تصحيح مفاهيم غربية أحادية حول الحروب الصليبية
الملحمة الأوبرالية المسماة "جيروزاليم/القدس" للموسيقي الإيطالي الشهير فيردي حول الحروب الصليبية معروضة في دار الأوبرا بمدينة بون الألمانية [شاهد الصور على هذا الرابط]، وقد لاقت نجاحا ساحقا من الجمهور وأجهزة الإعلام. لقد سعى معدو هذه الأوبرا إلى تصحيح بعض المفاهيم الأحادية الجانب حول الحروب الصليبية من خلال إشارتهم إلى أفكار ممثلي "الرؤى الأخرى" مثل المؤرخ المسلم ابن الأثير.
اشتهرت أوبرا جيروزاليم/القدس للموسيقي الإيطالي الشهير جوزيبي فيردي (1813 - 1901) في عام 1847 باللغة الفرنسية، وعرضت مرارا في دور الأوبرا الفرنسية إلى أن أعيد اكتشافها في مطلع القرن العشرين لتصبح منتشرة في كافة الدول الأوروبية الأخرى.
تتناول أوبرا جيروزاليم/القدس المواقع التاريخية للحروب الصليبية من المنطلق اللاهوتي التقليدي الذي لم يعبأ بالمجازر التي اتسمت بها تلك الحروب والتي لم تكن موجهة ضد أهالي وحكام الأراضي المقدسة في فلسطين فحسب بل أيضا ضد الإمبراطورية البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية رغم انتمائها للديانة المسيحية ولكن بالمذهب الأرثوذكسي الذي لا يعترف ببابا روما ممثلا رئيسيا للدين المسيحي.
ارتكزت فكرة الحروب الصليبية على الأفكار التي زرعتها كنيسة روما في نفوس النبلاء والأكليروس وعامة الناس بكون تلك الحروب ستؤدي تحت راية الصليب إلى إنهاء حكم المسلمين في فلسطين وإعادة الهيمنة المسيحية لكافة أنحاء بلاد الشام.
تفاصيل ملحمة "جيروزاليم - القدس" الأوبرالية
قبل أن نسترسل في موضوع الحروب الصليبية وعرض النظريتين التاريخيتين المتضاربتين حول شرعيتها الدينية والأخلاقية نود بداية أن نتطرق إلى محتوى هذه الأوبرا. لا نريد القول إن الأوبرا أهملت تماما المنطلقات الدينية والأخلاقية، لكنها تبنت في المقام الأول وبصورة عامة الرؤية الرسمية لكنيسة روما في تلك الحقبة أي في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي ولو على نحو سطحي عابر، لتحول هذه الملحمة الدرامية كما جرت عليه العادة في الأعمال الأوبرالية إلى قصة حب شبيهة بروميو وجوليا مع الفارق بكون نهايتها اتسمت بالسعادة والبهج.
وقد جاءت القصة حافلة بالأحكام المسبقة أحيانا والتصورات الرومانسية للغرب حول الشرق أحينا أخرى كمظاهر الهيمنة الأبوية وأقاصيص الحب والغدر والانتصار وجذور مكونات الهزيمة والفخر والعار.
وقعت أحداث الأوبرا في الفترة بين 1095 و 1099 ابتداء من تولوز الفرنسية التي كانت تحت سيطرة الكونت ريمون دي سان جيل وانتهاء بفلسطين التي خضعت للحكم الفاطمي.
تروي الملحمة الأوبرالية قصة النبيل غاستون وحبيبته هيلين التي بايع والدها كونت تولوز زواجهما لإنهاء خلاف طال زمنه بين سلالته وسلالة غاستون المنافسة لها. لكن شقيق الكونت روجير المولع بحب هيلين رغم أن ذلك النمط من الحب يدخل في باب مضاجعة المحارم، تصدى لخصمه غاستون وكلف أحد المجرمين بالقضاء على حياته.
لكن الجانح سدد خنجره خطأ في ظهر كونت تولوز وتخيل له بأنه أودى بحياته. وزعم الجانح بعد إلقاء القبض عليه بأن الذي كلفه بارتكاب الجريمة خطيب هيلين أي غاستون، مما جعل الكنيسة البابوية تحكم بقتله. ولم يفلح غاستون في إثبات برائته ولكنه نجح في الفرار من قبضة يد القضاء ثم توجه إلى فلسطين ليشارك بالحروب الصليبية التي أمر البابا أوربان الثاني بشنها.
كما توجه روجير برفقة كتائب أخرى إلى فلسطين ليكفر عن ذنوبه وأكبرها مسؤوليته العظمى في الوقائع الدرامية التي حدثت وكان يومها على يقين تام بأن شقيقه ريمون قد لقي حتفه على يد منفذ مؤامرة الاغتيال.
أما هيلين فإنها لم تشك لحظة ببراءة غاستون مما دفعها هي أيضا -من منطلق حبها العميق لغاستون والتعصب الديني السائد وحنينها لرؤية الأراضي المقدسة- إلى التوجه إلى فلسطين آملة بلقاء حبيبها غاستون هناك.
