موسيقى حديثة متجذرة في تراث تركيا
كلما استمع المرء أكثر إلى موسيقى البوب التركية، بدأ في التعرّف أكثر على التأثيرات التي تتداخل في كل تسجيل. وفي حين أنّ هناك تشابهات بين بعض الفنانين والفرق الموسيقية، إلا أنّ كلّاً منهم يستخدم طابعه الفريد وصوته المميز على الموسيقى.
وفي أحدث إصدار لفرقة ألتن غون، ألبوم "عشق"، استخدموا حبّهم للموسيقى السايكدلية الحديثة، التي تشمل الغيتارات والأورغ الكهربائي، لإنشاء نسخ فريدة من 10 أغانٍ شعبية تركية تقليدية.
وربما منحتهم إقامتهم في أمستردام المسافة اللازمة للتأمل في الموسيقى من دون تحيّز، وبشكل خالٍ من أي مفاهيم مسبقة حول كيف ينبغي أن تكون الأغاني. أو ربما الفرقة مستعدة للتجربة فحسب. ومهما كان السبب، فإنّ النتائج مذهلة. فباستخدام مجموعة متنوعة من آلات تقليدية وحديثة، ابتكروا موسيقى رائعة ومتقنة.
مزيج غريب من الأساليب
كانت ألبومات فرقة ألتن غون السابقة عبارة عن مزيج غريب من الأساليب، تبدأ من الموسيقى السايكدلية الشعبية إلى موسيقى الرقص الإلكترونية بالكامل تقريباً التي ميّزت الإصدارين الأخيرين للفرقة.
ويبدو أنّه في ألبوم عشق الأخير، اتّحد الأسلوبان بطريقة جميلة، إذ تستخدم الفرقة كل ما بمقدورها لخلق مزيج آسر من الصوت الذي يأخذ المستمعين في رحلة غريبة ورائعة.
وقد عمل وعزف أعضاء الفرقة، كريس برونينغ (إيقاع) ودانييل سمينك (درمز/طبول) وإردينتش إيجيفيت (غناء وباغلاما/ساز ومُركِّب) وجاسبر فيرهولست (باس ومُركِّب) وميرفي داشديمير (غناء ومُركِّب) مع ثيجس إلزينجا (غيتار)، بوئام تام لإنشاء موسيقى سلسة ورائعة.
سواء أكانت الأصوات الإلكترونية الراقصة للأغنية الافتتاحية للألبوم "بادي صباح أولمادان" Badi Sabah Olmadan أو اللحن الأكثر تأملاً في أغنية "غوزيلين أون پارا إتمِز" Guzelligin On Para Etmez / ما كان جمالك يساوي قرشاً"، فإنّ الفرقة تعزف دائماً بقوة وبمستوى عال من الحرفية.
وبما أنّ الكلمات باللغة التركية، فسيتوجب على غالبية المستمعين تخمين المشاعر التي تعبّر الأغاني عنها بالاستماع إلى أصوات المغنيين، وليس إلى الكلمات. وهذا أيضاً يزيد العبء على العناصر الآلية للأغاني. ولحسن الحظ، فإنّ كلا المغنيين يُظهران نطاقاً عاطفياً عميقاً بشكل لا يُصدّقُ كما تتميّز الفرقة بموسيقيين موهوبين بالقدر ذاته.
راسخة في الثقافة التركية
وما يجعل هذا الألبوم رائعاً للغاية، أنه على الرغم من الموسيقى التي تبدو حديثة، إلا أنّ الأغاني في الألبوم راسخة بعمق في الثقافة التركية. ومن الممكن معرفة مؤلفي ثلاث فقط من الأغاني: "ليليم لي" Leylim Ley (كلمات صباح الدين علي وموسيقى زولفو ليفانلي)، "غوزيلين أون پارا إتمِز" Guzelligin On Para Etmez (العاشق فيصل) و"دكتور جيفانيم" (أحمد غازي أيهان)، في حين أنّ الشعراء الذين كتبوا الأغاني الأخرى قد فُقِدوا مع الزمن.
