رحلة كاتب جزائري إلى ليبيا قبل الثورة على القذافي
الساحة الخضراء والأنهج الواسعة المزينة بالنخيل والبنايات غير العالية التاريخية من السكنات إلى المقرات الحكومية إلى القلعة والقوس الرومانية والأضواء الكهربائية في الليل ورطوبة البحر المتوسط المنعشة وأسراب الحمام يتجمع ملتقطا فتات الخبز ويطير إذا ضايقه أحد.
وسيدات مع أطفالهن وأزواجهن في فسحة مسائية يكللها الخفر والحديث المعطر بالبسمات البريئة وصوت المؤذن ينبعث شاقا أجواز الفضاء من مسجد "أحمد باشا" العريق يدعو إلى صلاة المغرب أو العشاء وأفواج الأفارقة والمغاربيين العاملين أو المتسكعين.
هي أجمل ذكرى لي في طرابلس الغرب كما تسمى تمييزا لها عن طرابلس الشرق في لبنان، لم أكن أمل من التسكع على طول النهج المحاذي للبحر والساحة الخضراء وشارع عمر المختار رمز المقاومة الليبية.
كنت أحمل الحنين لكل مكان ولكل عطر ولكل ذكرى، أعانق بنظراتي طيور النوارس البيضاء وهي تلامس الماء وأتخيل أساطيل الفينيقيين والرومان والعرب وهي تجوب محتلة أو فاتحة هذا البحر العظيم الذي يتوسط قارات العالم القديم من فينيقيا إلى بحر الظلمات (المحيط الأطلسي).
وأردد في أعماقي: لقد ولدت لأرحل في المكان والزمان فأنا تقاطعات تاريخية ومكانية وشعورية لا يغادرني شعور دائم بالاحتفاء والدهشة والفرح العابر الذي يوفره لي فنجان قهوة جزوة في طرابلس وكأس شاي في صبراتة ولعب بساقي وهما في الماء وأنا جالس على صخرة الشاطئ بمدينة سرت شبه الخالية حيث الحرارة تعدت الأربعين في أواخر شهر أغسطس والغريب أنني كنت على الشاطئ! حتى إذا جاء المساء انقلبت سرت مدينة أخرى تعج بالناس الرجال والأطفال والنساء يخرجون لقضاء حوائجهم وللسمر ففي النهار يجري العمل بنظام الدوام الواحد ثم تكاد تنقطع الحياة وقت اشتداد الحر لتجدد الحركة في السابعة مساء.
من الجزائر عبر تونس إلى ليبيا
بدأت رحلتي من الجزائر العاصمة برا صباح الأربعاء باتجاه طرابلس التي وصلتها زوال الجمعة ذات أغسطس قبل الثورة وأنا أستعين بالذاكرة وحدها وهي مثخنة بالشجن والسنين وبكثير من الأمل في غد واعد لهذا البلد العربي الحقيق بكل خير ومسرة.
الطريق إلى الشرق يمتد منبسطا رتيب كأنه الأبد، فمنذ أن تركنا تونس وولجنا إلى الجماهيرية عبر معبر "رأس جدير" بعد مماطلات جمركية في تونس ولبيبا من أجل الدفع ولو بمبلغ ببسط لتسريع وتيرة الدخول الجماعي إلى تونس أو ليبيا، فالشعار المضمر الذي لابد من قراءته في ملامح رجال الجمارك وشرطة الحدود هو "دعه يدفع اتركه يمر".
يمتد الطريق بلا منعرجات طريق واسع تتوسطه أشجار النخيل وشعارات تلاحقك حيثما نظرت من نوع "النهر العظيم للشعب العظيم" "القرآن شريعة المجتمع " "الليبيون كلهم معمر القذافي في الفكرة والسلوك" "من تحزب خان".