وقد نجح المخرج فرانسيسكو نيغرين في تصوير المعاناة الشديدة التي رزح غاستون تحت طائلها مقتبسا ملامحا درامية من ملحمة الكوميديا الالهية لدى دانتي، خاصة فيما يتعلق بالخوف من دخول الجحيم. بعد أن نجح الصليبيون في غزو فلسطين -والقدس خاصةً- أصدر كونت تولوز الذي اتضح بأنه مازال على قيد الحياة حكما بقتل غاستون بإمرة ممثل البابا.
في أحد مشاهد الأوبرا نرى غاستون رهن الاعتقال من قبل أمير اللد والرملة كما نرى هيلين وقد وصلت هي أيضا إلى مكان احتجازه ونلاحظ بأن معاملتهما تتأرجح بين الرحمة والرغبة في الانتقام.
كما أن هناك مشهدا قصيرا يتعذر على المشاهد أن يجد تفسيرا واضحا له من الوهلة الأولى وذلك عندما حاصرت نساء الأمير -المسمات في الأوبرا بالحريم- كلا المعتقلين وتعرضن لهيلين بدرجة كبيرة من الإهانة والقسوة دون أن يفهم عما إذا الأمر يتعلق بتعذيب دموي أم بمحاولة من النساء لختن هيلين.
تتضح "النهاية السعيدة" لقصة الحب بعد فرض الصليبيين هيمنتهم على الأراضي المقدسة وكشف روجير شقيق كونت تولوز النقاب عن محاولة اغتياله معترفا بأنه كان مدبر عملية الاغتيال.
بعد ذلك عمد روجير إلى الانتحار فيما سادت فرسان الحملات الصليبية الفرحة بالانتصار الحربي وبعودة المياه إلى مجاريها بين الفارس الأرستقراطي غاستون وزوجته هيلين.
نظرتان تاريخيتان متضاربتان حول الحروب الصليبية
فيما مجد الغرب المسيحي في ذلك الحين ولقرون عديدة بعدها الحروب الصليبية قيمها علماء الإسلام على نحو سلبي مطلق. وقد أشار معدو هذه الأوبرا إلى "الوجه الآخر" لتلك الحروب أي لوجهة النظر العربية والمسلمة المغايرة تماما وشددوا على أهمية الأبحاث التاريخية التي أعدها على سبيل المثال ابن الأثير في هذا السياق.
فقد وصف هذا المؤرخ المشهور في كتابه "الكامل في التاريخ" حوادث عام 492 هـ أي 1099 م كالتالي:
"... حدثت مأساة وفاجعة عظيمة يشيب لهولها الولدان وتضع لمصابها كل ذات حملٍ حملها !، ألا وهي سقوط بيت المقدس، ففي يوم الجمعة، اقتحم الصليبيون المدينة المقدسة بعد حصار دام أكثر من أربعين يومًا. انظر: فأحدثوا بالمدينة من الأعمال الوحشية اللاإنسانية ما تأبى الحيوانات البربرية المُفترسة أن تفعلهُ بمثيلاتها.
لقد لجأ مئات من المسلمين إلى سطح المسجد الأقصى؛ فقد أعطاهم ( تانكرد ) -أحد قواد الصليبيين- الأمان بل أعطاهم رايته ضمانًا لهم ؛ إلا أنهم في اليوم التالي ذبحوا جميعًا ذبح النعاج على أيدي الصليبيين، فقد دخلوا الحرم الشريف وقتلوهم جميعًا بلا استثناء، غير عابئين بالأمان الذي أعطاه تانكرد للأهالي، ولا برايته التي رفعوها اعتقادًا منهم أنها ستحميهم.
بل إنهم لم يتركوا مُسلمًا في الطُرقات أو البيوت أو المساجد إلا قتلوه واستباحوا دمه، دون أن يُفرقوا بين رجل وامرأة وطفل وشيخ! ؛ ولم يرعَ الصليبيون حُرمة المسجد الأقصى فأجهزوا على كل من احتمى به من المُسلمين وعددهم يزيد على سبعين ألفًا ".
تناول غربي لاحق للحروب الصليبية على وجه نقدي
الجدير بالذكر أن الأبحاث التاريخية في العالم الغربي بدأت هي أيضا تتناول ملف الحروب الصليبية ابتداء من نهاية القرن التاسع عشر/ بداية القرن العشرين على وجه نقدي، جعلها تفتقد الروحانية التقليدية والعمق الديني وتتسم بصفات محض سلبية كالرغبة في بسط النفوذ لاعتبارات تسلطية أو تجارية.
كما انتقدت هذه الأبحاث روح البطش والعدوانية التي استخدمها القادة الصليبيون ليس فقط تجاه السكان المسلمين في فلسطين وبلاد الشام عامة، بل أيضا تجاه سكان بيزنطة المسيحيين غير المنتمين للكنيسة الرومانية كما سبقت الإشارة.
عارف حجاج
حقوق النشر: عارف حجاج / موقع قنطرة 2019