغير ذلك ليصبح لبيتهوفن طابع متميز خلاق من ناحية وديناميكي على نحو غير مألوف من ناحية أخرى.
اتسم هذا الطابع بصفة جديدة أخرى لم يعرفها أسلافه في الحقبة الكلاسيكية الذين انخرطوا في سياق "الفن من أجل الفن". فقد اعتنى بيتهوفن بالأفكار والأحداث السياسية المعاصرة وآمن بمبادىء الحرية التي انبثقت عن فلاسفة الثورة الفرنسية مثل روسو ومونتيسكيو، بحيث أصبح الكثيرون من رجالات عصره المحافظين يعتبرونه متمردا على القيم السائدة.
وقد حمته شهرته وعبقريته من التعرض لأساليب القمع التي استهدفت في ذلك العصر كل من تجرأ على التعبير عن رأيه وتوجيه النقد لحكام العهد المطلق. خلافا لعظماء معاصرين آخرين كان بيتهوفن دومًا من أتباع النظام الجمهوري. وعرف عنه عزة النفس واحترام الذات في التعامل مع أمراء عصره وغيرهم من النبلاء.
وصادف أنه التقى بكبير شعراء عصره يوهان فولفغانغ فون غوته Goethe في منتجع كائن اليوم في جمهورية التشيك يسمى مارينباد. تمشى كلاهما في أحد حدائق المنتجع وإذا بهما يريان إمبراطورة النمسا تتمشى هي كذلك بصحبة عدد كبير من حاشيتها.
حيّا بيتهوفن الإمبراطورة بأدب وتحفظ ينم عن صدقه في التعامل مع خصومه وبوحي من نزعته الجمهورية المنفتحة على تيارات الحرية.
ولكنه لاحظ ممتعضًا انحناء الشاعر العظيم غوته أمام القيصرة على نحو غير اعتيادي، بحيث كادت طاقيته التي رفعها تحية لها تمس أرض الحديقة. ويقال إن بيتهوفن وبخ غوته على تلك المغالاة المعيبة في نظره رغم أنه كان يضمر له كأديب وعالم ورجل دولة مشاعر تقدير وإعجاب كبيرة.
وهكذا تعامل بيتهوفن دوما مع نبلاء الإمبراطورية في فيينا على الرغم من أنه كان في حاجة لهم نظرا لانهم كانوا المصدر الرئيسي لترتيب وتمويل الحفلات الموسيقية والأعمال المسرحية والأوبرالية، إلا أنه كان يتجنب أشكال التبجيل والتعظيم ونادرا ما عمد إلى الإسراف في أنماط الانحناء إلا مكرهًا.
هذا على عكس سلفه العبقري الموسيقي موتزارت الذي عرف بتملقه للطبقة الأرستقراطية إلى درجة المذلة. يقول مؤرخو الموسيقى إن النبلاء لم يبخلوا على بيتهوفن بالعطاءات المادية والمعنوية، رغم هذه الصفات التي اتسم بها، مما جعل حياته أكثر رخاء واستقرارا من موتزارت.
لكن بيتهوفن بحكم تركيبة شخصيته لم يعوّل اهتماما كبيرا على المال والهدايا الثمينة ربما لميله إلى نمط الحياة البوهيمية ولكونه نشأ في ظل ظروف اجتماعية بسيطة في مدينة بون يمكن وصفها بالبورجوازية الصغيرة.
نزعة جمهورية منفتحة على تيارات الحرية
ثمة فارق آخر بين بيتهوفن وغيره من عمالقة الموسيقى الكلاسيكية مثل باخ أو موتزارت أو هايدن وهو أنه رفض العمل بصفة موظف أو مستخدم لدى إمبراطور أو ملك أو أمير أو لدى رب عمل ثري آخر بل فضل العمل الحر مما جعل بعض المؤرخين يستخلصون بأنه من رواد الأعمال الحرة بالمفهوم الحديث Freelancer.
هناك اعتقاد خاطىء بكون بيتهوفن لم يبدأ مرحلة الإبداع إلا بعد وصوله إلى فيينا. فالواقع أنه أكمل في عاصمة الإمبراطورية النمساوية الكثير من المسودات التي كان قد أعدها في بون كبعض السنفونيات وأعمال السونات ومعزوفات البيانو والكمان. رغم ذلك فقد ألهمت عاصمة الفن والأنس فيينا بيتهوفن الكثير من أعماله وسهلت اتصالاته بالنبلاء وغيرهم من أصحاب النفوذ في القارة الأوروبية.
أمجاد موسيقية رغم صمم شبه كامل
أصيب بيتهوفن بصمم شبه كامل بعد بلوغه سن الثلاثين والمدهش إن لم نقل من قبيل المعجزة أن ذلك لم يقف حجر عثرة في طريقه نحو المزيد من الأمجاد الموسيقية، بل استطاع تلحين أروع السينفونيات بما فيها التاسعة رغم هذا المرض الذي حل به. وهنا احتار علماء الموسيقى في تفسير هذه الظاهرة غير المسبوقة. والأغلب أن اهتزازات أعصاب الجسم جعلت هذا الموسيقار قادرا على استيعاب أعماله الموسيقية ومتابعتها وتنقيحها على النحو المنشود.