أغسطس شهر حار والسفر في الصيف مرهق بل مخاطرة حين تقترب الحرارة من معدلات كبيرة وقياسية لكن في طرابلس الجو مقبول لولا رطوبة خانقة أحيانا، بين طرابلس وسرت يبدو الطريق كأنه الجحيم فأنت تسير بالموازاة مع الساحل ثم تنعطف إلى الجنوب في خليج سرت، ولا عجب فنحن في الصحراء وهذا الخليج يبدو أنه شرفة تطل على الجحيم ربما تقارب الحرارة الخمسين في بعض المناطق وأذكر أننا نزلنا قريبا من سرت لنستريح ونحتسي قهوة في مقهى بجانب الطريق.
كل من نلقاه كان ملثما على شاكلة الطوارق من الحر والغبار الصحراوي، حين فتحنا الحنفية سال الماء حارا لا يطاق ولن تشعر بالأمان من هذا الجو العدواني الذي يخنق أنفاسك إلا في الحافلة المكيفة، لكن في طرابلس الحرارة معتدلة مع رطوبة.
طرابلس الغرب عروس البحر المتوسط
تذكرت للتو تلك الحكاية التي تقول إن حاكم دبي قال للملك إدريس السنوسي لما زار طرابلس في الخمسينيات بأنه يتمنى أن تصبح دبي مثل طرابلس، فطرابلس تسمى عروس البحر المتوسط غير أنها لم تكن في أسعد أيامها أيامئذٍ، فالحصار الجوي يشل مطار طرابلس العالمي والحركة السياحية شبه مشلولة فلم ألتقِ إلا ببضع سياح بلغار فالثروة النفطية زهَّدت السلطة في تنشيط السياحة والاعتماد عليها في إنشاء بنية تحتية سياحية وخدماتية مثلما جرى الحال في المغرب وتونس.
فالخدمات في ليبيا رديئة وبدائية أحيانا والنظافة قليلة والعملة المعدنية لا وجود لها إلا الورقية ولا باص في المدينة ماعدا سيارات التاكسي ولا ميترو ولا لسكة حديد فلا يمكن أن تصنف كبلد سياحي لافتقادها إلى البنية التحتية للسياحة.
وعلى الرغم من ارتفاع أبراج جهة البحر تشير إلى حركة عمرانية تحديثية على شاكلة دول الخليج العربي تُفاجَأ بكم النفايات في الشوارع والقاذورات في كل مكان إلى الحد أن الروائح في أمكنة من العاصمة تزكم الأنوف، حتى السفارة الألمانية بقربها كومة نفايات كبيرة وهذا راجع لحالة الجفاف وغياب الماء في طرابلس فهو مشكلة كبيرة حتى أزف الفرج بوصول مياه النهر العظيم إلى طرابلس وقد كُتب لي أن أشهد الاحتفالية.
الشعارات الهواء الذي يتنفسه البلد
تبدو الشعارات الهواء الذي يتنفسه البلد فهو بلد "اللجان الشعبية" ولامركزية الوزارات وهو بلد شعاراتي بامتياز والأغاني تنبعث من الأكشاك تمجد عمل الزعيم في كسر الحصار الجوي وامتطائه الطائرة في رحلة خارجية إلى القاهرة "سافر الصعيد وطار" ويعتمد البلد على العمالة المصرية خاصة في التعليم والبناء والخدمات وبعض العمالة من تونس والمغرب العربي.
ويمكنك أن تجد أفواج العمال المصريين بلباسهم الصعيدي في الساحات العامة ينتظرون مستخدما وكثيرا ما يغضب العقيد من حاكم مصر أو بلد عربي فيطرد العمال هكذا وبكل بساطة.
تمثل ليبيا حالة معقدة لإشكالية البداوة والحضارة وشح الماء، فالمجتمع القبلي والتنوع العرقي والثقافي وخصوصية المكان الأرياف في الجبال والواحات في الصحراء والبدو والتداخل بين العرق الإفريقي والأمازيغي والعربي وعدم قدرة السياسة التي حكمت البلد منذ انقلاب عام 1969 على تمثل هذه التنوعات وصهرها في قالب المواطنة الحقيقية وتجسيد ثقافة ديمقراطية قائمة على التعددية والحقوق والحريات الأساسية والاستفادة من الثروة النفطية في إحداث ثورة علمية وتربوية تراهن على العامل البشري ومسألة التعليم باعتباره المحرر من التعصب الإثني والجهوية والعصبية القبلية.