ومن بين هذه الأسماء، فإنّ ليفانلي هو الوحيد الباقي على قيد الحياة ويمكن القول إنه الأكثر شهرة. فهو كاتب وملحن بارع، كما أنه ناشط سياسي وثقافي. وقد أُجبِر على المنفى في أوائل السبعينيات خلال فترة الحكم العسكري في تركيا ومن ثم كان عضواً في البرلمان في بداية القرن الحادي والعشرين. واليوم، ربما يكون أحد أكثر المؤلفين مبيعاً في البلاد، إذ بيعت أكثر من 7 ملايين نسخة من كتبه خلال السنوات الأربع الماضية. أما فيصل وأيهان فليسا على قيد الحياة، ولم يُظهر البحث السريع على غوغل أي شيء باللغة الإنكليزية عن الأخير (رغم وجود الكثير باللغة التركية).
أما صباح الدين علي، الذي كتب كلمات أغنية "ليليم لي"، فقد كان كاتباً وشاعراً بارعاً في النصف الأول من القرن العشرين. وعلى الرغم من وفاته في سن مبكرة، يُعتبر مؤلفاً مؤثراً للغاية. ومن المثير للاهتمام أنّ أعماله اعتُبِرت ثورية في ذلك الوقت، وهذه الأغنية على وجه الخصوص غُنّيت عدة مرات وبأنماط مختلفة، حتى أصبحت أغنية حب شائعة.
وكان ليفانلي أول من يضبط الأغنية على الموسيقى، ونتيجة لذلك ارتبطت الأغنية به. والكلمات مأخوذة من قصيدة كتبها علي في قصة قصيرة نشرها في عام 1937. ورغم أنها ليست معروفة بشكل جيد خارج تركيا، لا يزال من الممكن العثور على ترجمات إنكليزية للقصيدة. والكلمات الجميلة للغاية تتحدث عن مشاعر المؤلف لمن يحبها وعن منفاه بعيداً عن الوطن. "تحولت حياتي من ربيع إلى خريف/يا سهر الليل دمرني وكسرني/سلب ما بقي مني وبعثرني/لملاقاة حبيبتي أوصلني".
وبالاستماع إلى أداء ألتن غون، يندهش المرء من الطريقة التي تمكنت بها الفرقة من البقاء وفية لمشاعر الأغنية أثناء إنشائها لسياق موسيقي جديد تماماً للكلمات. كما ينقل المغنيان إيجيفيت وداشديمير المشاعر المتأصّلة بحساسية فاتنة. في الواقع، تُعتبرُ هذه الأغنية مثالاً ممتازاً على مدى نجاح الفرقة في دمج أسلوبها مع كلمات الأغاني التقليدية.
قلب ينبض
بالاستماع إلى كل الأغاني العشر، سيكون من المستحيل عدم الإعجاب بها. لا تنشئ الفرقة نسخاً رائعة من أغانٍ قديمة فحسب، بل تثبت أيضا أنّ بإمكانها إتقان أنماط متعددة من الموسيقى الحديثة ببراعة رائعة، من الأصوات الكلاسيكية للموسيقى السايكدلية التركية لسبعينيات القرن الماضي إلى إيقاعات الرقص الإلكترونية ومزيج من كليهما، نسختهم الفريدة من موسيقى الترانس والهاوس (من أنواع موسيقى الرقص الإلكترونية).
ومع ذلك، لا يسمحون لأنفسهم بأن تجرفهم الإلكترونيات. فهناك قلب ينبض تحت المُركِّب: يمكن سماعه في كل نبضة خفية من إيقاع أو صوت أوتار الباغلاما تخترق النسيج الصوتي الذي تنتجه الآلات الأخرى. تمكّنت فرقة ألتن غون في هذا الألبوم من تحقيق المفاجأة، فدائماً تستخدم الفرقة هذه اللمسة الصغيرة التي تجعل الأغنية فريدة من نوعها ومختلفة عن أي شيء آخر تقريباً قد تسمعه.
ألبوم عشق مثال رائع لكيفية التقاء الماضي والحاضر في انسجام تام لخلق تجربة موسيقية فريدة ومنعشة. استمع واستمتع. قد يقيم أعضاء فرقة ألتن غون في أمستردام، لكن قلوبهم وأرواحهم راسخة في تاريخ الموسيقى التركية.
ريتشارد ماركوس
ترجمة: يسرى مرعي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023