من أهم فعاليات مدينة بون بمناسبة يوبيل بيتهوفن معرض افتتح في منتصف شهر ديسمبر (كانون الثاني) 2019 في المتحف الاتحادي حول حياة بيتهوفن وعطائه الفني يستغرق عدة شهور.
والأهم والأكثر تخصصا منه مهرجان بيتهوفن السنوي Beethoven-Fest الذي سيتألف عام 2020 أي في يوبيل ميلاد بيتهوفن قبل 250 عاما من فصلين لا من فصل واحد كما جرت العادة، حيث تجرى فعاليات على مرحلتين أي في شهري مارس (آذار) وسبتمبر (أيلول).
ويشارك بالمهرجان على سبيل المثال دانييل بارينبويم Daniel Barenboim الذي سيقود أوركسترا برلين في السنفونية التاسعة المسماة "ملحمة الحرية" التي أصبحت شعار الاتحاد الأوروبي فنياً.
ربما يعرف بعض القراء هذا النابغة اليهودي الذي سبق له أن أسس مع العالم الفلسطيني أدوارد سعيد "ديوان الشرق والغرب" الموسيقي، المنطلق من حتمية تكريس فكرتي المساواة والعدالة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
مشاركة عربية مسلمة ضئيلة في مسابقة أحسن عازفي البيانو
جرت في بون في ديسمبر 2019 مسابقة أحسن عازفي البيانو التي تعقد كل عامين تحت إشراف المؤسسة الألمانية للاتصالات (دويتشه تيليكوم) Deutsche Telekom وأصبحت هذه المسابقة تحمل من الآن وصاعدا اسم بيتهوفن.
كان كل الفائزين الثلاثة هذا العام 2019 (الجائزة الأولى: 30000 يورو، الثانية :20000 يورو والثالثة 10000 يورو) من شرق آسيا وتحديدا من الصين (كونمو ين) واليابان(يوتو تاكيتسافا) وكوريا الجنوبية(الشابة شيهايون لي). الجدير بالذكر أن نسبة الآسيويين الفائزين بهذه الجائزة منذ انطلاقها عام 2005 عالية وتضاهي نسب المشاركين الأوروبيين والأمريكيين.
أما نسبة المشاركين من البلدان المسلمة والعربية فضئيل للغاية حيث بلغ عددهم ثلاثة أشخاص أحدهم أردني (كريم سعيد) وتركيان (براك تشيبي وإيمره إليفور) ولم يصل أي منهم إلى التصفيات الختامية.
هذا لا يعني إطلاقا بأن هذه المنطقة تفتقر إلى الفنانين الموهوبين المتخصصين بأنماط الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية ابتداء من الباروك وانتهاء بالرومانسية والكلاسيكية الحديثة. لكن المشكلة تكمن في كونهم أقلية ضئيلة لا تتلقى الدعم المعنوي والمادي واللوجستي اللازم سواء من الدولة أو من المؤسسات العاملة في ميادين الموسيقى والفنون.
أما في حالة الدول الآسيوية السابقة الذكر فالملاحظ أن هذا النمط من الموسيقى لا يقتصر على فئات نخبوية ضئيلة للغاية، بل يشمل نسائج اجتماعية متعددة تشكل نسيجا اجتماعيا لا يستهان بأمره ونفوذه.
ينبغي أن نضيف في حالة كوريا الجنوبية بأن نسبة المواطنين الذي اعتنقوا الديانة المسيحية في العقود الماضية وصل إلى قرابة 40% من السكان. وقد تزامن ذلك مع تزايد غير مسبوق في تأثير التبشير المسيحي والثقافة الغربية على حياة نسبة عالية من السكان.
كثيرا ما جرى الحديث عن ولع بيتهوفن بالنبيذ الأبيض وخاصة من حوض نهري الراين والمزيل. وكتب بعض مؤرخيه بأنه كان يتلقى دوريا صناديق النبيذ من ألمانيا وتحديدا من تلك المنطقتين.
الجدير بالذكر في هذا السياق أن والدة بيتهوفن ماريا ماغدلينا تنحدر من عائلة كيفيري في إقليم حوض نهر موزيل في غرب ألمانيا. هذه التسمية أي كيفيري تعود إلى اسم البلدة التي نشأت فيها وما زالت فيها عدة معامل لانتاج أنواع مشهورة من النبيذ الأبيض والأحمر.
وقد عرف عن بيتهوفن ولعه الكبير بالنبيذ كحال الكثيرين من سكان حوضي هذين النهرين المشهورين برومانسية الطبيعة وميل السكان فيهما لما يسمى بالحياة الحلوة، إلا أنه لم تثبت صحة الادعاءات القائلة إن بيتهوفن عهد شرب النبيذ حتى الثمالة، علما بأن نسبة الكحول في النبيذ كانت في عهده أقل كثيرا من الوقت الحاضر. لكن المؤرخين أجمعوا على ميل عائلة بيتهوفن بأغلب أعضائها للنبيذ أبا عن أب بل ربما أما عن أم.
حقوق النشر: عارف حجاج / موقع قنطرة 2019