وليبيا بلد لا يعرف اكتظاظا ديمغرافيا في حين أن عائدات النفط كبيرة جدا مع نهضة عمرانية وصناعية وثقافية تجعل البلد طليعيا في إفريقيا برمتها ولكن تم إفقار البلد من كل هذه الأحلام والرؤى البناءة لصالح ديماغوجيا وضلالات انتهت بالبلد إلى حالة من التردي المزري لا يتناسب مع تاريخه وثرواته الكبيرة التي راحت جزافا وأخيرا الثورة على هذا النظام في عام 2011 وبروز الأطماع الخارجية - قبل الثورة وبعدها- من جهة والاختلافات الإثنية والإقليمية، حيث ظهر بعمق مشكل ليبيا الشرق وليبيا الغرب ولكل جهة محيطها الدولي المساند والطامع في ذات الوقت.
الملك محمد إدريس السنوسي والمجاهد عمر المختار ضد الاحتلال الإيطالي
ليبيا البلد الذي كان مملكة وحكمه الراحل محمد إدريس السنوسي 1983 - 1890 ابن السيد المهدي الذي نشر الدعوة السنوسية في ليبيا وهي اتجاه صوفي ساهم في مقاومة الاحتلال، فقد اتفق الملك السنوسي مع عمر المختار على أن يتولى المختار الجهاد بالسلاح في ليبيا بينما يتولى السنوسي الدعوة السياسية بعد نفيه إلى مصر.
ذلك أن الاحتلال الإيطالي جثم على أرض ليبيا منذ عام 1911 وأبلى المجاهد عمر المختار بلاء حسنا في جهاده مع إخوانه حتى سقط شهيدا في ساحة المحاكمة وهو شيخ طاعن في السن ورثاه أحمد شوقي أبلغ الرثاء وأخلده وصارت تلك الأبيات على كل لسان:
إِفريقيا مَهدُ الأُسودِ وَلَحدُها ** ضَجَّت عَلَيكَ أَراجِلاً وَنِساءَ
وَالمُسلِمونَ عَلى اِختِلافِ دِيارِهِم ** لا يَملُكونَ مَعَ المُصابِ عَزاءَ
شَيخٌ تَمالَكَ سِنَّهُ لَم يَنفَجِر ** كَالطِفلِ مِن خَوفِ العِقابِ بُكاءَ
دَفَعوا إِلى الجَلّادِ أَغلَبَ ماجِداً ** يَأسو الجِراحَ وَيُعَتِقُ الأُسَراءَ
إنجاز عربي غير مسبوق انقلب عليه القذافي
ولما تحرر الليبيون عاد ملكهم السنوسي وأنجز إنجازا عربيا غير مسبوق دستورا من 204 مادة أهم ما فيه أنه يكفل حرية الرأي والفكر والتعبير وحكومة قوامها مجلس نواب منتخب وكان هذا الدستور طفرة سياسية غير مسبوقة في العالم العربي الرازح تحت أثقال الملكيات الثيوقراطية والجمهوريات الاستبدادية.
لكن جماعة الثوار بزعامة معمر القذافي انقلبوا على السنوسي وألغوا الملكية وأعلنوا ميلاد الجماهيرية عام 1969 ومما يروى أن الملك كان في رحلة علاجية لما حدث الانقلاب عليه، وكان تحته عشرة آلاف دولار فسلمها لشخص كان معه لتعود إلى ملكية الدولة الليبية.
ولم يعرف أن الملك كان يمتلك حسابات مصرفية في بنوك الخارج ولا عقارات شأن غيره من الرؤساء والملوك والأمراء العرب، والغريب أن هذه الثورة التي ادعت بناء الوطن محت جزءا من ذاكرة الوطن بمحو شخصية السنوسي من الذاكرة الليبية وطمس تاريخه بكل وحشية وهكذا يفعل كل ديكتاتور يسحق معارضه ويمحي ذاكرته، ليعيش بعدها في المنفى بمصر حيث توفي ودفن بمقبرة البقيع بالمدينة المنورة عام 1983.
كان الملك السنوسي شخصية عربية استثنائية يحفظ القرآن معتدل الفكر والسلوك نظيف اليد هادئ الطبع سليم الطوية عرف بدعمه للثورة الجزائرية وعلى أرض طرابلس عقدت القيادة السياسية والعسكرية للثورة الجزائرية مؤتمر طرابلس عام 1962 لرسم معالم جزائر ما بعد الاستقلال كما حظي الملك باحترام الرئيس أنور السادات له لما كان في منفاه بمصر وكان يسمي خصمه العقيد "الواد المجنون بتاع ليبيا".
"الواد المجنون بتاع ليبيا"
أدى ذلك الانقلاب إلى رمي البلد في حمأة الديماغوجيا والضلالات السياسية والكاريزما الكاذبة القائمة على التزييف وشراء الذمم نتيجة لإحساس زائد بغطرسة الأنا "جنون العظمة " فدفع البلد فاتورة ثقيلة تخلفا واستبدادا وضياعا لماله العام هذا البلد النفطي الذي يرقد على بحر من النفط في حين يعيش الشعب عيشة لا تليق بمدخراته لقد أدت عملية شراء الذمم بالمال الليبي التى بذلت للملوك والرؤساء مقابل تسميات من قبيل "ملك ملوك إفريقيا "ودعم الانقلابات في إفريقيا والعالم الثالث إلى ضياع المال العام الليبي.
ولقد التقيت في جنيف في عام 1997 برجل طيب من "بنغازي" كان يشتغل قنصلا لليبيا في أحد البلدان وجاء إلى سويسرا للعلاج فقد كان يعاني من ورم في الدماغ، لقد قال لي إن أهل بنغازي يكرهون العقيد وديماغوجيته إنهم يمارسون التقية ولو جاءت الفرصة لتخلصوا منه نحن نختلف عن سكان طرابلس لا نصدق الهراء نحن أقرب إلى مصر وإلى الشرق وثقافتنا مشرقية وطباعنا ألين وأهذب، وكان يقصد ما شاع عن المواطن الليبي من فظاظة وانغلاق ومحدودية فكر وهي في الواقع فرية لا أساس لها من الصحة وليست من طباع الإنسان الليبي فهو ودود وشهم وما يبدو من فظاظة نتيجة لغسيل المخ السياسي والخطاب الديماغوجي الذي ضخم أنا الشعب ولم يثمن العمل معتمدا على الثروة النفطية وهي ثروة مجانية وربما من تبعات عدم الاختلاط بالعالم وعد وجود التعليم الاحترافي المبني على أسس علمية صحيحة ومناهج قويمة.
تدشين النهر العظيم ووصول الماء العذب إلى طرابلس
حضرت احتفالات الفاتح العظيم كما يسمى والذي تزامنت مع تدشين النهر العظيم كما يسمى أيضا ولقد كان من الشعارات التي ملأت طرابلس أيامئذ "النهر العظيم للشعب العظيم" خففت سريعا إلى الساحة الخضراء مقر الاستعراض العسكري حيث نصبت منصة شرفية للضيوف وهم حكام أفارقة ومن الضيوف، وحضر كذلك لويس فرخان زعيم "أمة الإسلام" في أمريكا وكان العرض الضخم وسط حشد شعبي كبيرا جدا عسكريا تقليديا للجنود بأسلحتهم ومدرعات عسكرية ودبابات وطائرات ميج 29 وكله سلاح روسي مع دعايات كبيرة وحماسة سياسية للعقيد وللزعيم كما يسمى هناك، وما لفت نظري تمثيلية في الشارع حيث تقود مجموعة من الجنود شخصا ذليلا مكبلا سألت من هذا ؟ فرد أحد الحاضرين: عميل الإمبريالية! وكان مجرد تمثيل.
ثم جرى تدشين وصول الماء العذب إلى طرابلس رمزيا من حنفية عمومية وسط أجواء فرح حقيقية ولقد عانينا أيام وجودنا في طرابلس من مكابدة شرب الماء المالح الأجاج وكنا نعرف أن مشكلة الماء العذب في طرابلس وفي ليبيا مشكلة كبيرة وقد احتفى الناس بوصول الماء العذب إلى طرابلس بعد أن أنجزت المشروع الذي كلف مليارات الدولارات شركة كورية جنوبية فرحنا مع الناس ولفرح الناس فالماء سر الحياة وأقنومها والله جعل من الماء كل شيء حي.
انتهى العرض العسكري لتغص الشوارع بالجنود المستعرضين -وقد جاؤوا من مختلف البلاد الليبية- وهم في حالة من التعب والعرق وربما الملل ووجدتني في ضيق من الأمر ذلك أنني رجل مسالم أحب السلم وأكره الحرب وأمقت كل ماله علاقة بها لذا هربت إلى الشاطئ لأستمتع بنسيم البحر ولأراقب المستحمين وهم ليسوا كالمستحمين في باقي الدول العربية فالحضور النسوي قليل مع الاحتفاظ بآداب الإسلام للمرأة والرجل فأشكال التعري ممنوعة عرفا وقانونا.
ليبيا قدمت للثقافة العربية أسماء لامعة - الصادق النيهوم: الإسلام دين ديمقراطي
قدمت ليبيا للثقافة العربية أسماء لامعة بعضها معروف وبعضها مغبون ولعل من أكبر المغبونين الصادق النيهوم الذي ولد عام 1937 وقد مات بالسكتة القلبية في جنيف بسويسرا عام 1994، مفكر طرح فكرة إعادة قراءة الإسلام لصالح الإنسان العربي الحديث ولصالح القيم الإنسانية التي حملها الإسلام كالحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة والديمقراطية.
ربما يعترض البعض على اجتماع الإسلام والديمقراطية ولكن النيهوم يجيب الجميع أن الإسلام دين ديمقراطي وإن آلية ممارسة الديمقراطية مثلا في فريضة الجمعة فهي برلمان شعبي يناقش مشاكل الحي أي الإسلام الحي المرن الفعال وليست الطقوس فقط التي يطغى عليها الجانب التكراري والحذلقة البيانية والخطابية، ولا تخفى نزعة النيهوم اليسارية في إعادة قراءة الإسلام وفي إنتاج فكر وخطاب إسلاميين معاصرين يجدان الحلول لمشاكل المسلم الحديث ليلتحق بمدنية العصر وثقافته دون أن يتخلى عن دينه.
ولكن النيهوم لا يعجب الساسة والمحافظين وأصحاب المصالح ممن أمات وهج الإسلام وسجنه في طقوسه وسمح بهذا التفاوت الطبقي الرهيب وتلاشي الإنسان لصالح المواطن الرقم في الكتلة الانتخابية أو الرعية التي تدعو في صلواتها بطول عمر الحاكم وحكمه الرشيد، وقد ترك النيهوم مجموعة من الكتب لعل أشهرها "الإسلام في الأسر" وكتاب "إسلام ضد الإسلام" و"فرسان بلا معركة".
ولم يكن حظ الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه (1942 - 2019) مثل حظ النيهوم فمؤلفاته حظيت بانتشار عريض في الساحة العربية ويعد كاتبا مرموقا وهو يجسد مرحلة ازدهار السرد في ليبيا وعرف بثلاثيته "سأهبك مدينة أخرى" وأطول رواية عربية "خرائط الروح "إضافة إلى "البحر لا ماء فيه" حيث يصور الفقيه مأزق الاستعمار وتقاطعات التاريخ والمكان وإشكالية المثاقفة والآخر الغربي مع الاحتفاظ بالبعد الأسطوري والثقافة الليبية الخاصة، ثقافة الصحراء والواحات والمدينة وإشكالية التحديث والهوية.
أحمد إبراهيم الفقيه – حالة المثقف الإشكالي في تعاطيه مع السلطة
ويمثل الفقيه حالة المثقف الإشكالي في تعاطيه مع السلطة فهو كان من جماعة القذافي وأصدر دراسات نقدية لقصص القذافي ثم ما لبث أن هاجمه بعد سقوطه ووصف كتاباته بالهراء ووصفه بالديكتاتور، وعلل سبب نصرته له بأنه الخوف والهاجس الاستخباراتي وهذه حاله وحال عامة المثقفين في ليبيا.
حتى الكوني كان عضوا في لجنة تحكيم جائزة القذافي تلك الجائزة التي كان من أعضائها أيضا جابر عصفور وتلقت صفعة من لدن خوان غويتيسلو لما رفض جائزتها.
لاشك أن الفقيه استفاد من نظام القذافي وعن طريقه استكمل دراسته في أدنبره وعمل سفيرا في بوخارست وأثينا وظل بوقا دعائيا للعقيد ولثورة الفاتح العظيم ولكنه في أدبه ابتعد عن التهريج السياسي واحتفظ بروح الأديب والسارد الذي كتب ملحمة النضال الليبي وتقاطعات الزمان والمكان وخصوصيات البيئة بمركباتها الأسطورية والعاطفية والثقافية وهم التحديث والعلاقة مع الآخر، وهذا هو الجانب الباقي فيه والذي له قيمة أما نصرته للعقيد فهي مرحلة طارئة فتمثل حقا الجانب الإشكالي في علاقة المثقف العربي بالسلطة الشد والجذب أو المهادنة والتقية أو الهجوم.
إبراهيم الكوني نقل إلى العالم العربي والغرب ثقافة الصحراء
كما انتشرت مؤلفات إبراهيم الكوني 1948 الذي نقل إلى العالم العربي ثقافة الصحراء. فالكوني الطارقي الوفي لقيم الصحراء نقل إلى الأدب العربي تقاليد الصحراء وأبجديات حياتها بل إلى الغرب فهو رسول الثقافة الصحراوية إلى العالم عبر مؤلفاته:" رباعية الخسوف"، "جرعة من دم"،" التبر" "نزيف الحجر" وغيرها من الأعمال السردية. وقد تزامنت معرفتي بإبراهيم الكوني مع مخالطتي لطوارق الصحراء الكبرى زمنا يسيرا وعرفت قيمة الماء في الصحراء "والعلامات" تلك الإشارات التي ترشدك في الصحراء حيث الاتجاهات جميعا متشابهة والمدى أفق مفتوح على المجهول والشمس كراهب بوذي في صفحة السماء لا ينفك يعلمك معنى الصبر والثبات والحيطة.
إن محور الحياة في الصحراء ثنائية الموت والحياة الري والعطش الجوع والشبع ومناط الأمر كله مشيئة الله واهب الكل. فالطارقي مؤمن فطريا ومؤمن بوحدة الوجود دون أن يعرف كيف يسميها، فكل حيوان له الحق في الحياة وله قداسة وكل ما في الصحراء ليس عبثا وليس مجرد شيء زائد والزمن في الصحراء لا يقسم إلى ساعات ودقائق وثوان بل هو الظل واللهيب والليل والنهار ثم هو زمن المطر والكلأ وفيضان الوديان الجافة والتي من الممكن أن تتلف حياتك والشمس مشرقة وعلى هذه العطية الطبيعية تجري حياة الطوارق المستلهمة الثبات والأمل من لدن الله واهب الحياة والماء. إنه زمن مفتوح واسع المدى مثل الصحراء لذا لا يشعر البدوي بالضيق ولا بالقلق و"أمراض المدينة" بامتياز.
إن اتساع الصحراء وقسوتها علمتهم أن يثقوا بالله ويطلبوا منه الماء ولأن الصحراء مهلكة فالضيافة واجبة، إنها تقليد مبدئي يحمي به الناس أنفسهم من الموت عطشا وجوعا، إنه عقد ضمني بالتراضي بين جميع سكان الصحراء دفعا للهلاك وللبدو أساطيرهم لتفسير الحياة والعالم: عالم يتعايش فيه الدين والسحر والجن والكهانة والخبرة الحياتية جنبا إلى جنب فهم شعب الأساطير بامتياز وشعب الحميمية وشعب السكينة والضيافة حياة مكتملة بذاتها لا تريد تحسينا ولا زيادة.
هكذا هي الصحراء في ليبيا والمغرب العربي عموما لكل شيء في الصحراء طقوس الحياة والموت وحتى جلسة الشاي إنها طقسية كثيرا كما أن موسيقاهم ولباسهم التقليدي وسمرهم المختلط رجالا ونساء يعكس جانبا من نظرتهم إلى حياتهم وخبرتهم بالجانب الروحي في الموسيقى وإيقاعاتها التي تضفي على الروح نشوة وصفاء وسكينة.
أدب إبراهيم الكوني أدب إنساني يعرف الآخر المتمدن في الشرق والغرب ثقافة البدو في الصحراء وقيم حياتهم ومفرداتها النباتية والحيوانية والغذائية والمعيشية والجغرافية والأسطورية والعاطفية والثقافية وهي دفاع عن حق في الوجود وإغناء للحضارة الإنسانية .
الصحراء الليبية إحدى أكبر وأشرس صحاري العالم
الصحراء الليبية شاسعة إنها إحدى أكبر صحاري العالم وأشرسها ظرفا معيشيا وهي صحراء غنية بالنفط بلا شك ولكنها مليئة بالصعاب، كيف تجمع الطوارق على تجمع مدني: يلتحق الأطفال بالمدارس وتُبنى المستوصفات العلاجية في كل تجمع ويجد الناس العمل إيذانا بدخول الحياة الحديثة، وكيف يتخلى كل واحد عن عصبيته لقبيلته ومذهبه ولبعض العادات التي تعيق الاندماج في فضاء المواطنة؟
لكن الحياة الطارقية حياة مكتملة بذاتها ولا تطلب مزيدا، كثير من الشرقيين والأوروبيين لا يفهمون ذلك، يعتبرون البدو همجا دبغت جلودهم الشمس وأكل أعمارهم الاتساع والفراغ ونحتت أرواحهم الرياح الصحراوية: فكانت مثل الساعة الرملية تشير إلى الوقت دون أن يكون هناك معنى للوقت، ومادام البدو لا يستكينون إلى القانون المدني وسلطة الدولة فهم بلا شك خارج الحضارة والتمدن وفي ذلك ظلم كبير.
كل حضارة تابعة للمكان وخصوصياته التي نشأت فيه
ومنذ زمن كتب كلود ليفي ستروس أن الحضارات بنيات مغلقة لا يجوز تفضيل حضارة على أخرى لأن كل حضارة تابعة للمكان وخصوصياته التي نشأت فيه إنما تكمن المفاضلة في العلم أو السياسة أما الحضارة فكل حضارة مكتملة بذاتها.
تعيش ليبيا اليوم مخاضا عسيرا وقد انقسمت فرقا وشيعا وكل فرقة تتبع جهة خارجية. فليبيا من دول حوض البحر المتوسط وواجهته الممتازة عليه، وهي أرض شاسعة وغنية جدا بمختلف الثروات -والنفط والغاز على رأسها- فهي مطمع لكل الدول ولكل الشركات، كما أن الاستثمارات والمنشآت الاقتصادية والسياحية والبنى التحتية المزمع إقامتها مستقبلا على أراضيها تسيل لعاب كل الشركات العالمية.
فمن سيكون له يد في ليبيا سيكون له يد في اقتصاديات البحر المتوسط ولذا نفهم سبب القلق العالمي والتدخل الدولي السافر في شؤونها مما ربما سيصعب حظوظ ليبيا وفرصها في بناء الديمقراطية واستكمال المؤسسات وتوفير الحياة الكريمة الرغيدة للشعب الليبي الجدير وحده بثروات وطنه.
إبراهيم مشارة
حقوق النشر: إبراهيم مشارة / موقع قنطرة 2020
[embed:render:embedded:node:40445]